}
قراءات

قصص لبنانية قصيرة.. عن الهوية والوقت وأشياء أخرى

أحمد محسن

1 ديسمبر 2020
ما يحدث في الخارج يحدث في الخارج، لكن ما يحدث داخل الأدب فقط يحدث في كل مكان. تبدو هذه الجملة أقرب إلى نثر مبالغ فيه منها إلى فرضية ثابتة. لكن تطور القصة القصيرة في لبنان، ربما يدل على حاجة الكتاب أخيرًا لاستخدام جميع الأشكال المتاحة للأدب، لأن ما يحدث كثير جدًا أحيانًا على رواية. أيضًا، لأن كلا منهم لديه أسبابه في النهاية ليعلن ما يريد إعلانه، كما يريد إعلانه. في ثلاث عينات للقصة القصيرة اللبنانية، لكاتب لبناني متجول، وكاتب فلسطيني/ لبناني مهاجر إلى الغرب، بالإضافة إلى كاتبة بيروتية تتحدث مجموعتها القصصية باسم الطبقة الوسطى، سنجد الكثير مما قد لا يتسع في رواية لكل منهم: معادلات بشير عزّام الصعبة عن الوقت، نكات مازن معروف وألعابه، وهواجس جنى نصر الله. هذا الكثير، ليس منقطعًا عن الحاضر العربي عمومًا، واللبناني خاصةً. أما بالنسبة لكيفية سرد هذا الحاضر خارج التقليد الروائي، فربما يكون عزّام على حق، في أن القصص تكون قصيرةً لأن الزمن أقصر من نفسه، أو ببساطة "نظرًا لضيق الوقت".

 

معادلات بشير عزّام

يتخفف بشير عزام من التاريخ، ويدعو التاريخ إلى التخفف من نفسه: "عاد بي إلى ألمانيا الثمانينيات: وصلت ميونيخ أوائل فبراير ذلك العام (1983). أذكر أن غيمة قزمة كانت تطاردني، تمطر عليّ وحدي كيفما تجولت في شوارع المدينة". شيء ما يحدث في رأسه، أو فوق رأسه، شيء يحدث مع الذين هم على عجل، وهذا ما يفسّر عنوان مجموعته القصصية بأسرها: "نظرًا لضيق الوقت" (دار نوفل، 2020). الانطباع الأول، هو أن المجموعة كانت يمكن أن تكون رواية واحدة، لأبطال متعددين. لكن، سيتبين سريعًا أن الأمر اقتضى الفصل ببين القصص القصيرة، مثلما تنفصل المعادلات عن بعضها البعض، وتجتمع في وحدة الوجود. الوقت ليس كافيًا لهذا العالم، أو أن العالم بالتحديد هو الذي يركض خلف الوقت. الأدب نقيض المعادلات الرياضية ومكملها، لكن لديه أدواته الدالة على قسوتها: "لطالما نبحت الحياة في وجهه، ومن مسافة قريبة جدًا بشكلٍ يثير الرعب، كاشفة عن أنياب ناصلة سيل من بينها لعاب لزج، نابتةٍ من فك عدواني في وجه مليء بالشعر المليء بدوره بالبراغيت. لمَ الرعب؟"
يعتقد الكاتب أن العالم متتابع، متسلسل، ولا يتوقف. العالم مثل السرد، لا ينتهي، وأشبه بمعادلة قابلة للاتساع، فإما أن يكون عبارة عن معادلات قابلة للاجتماع لتكوين "رواية واحدة" وناتجة عنها، وإما أن يكون هو الأصل، وقد تشظت عنه "قصص قصيرة". في مجموعته، يرسم معادلات وهمية بنفسه، للتأكيد على معنى "المعادلة" في العالم، وعلى اللا معنى فيها، والعلاقة بينهما، كعنصر يكمل الآخر، وكآخر يكمل المعنى دائمًا. وربما لذلك، اختار أن يجرّب إضافة المعادلة إلى السرد، تارةً برسمها رسمًا يتأرجح بين العبثية، وبين جدية الاعتراف بوجود معادلات تحكم العالم، وتارةً أخرى بكتابتها: "قراءة هيغل هي الخطوة الأولى والإجبارية لتجاوز الحاجة إلى قراءة هيغل نهائيًا، التاريخ لا يكرر نفسه، بل يستمر وحسب".

 

يتخفف بشير عزام من التاريخ، ويدعو التاريخ إلى التخفف من نفسه

بمعزل عن الشروحات الأدبية التقليدية التي تدعي التمييز بين نمطين أدبيين، أو بين أداتين أدبيتين كالرواية والقصة القصيرة، يمكن التأكيد على استحالة حضور أركان العالم جميعها في رواية، كما يستحال أن يحضروا أيضًا في قصص منفردة تلتقي في مجموعة. لكن الكاتب يستعير لكل قصة من قصصه الصغيرة مقطعًا من شكسبير، الذي لا يمثّل ماضيًا في الأدب، بل على العكس تمامًا، يمثل الأدب تأكيدًا على أن الزمن لا ينقطع، لشدة حدوث القصص وتواليها. أحيانًا يميل إلى السخرية من الحداثة، ولكن بأدواتها تحديدًا: "لا تجزع: الحياة مثل لعبة الكاندي كراش. كلّما أنهيت مرحلة صعبة، أتتك مرحلة صعبة أخرى". غالبًا يسمح له هذا الفصل بتقطير شخصياته نقطة نقطة في بحر السرد العميق بدون التقيد بحسابات الحبكة وشروطها التقليدية، ولذلك سنجد هيغل وشكسبير والريفيين والعمال والتلامذة وسعيد ويمنى والآخرين، جميعهم عالقون في معادلة واحدة: الوقت.

 

نكات مازن معروف


يفرد مازن معروف لنفسه مساحة محددة وخاصة، لكي يفعل بها ما يشاء. يتفرغ
للوصف، وللسرد وفق معاييره هو، وليس وفق معايير خاصة.




قصص مازن معروف مشبعة بالتفاصيل. في مجموعته الأخيرة "نكات للمسلحين"، (الكوكب، رياض الريس للطباعة والنشر، 2015) يحب إخراج الأرنب من القبعة، وتتخيله مبتسمًا بعد نهاية العرض. مثل جميع القصص المتماسكة، والتي تنسج بالسنانير، كان يمكن لتلك القطع أن تكون قطعةً واحدة، لولا إرادة الكاتب نفسه بتحديد مساحات التقاطع والافتراق. أحيانًا، يبدو مستسلمًا لكل بطل من أبطاله وأحيانًا يتدخل بأسمائهم للتأكيد على أهمية الجمع، أو القسمة، حسب الظروف المناسبة: "أحيانًا أنام على الصوفا، متخيّلًا أن التلفزيون يعمل وأنني أرى كل القنوات فيه دفعةً واحدة. لا أعرف كيف، لا بد أن هناك طريقة لترى كل القنوات في التلفزيون دفعةً واحدة. ثم يعود أخي من الشغل، يأخذ من يدي الصابونة ويقول لي: هذا ليس ريموت كونترول، بصوت عال وبطيء".
يفرد معروف لنفسه مساحة محددة وخاصة، لكي يفعل بها ما يشاء. يتفرغ للوصف، وللسرد وفق معاييره هو، وليس وفق معايير خاصة. لا يوجد في قصصه ما يبعث على الدهشة، بل تقيم الدهشة فيها بوصفها تعبيرًا يمكن استعارته لتفسير الحياة في مكان يزدحم بالتفاصيل، وبوصفها أوضح تمثيلات الموقف من الهوية، عندما تتحول الأخيرة إلى "مجرد أدب". صحيح أن نصوص معروف القوية تبدو في غاية الصدق، إلا أن انتزاع صفة العرض والاستعراض منها سيكون مجحفًا، لأنها في النهاية قصص قصيرة عن عمد، يحتاج فيها الساحر إلى فاصل بين كل عرض. وهكذا، يلتقط مازن معروف أنفاسه بين القصة والقصة، مثلما تتأرجح هويته بين فلسطين ولبنان ومهجره الأيسلندي. في النهاية، ليس الحقل المعجمي الثري وحده هو ما يجمع ألعابه، بل هناك تأكيد آخر عير معلن على تفوق الوقت على الشعور بالوقت. يستدرك مازن معروف ويحاول أن يستدرك. يلقي قصصًا من باب الاعتراف، ومن أجل التخلص من عبء وجودها في رأسها: "بيّاع السحلب كان جاسوسًا. يأتي إلى المدرسة مرتين في اليوم. أصلع بالكامل. قصير القامة ولا ذقن له. بشارب رفيع فقط. ويرتدي جزمة زبال. ما جعل أولادًا كثرًا يتجنّبون شراء السحلب منه في المدرسة". يلقي قصصًا أخرى ضدّ الوقت، يلقي نكاته ويهرب ضاحكًا.

 

هواجس جنى نصر الله

في مجموعتها القصصية الأولى "ترف الهواجس" (دار نوفل، 2020) تخاطب جنى نصر الله مجموعة أخرى من القراء اللبنانيين والعرب. ولا توارب في ذلك، فهي تقول في مقدمة المجموعة إن هذه القصص حدثت فعلًا، في "مجتمع الطبقة الوسطى". وإن كان الحديث عن "طبقة وسطى" وسلوكها قد صار سببًا لكثير من الأسئلة حديثًا في لبنان، لاتضاح هشاشة هذه الطبقة بعد صعود الأزمة الأخيرة من قعر المجتمع إلى واجهته، فإن نصوص نصر الله تعيدنا إلى تصورات نوستالجية سابقة عن التعريف: "تحلم روان بالعيش في إحدى بلدات الريف الأميركي. كلما شاهدت الأفلام التي تجسّد الحياة هناك، حسدت أبناء تلك البلدات هناك، تمنت العيش بينهم، ورغبت في أن تكون واحدةً منهم: تنتقل على دراجتها الهوائية، تحيي الجميع ويردّون لها التحية، تذهب مساءً إلى الحانة التي تعرف جميع روادها". يشبه هذا، كنموذج يتقاطع مع قصص المجموعة عمومًا، إلى حد بعيد، أفكار الطبقة الوسطى اللبنانية أو العربية، عن حياة متخيّلة في الغرب، كبديل عن حياة محلية لم يعد التفوق فيها ممكنًا على أساس طبقي. بهذا المعنى، يصير العنوان صائبًا كالشمس، ويصير الترف صفة الطبقة الوسطى، ملازمًا لصفة تعد من مكونات هذه الطبقة، وهي الهواجس، أو بعبارة أخرى القلق من خسارة الترف.
على النقيض من التجارب المذكورة آنفًا في القصص القصيرة، لا تبدو الكاتبة مستعجلة، بل تملك الكثير من الوقت، يحسب لها أنها تنجح في توزيعه بين الحقيقة من زاوية طبقية معينة، وبين الخيال من ذات الزاوية أيضًا. اختارت مفردات بسيطة، وضاعفت التأسيس لمتن كل قصة، لكي لا تفلت الأحداث، لذلك سنجد جملًا في غاية الوضوح، تظهر أهمية الوقت ولكن وفق حسابات عملاني صرفة: "كانت أمام خيارين لا ثالث لهما: إما نجار يتقاضى أجرًا مقبولًا ولا يصدق في مواعيده، وإما نجار يبالغ في أسعاره ولا يخطئ موعدا". وإذا كان لدينا كعرب تصورات عن تصورات الطبقة الوسطى لنفسها، فإن سلوك بطلات وأبطال قصص جنى نصر الله، حيث حدثت هذه القصص، لن يبدو مفاجئًا. في المجموعة السريعة، قد يفاجأ القارئ أحيانًا ببعض النهايات، ولكنه غالبًا يستطيع أن يجاري الكاتبة في رحلتها، كما يحدث عندما تقول: "ثم أخذت نفسًا عميقًا من سيجارتها التي أضاءت عتمة السيارة للحظات قبل أن يعمّ الظلام من جديد".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.