}
قراءات

عزمي بشارة.. نحو تأسيس مفهومي للظاهرة الشعبوية (3/3)

حسام أبو حامد

6 يناير 2020
يعتني عزمي بشارة في جهده البحثي عناية خاصة بتعقّب مفاهيم مُشكّلة، في دلالاتها وفي تفاعلها مع غيرها من مفاهيم، تتعلق بشكل جدلي بالراهن العالمي، ولها خصوصيتها في الراهن العربي. أما منهجه في البحث، فيستند إلى تفكيك المفاهيم الراهنة باعتبارها قضايا نشأت في مسارات تاريخية، وتأسست في سياقها.

وفي إحدى محطات مشروعه الفكري المستمر؛ كتابه «في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟» (بيروت/الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تشرين الثاني/نوفمبر 2019)، يُسائل بشارة مصطلح الشعبوية، الذي حظي بانتشار واسع من دون أن يحوز دلالة واضحة. وهو محاولة منهجية أراد منها مؤلفه: «تفسير ظاهرة الشعبوية والإسهام في تطوير مفهومها، حيث أصبحت موضوعاً ملحاً في الآونة الأخيرة، مع رواج استخدام مصطلحها في الإعلام والأوساط الأكاديمية، ولا سيما في وصف حركات يمينية نشأت وانتشرت خارج الأحزاب المعروفة وسياسيين جدد برزوا وصعدوا من خارج المنظومات الحزبية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وسؤال العديد من المهتمين عن معناه، وهل من مفهوم محدد للظاهرة؟» (المقدمة ص 11).

هنا جزء ثالث وأخير من مراجعتي لهذا الكتاب:

قدمنا مع بشارة، في الجزء الثاني من هذه المراجعة، أن احتكار تمثيل الشعب، واعتبار الخصم خارج هذا الشعب، ينتجان خطابا إقصائيا، يمهد لاستهداف الشعبوية المؤسسات الوسيطة مثل الأحزاب والصحف، وصولا إلى البرلمان ذاته، ووضع الثقة بقائد يتفاعل معه الشعب مباشرة من دون وسطاء، ويدعي أنه يتمثل هموم الشعب ويمثل إرادته. هذا الانقسام الهوياتي بتجاوزه التنافس على فهم الصالح العام، إلى صراعات بين مصالح قطاعية فحسب، يدفعنا إلى مغادرة السياسة نحو الحرب والإلغاء، وإما العودة بها إلى القبلية الاجتماعية التي لا تتيح سياسة تعددية تداولية، بل تقود في أفضل الحالات إلى محاصصة على الدولة.
يوضح بشارة أن ذلك يجري في فضاء تواصلي شبكي يتجاوز الهرمية، ويتيح التواصل مع السياسيين من دون وسائط الأحزاب والصحف الحزبية والمؤسسات الإعلامية، حيث المجال متاح لمخاطبة الغرائز ونشر الأكاذيب.


الفضاء الشبكي: شخصنة السياسة ووهم التمثيل المباشر
يتيح الفضاء المذكور، الذي وفّرته وسائل التواصل الاجتماعي المتحررة من رقابة الحكومات، توسيع مجال حرية التعبير والحصول على المعلومات، لكنه في المقابل يتيح أيضاً تحوّل المزاج الى رأي لا يستند على المعلومة، فينتشر الكذب والشائعات والتعبير بحدة عن المشاعر بما فيها مشاعر الكراهية، وردّات الفعل عليها، إلى جانب تذرير العلاقات الاجتماعية. وخلال هذا التواصل، الأفقي متعدد الأطراف، يتم إحكام الرقابة على المستخدمين وانتهاك خصوصيتهم واستخدامها لأغراض سياسية.
هذا التواصل يخلق «بيئة مؤاتية لنزعة قائمة في الشعبوية هي التواصل مع القيادة السياسية التي تمثل النزعات الشعبوية وتستثمرها، من دون المرور بالمؤسسات الحزبية والمؤسسات الوسيطة الأخرى التي قد تعقلن الخطاب بالحوار والتداول العقلاني، وبنزعاتها البيروقراطية البراغماتية» وعبر فاعلين متعددين في هذا الفضاء، تتم إعادة خلق المزاج والمشاعر وليس اكتشاف الحقيقة أو فهمها، فليست الشعبوية مزاجا شعبيا فحسب بل أيضا «قائمة في الإعلام والسياسة والمؤسسة الأكاديمية. وينشأ الخطر على الديمقراطية حين تلتقي هذه التيارات المختلفة، ويستثمرها سياسيون مغامرون وأيديولوجيون شموليون، ورجال أعمال فاسدون قرروا ولوج المجال السياسي مباشرة مع توافر إمكانية المخاطبة المباشرة للجمهور» (ص 66- 67).

مخاطبة الجمهور مباشرة، كما يبين بشارة، تخدم الشعبوية، بتجاوز المؤسسات التي تمثل الشعب والتشكيك فيها، فثمة علاقة بين فكرة الديمقراطية المباشرة (ممثلة في اتخاذ القرارات في الاستفتاءات وغيرها في مقابل الديمقراطية التمثيلية)، والشعبوية اليمينية الأوروبية الداعية إلى استفتاء الشعب مباشرة (فيما يتعلق مثلا بالموقف من الاتحاد الأوروبي والهجرة)، إذ تتيح لهم مخاطبة غرائز ومشاعر الناس بعيدا عن أي حوار عقلاني حقيقي، وتوكل لهم صنع القرارات في قضايا تحتاج إلى خبرة ومعرفة في أسباب أي قرار ونتائجه. يوفر ذلك للشعبوية إملاء سياسات جاهزة على جمهور ينبغي أن يصوت عليها بـ «نعم» أو «لا» (1).
لكن هل معنى ذلك أن هناك تطابقا بين الشعبوية والاستفتاء؟
لا يرى بشارة أن هناك دائما تطابقا عاما بينهما، فمثلا، ورغم أن نظام الاستفتاءات في سويسرا ذو نتائج محافظة عموما، إلا أنه ليس مجرد حلبة لاستثارة عواطف الجمهور ومخاطبة غرائزه، بعد أن أصبح منظما ومقننا، يوازيه نظام الكانتونات.
الفضاء الشبكي ومنصات التواصل الاجتماعي سمحا بالتواصل المباشر مع الناشطين وقادة الأحزاب، لكن ذلك لم يحل مشكلة الاغتراب كما يعتقد الشعبويون وغيرهم، بل جعل السياسة شخصية أكثر من أي يوم مضى، وأنتج وهماً لدى الناس بقربهم من الساسة الشعبويين، وحاصر وضيّق مساحة الحوار العقلاني القائم في مؤسسات مثل الأحزاب والمحاكم والإعلام التقليدي، وأضعف آليات ضبط تصرف الحكام باسم الأغلبية. يؤكد بشارة أنه لا يوجد تمثيل مباشر كما تتوهم الحركات الشعبوية، فكل تمثيل هو غير مباشر ولكن «ثمة أنواع من التمثيل غير المباشر تزعم أنها وحدها الناطقة باسم الشعب، وتدعي لنفسها سلطات لا يستحقها غيرها ممن لا يمثلون الشعب مباشرة، وفق المنظور الشعبوي. فهذا التواصل المباشر بين القائد والقاعدة الشعبية دون أجسام وسيطة هو تواصل خطير، لأنه يقود في النهاية إلى منع التعددية أو اعتبارها فائضا عن الحاجة» (ص 40- 41).

تتيح الديمقراطية التمثيلية الحرية والتعددية والمعارضة لكن مبدأ الشعبوية هو الجمهور الذي يدعم القائد في قراراته. ومع ازدياد تأثير «النيوميديا» عموما وارتفاع نسبة التعليم ترتفع حالة عدم الرضا الشعبي نتيجة لازدياد حاجات الناس وتنوعها، عدا مشاعر الإحباط بسبب المظالم المختلفة وعدم الرضا عن السياسات. يحدث هذا برأي بشارة في الدول السلطوية والدول الديمقراطية على حد سواء، وفي بعض الحالات، تعكس زيادة المشاركة الشعبية عبر تأييد شعبويين يمينيين من خارج أطر النظام ومؤسساته، انتشار الشعور بالاغتراب عن السياسيين، والشعور العام بعدم المشاركة يصاحبه الخوف على مستوى المعيشة ونمط الحياة من التطورات الاقتصادية السلبية، ومن الهجرة التي تُعرض بأنها مصدر للمتاعب الاقتصادية والصرف من ميزانية الدولة على حساب دافع الضرائب، في ظل تشويه الإعلام  لصورة المهاجرين بوصفهم، زورا، مصدر تصاعد الجريمة، وفي بعض الحملات مصدر تهديد الهوية.
علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أيضا التعرض لدعاية قوى ديماغوجية تطرح حلولا سهلة وشعبوية تعبّر عن ضيق ببطء إجراءات الأنظمة الديمقراطية، وتخاطب الغرائز ضد «الآخر» ولا سيما المهاجرين. تحوّل الديماغوجيا الشعبوية مشاعر القلق والجزع إلى غضب سياسي، يقدم على أنه غضب الشعب. ويضيق المواطن المعرض للدعاية الشعبوية ذرعا بـ «الصواب السياسي» باعتباره إرهابا فكريا نخبويا يقيد حرية الكلام عن «الآخر» فيظهر الشعبويون بوصفهم «معبرين حقيقيين (أو أصيلين؛ بمعنى غير منافقين) عما يدور في خلد الناس ولا يتجرؤون على قوله. ويوهمون الناس بأنهم بقدرتهم على التعبير الصريح، سواء أكان عنصريا أم ذكوريا أم غيره، يسترجعون السيطرة على أنفسهم ومصائرهم بعد أن صادرتها منهم الأقليات، والسياسيون الفاسدون، ويسترجعون السيطرة على هوية البلاد التي يهددها المهاجرون والأقليات والعولمة» (ص 42-43).


"نحن الشعب"
قبل العولمة، كانت الليبرالية ("الليبرالية الأرثوذكسية") قومية عموما، تمسكت بالتجانس الثقافي شرطا لممارسة الحريات الفردية، أما اليوم فقد تقبلت الليبرالية فكرة التنوع الثقافي والتعددية الثقافية في أوروبا، في العقد الأخير من القرن العشرين، بعد صراع طويل مع الذات، وتجد الشعبوية في هذا مدخلا لنقد الليبرالية بدعوى أنها تهمل الثقافة المحلية، ويرى بشارة أن معنى ذلك فعليا هو أنها تطالبها بالعودة إلى الانغلاق الثقافي والإصرار على التجانس. ويبين أن الشعبوية في صراعها على التمثيل تنتج "نحن الشعب" بصيغة هوية إثنية ثقافية، وعلى نحو يتضمن موقفا سلبيا من النخب السياسية، لينتج الفرد المواطن الذي يتكلم بغضب بضمير الجمع: "نحن الشارع" و"نحن الشعب"، وهو ما يرتبط بمفهوم المواطنة القديم الناجم عن الانتماء إلى مجموع هو هوية إثنية ثقافية تملك الدولة، كما في أثينا مثلا، ولدى حركات تزعم اليوم أن الدولة هي للشعب الذي تمثله هذه الحركات، ويحق لها، بالتالي، أن تحوز الإجراءات والمؤسسات والقوانين مما ينتج في النهاية نظاما إثنوقراطيا (2).


الديمقراطية: عدم الثقة بالمؤسسة
لشرح بيئة الحركات الشعبوية وخطابها يناقش بشارة موضوعة عدم الثقة بالمؤسسات الديمقراطية والاغتراب عنها، ويبين أن اتجاهات الرأي العام في الاتحاد الأوروبي تظهر توافقا على الثقة بالجيش والشرطة، وانقساما حول الثقة بالقضاء، وتدني الثقة بالمؤسسات التشريعية، والأحزاب السياسية. لكن في الديمقراطيات الراسخة تؤدي الديمقراطية وظيفتها على الرغم من حالة عدم الرضا والغضب الشعبي، وحتى حين يصل ساسة شعبويون يلحقون ضررا ببعض منجزات الديمقراطية، تتوافر أدوات مختلفة لمواجهة الشعبوية، تهمشها حينا وتحتويها حينا آخر. فاستنفار المؤسسات الديمقراطية والصحافة وفئات واسعة من المجتمع الأميركي لحماية منجزات الديمقراطية في مواجهة شعبوية ترامب مثًلا واضح للعيان. كما أن قادة شعبويين آخرين في أوروبا الغربية لا يشككون في النظام الديمقراطي، بل يصرّون على منجزات ليبرالية؛ مثل حقوق المرأة، وحتى حقوق المثليين أحيانا، ويصورونها كأنها ضمن «الخصوصية الثقافية» والإثنية التي يجب الدفاع عنها في وجه المهاجرين المسلمين "الذين يهددونها".

وتختلف حالة عدم الرضا عن الحكومة في الديمقراطيات الراسخة عنها في الديمقراطيات الجديدة؛ فسكان الديمقراطيات الراسخة يميّزون عموما بين الحكومة ونظام الحكم الديمقراطي، بينما يصعب التمييز بين الحكومة والنظام في الدول التي انتقلت إلى الديمقراطية حديثا. وفي هذه الدول تحديدا ترتفع التوقعات الاقتصادية الاجتماعية من النظام الديمقراطي في الوقت ذاته الذي تنشأ فيه حالة عدم الاستقرار بعد إسقاط نظام سلطوي، أو في مرحلة الإصلاح المؤدي إلى الانتقال إلى الديمقراطية، وغالبا ما تنتشر حالة من الخيبات وعدم الارتياح الشعبي من النظام الديمقراطي في الدول النامية، ومرد ذلك، عند بشارة، إلى تحول النقمة على الحكومة إلى موقف من النظام، فمواطنو تلك الدول لم يعتادوا التمييز بين الحكومة والنظام السياسي، لا سيما بعد إسقاط النظام بثورة، فتترجم حالة عدم الرضا إلى موقف سلبي من النظام الديمقراطي.
يحتاج الشعب في أي دولة راسخة إلى وقت حتى يفصل في وعيه بين الدولة ونظام الحكم. ولا تقتصر مسألة الفصل على الوعي فقط بل هي مسألة بنيوية أيضا، كما يوضح بشارة، فإذا كان ما يحافظ على وحدة دولة هو نظام استبدادي يعتمد على القمع، لا على شرعية الدولة وتاريخها، ولا على سياسة مناسبة في الاندماج الاقتصادي الاجتماعي، يمكن أن يهدد سقوط النظام وحدة الدولة. التمايز بين النظام السلطوي والدولة، والذي يمكن التمييز بينهما في الوعي، من شروط الانتقال إلى الديمقراطية. أما الفصل بين نظام الحكم والحكام، والتمييز بينهما، فهو نتاج مرحلة أخرى هي استقرار الديمقراطية. لكن، مع ذلك؛ أليس هناك من يبقي على عدائه للديمقراطية؟ يرى بشارة في ذلك دوافع أيديولوجية تستغل الغضب الشعبي من الحكومة لتحشيد فئات أوسع وراء خطاب سياسي يرجع سوء أداء الحكومة إلى مكونات أساسية في النظام نفسه.
في الدول التي انتقلت إلى الديمقراطية حديثا، ولا سيما النامية منها باقتصادها الهش وانخفاض الدخل ونسبة التعليم، تمارس البنى التقليدية بعض النفوذ، بينما الجيش هو المؤسسة الأكبر والأكثر تنظيما. ومشكلة هذه الدول أن الديمقراطية منذ البداية لا تُدعم دعما غير مشروط يتجاهل سياسات الحكام، وإسقاطات هذه السياسات على فئات اجتماعية مختلفة، فالأمر بالنسبة إلى غالبية الناس مرتبط بسياسات الحكومات إلى حد بعيد، ولا سيما في مرحلة يرتفع فيها سقف التوقعات والتطلعات، بعد سقوط نظام سلطوي، وامتحان رسوخ مبادئ الديمقراطية هو تمسك الغالبية بها، وبإنجازاتها في مجال الحريات وحماية المواطن من تعسف الدولة، على الرغم من عدم الرضا عن السياسات المتبعة في عهد حكومة أو حكومتين. لكن يصعب على الشعوب التي تخلصت للتو من استبداد مديد، أن تميز بين الحكومة وسياستها من جهة، وطبيعة النظام الحاكم من جهة أخرى، في دول لا تنشأ فيها الديمقراطية، بمعنى المشاركة الشعبية، بالتدريج بعد مرحلة ليبرالية طويلة كما في حالة الديمقراطيات في الغرب، بل دفعة واحدة قبل تأسيس الحريات المدنية وحقوق المواطن في بنية الدولة وفي ثقافة النخب ثم الثقافة الشعبية.
هنا يتناول بشارة بالتفصيل حالتي مصر وتونس، مستخدما وسائل كمية أيضا، ومبيناً مخاطر الشعبوية في الحالة التي أصبح فيها بالإمكان تمييز الشعبوية من غيرها من الاستراتيجيات الشعبية، وهي حالة تونس لأنها أصبحت دولة ديمقراطية، وكذلك في مصر في مرحلة استثمار قوى معارضة للحكم المنتخب في خطاب «شرعية الشارع» ضد «شرعية الصندوق».


جاذبية النظام الديمقراطي
هل يعني تحسن أداء الأنظمة السلطوية التنموي وانتشار عدم الرضا في الديمقراطيات الليبرالية تفوّق الأنظمة السلطوية عليها أم فقدانها جاذبيتها؟
ليس النظام الديمقراطي برأي بشارة تركيبا نظريا بين مدارس فكرية بل منجز تاريخي «ناجم عن تفاعل جرى في الواقع بين صون الحريات المدنية وتحديد سلطة الدولة من جهة، وتوسيع تدريجي لحق الاقتراع والمشاركة السياسية من جهة أخرى. ويجمع هذا النظام بين الإجراءات والأفكار والقيم. كما ينشأ في ظروف تاريخية ويحكم مجتمعات في ظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية محددة. ومؤدى هذا كله أن صراعات جديدة تنشأ في إطار النظام الديمقراطي نفسه» (ص 155).
هل صحيح أن الديمقراطية الليبرالية هي نهاية التاريخ والسياسة؟ يجيب بشارة بالنفي؛ فالديمقراطية الليبرالية تعيش صراعات لا تتوقف وتغيرات دائمة. وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار التوترات البنيوية الثلاثة الدائمة في الديمقراطية (3) إضافة إلى التناقضات الاجتماعية والاقتصادية داخل الدولة الديمقراطية. وعندما نقارب أنظمة ديمقراطية عينية بصراعاتها الاجتماعية والاقتصادية ندرك أنها تسخف أي نهاية للتاريخ.
ربما لم يوجد نموذج عالمي مقابل للديمقراطية الليبرالية فور انهيار الاتحاد السوفييتي، وبعد انعطاف الصين نحو الجمع بين الرأسمالية نظاما اقتصاديا، والأيديولوجيا القومية للدولة العظمى المؤصلة تاريخيا، والملتقية مع مركزية الدولة البيروقراطية والحزب الشيوعي ونظام الجدارة الكونفوشيوسي؛ وهو نظام من غير الممكن تعميمه عالميا.

أما الأنظمة السلطوية الأخرى فجميعها ذات طابع محلي أو إقليمي، وعجزت الحركات الإسلامية السياسية عن تقديم برنامج محلي لـ «نظام حكم إسلامي» في أي دولة. وإن اتفق باحثون على أن الليبرالية الرأسمالية هي مشروع نظام حكم يعبر عن المدنية العالمية الوحيدة القائمة، فإن ذلك لا يبرر التأكيد المثالي التاريخاني، على أن الليبرالية هي المدنية العالمية الأخيرة، وستستدعي الديمقراطية الليبرالية دائما تحديات داخلية وخارجية. حيث يظل النظام الديمقراطي مسرحا للتوتر الدائم بين بعديه: الديمقراطي والليبرالي، ولا يشكل في حد ذاته حلا لقضايا اجتماعية عدة تبقى قائمة أو تحل عقلانيا في إطار النظام الديمقراطي، ولا يلبث أن ينتج قضايا وإشكاليات أخرى.
يعبر عن التوترات بأشكال عقلانية وأخرى غير عقلانية، فالديمقراطية ليست مجرد فكرة، ففي داخل نظام الحكم الديمقراطي تمارس السياسة بعناصرها العقلانية وغير العقلانية «وحتى في النظرية لا تستبعد النظريات الديمقراطية الليبرالية والجماعتية (الأهلية) وجود أنماط مختلفة من اللاعقلانية في سلوك المواطن والجمهور والمؤثرات التي يتعرضان لها، وهي لا تبقى بلا أثر في قرارات الأغلبية في الانتخابات، وحتى في قرارات الساسة في البرلمانات والحكومات. ولهذا السبب بلورت الديمقراطية عبر تاريخها أدوات ومؤسسات للتعامل معها. وعلى هذه المؤسسات والأدوات تحديدا ينصب هجوم الساسة الشعبويين» (ص 166). ومثلما لم ينتصر النظام الديمقراطي عالميا، كذلك لم يتخذ انهيار الدكتاتوريات المسار نفسه في كل مكان. ويعتقد بشارة أن الامتحان الراهن للديمقراطية الليبرالية هو في مدى الاستفادة من ظاهرة الشعبوية في تقييم ضرر النيوليبرالية، وفي النقد الذاتي. فليس الليبراليون محصنين من تقسيمات «نحن» و«هم» الإقصائية، ولا سيما في نظرتهم الوصائية إلى المجتمع، وتقسيم الناس إلى معتدلين ومتطرفين، لا وفق معايير موضوعية من أي نوع، بل بناء على هذه النظرة الوصائية.
ليس النظام الديمقراطي الليبرالي أيديولوجيا غائية نهائية لتاريخ العالم، ويمكن بالطبع أن تنشأ بدائل عالمية منه غير الشيوعية، هذا وارد نظريا، لكن السؤال هو: هل ثمة نظام أقدر من النظام الديمقراطي الليبرالي على الموازنة بين قيمتي الحرية والمساواة مكوني العدالة التي يصبو إليها الإنسان المعاصر؟ الجواب لا برأي بشارة «ليس التوصل إلى النظام الديمقراطي الليبرالي حتمية تاريخية، ولكن هذا لا يمنع أن يتطلع إليه الناس ويرغبون في تحقيقه والعيش في ظله. ويندرج الاعتقاد أن الأفضل هو أيضا الحتمي ضمن الأيديولوجيات الشمولية العلمانية والدينية. والأصح القول إن الأفضل هو ما يجدر أن نسعى إليه» (ص 169).


دفاعا عن الديمقراطية
تبذل الأنظمة السلطوية جهدا إعلاميا و«تثقيفيا» مكثفا في الحملة على الديمقراطية من خلال إبرازها لقضايا اجتماعية من فساد وفقر وجريمة في الدول الديمقراطية، في محاولة لإقناع الرأي العام بأن هذه الأنظمة لا تصلح إلا للثقافة الغربية التي تقوم على الحرية الفردية (مختزلة عندهم في الاغتراب الفردي و«الانحلال الأخلاقي»)، مستندين إلى دراسات ليبرالية غربية ترى ارتباط الظاهرة الديمقراطية بالثقافة المسيحية البروتستانتية. ويحاول هذا الجهد إبراز حالات فاشلة من الانتقال الديمقراطي في الدول النامية، أو ثورات ضد الاستبداد أدّت إلى كوارث وحروب أهلية، باعتبارها النموذج الواقعي لتطبيق الديمقراطية في «بلداننا»، في مسعاه لمساواة الديمقراطية والفوضى، عن طريق اللعب دعائيا على خشية الناس من الفوضى وانعدام الأمان أكثر من خشيتهم من الاستبداد. يبين بشارة ما هو جدير بالملاحظة هنا؛ أن جميع النماذج المقدمة على هذا الصعيد (سورية واليمن وليبيا) لم تتفجر فيها الحروب الأهلية في ظل نظام ديمقراطي، بل في ظل نظام سلطوي، ونتيجة لفشله في احتواء الحراك الشعبي سلميا، أو عدم قدرته على إصلاح بناه ومؤسساته، ونتيجة أيضا لفشل الانتقال الديمقراطي، وليس فشل الديمقراطية ذاتها.

طرح عدد من الباحثين مؤخرا السؤال عن حجم أزمة النظام الديمقراطي وفقدانه جاذبيته بنبرة متشائمة. وبرروا قلقهم بأرقام متعلقة بتقدم الدول السلطوية على سلم النمو، وحتى التنمية البشرية. في رأي بشارة، لا يعني ازدياد حصة الدول غير الديمقراطية من إجمالي الناتج العالمي تفوقها على الدول الديمقراطية في معدل دخل الفرد، فالأخير يأخذ عدد السكان في الاعتبار. هذا فضلا عن الفرق في نوعية الحياة. ولا يتفق مع الاستنتاج القائل إن الديمقراطيات الليبرالية في حالة أفول بناء على المعطيات التي تجلب للاستدلال على ارتفاع مستوى الدخل والتعليم في دول سلطوية. فهذا مؤشر لرسوخ الأنظمة السلطوية واستقرارها، «لكن السؤال هو: متى تنجب هذه العوامل نقيضها نتيجة لانتشار التعليم وتوسع الطبقات الوسطى؟» (ص 186)، لذا يطرح بشارة سؤالا مضادا حول «احتمال انتقال هذه الأنظمة إلى الديمقراطية بسبب توسع الطبقة الوسطى وانتشار التعليم والإنترنت ومعهما الحاجة إلى حرية الرأي والتعبير عنه والرغبة في المشاركة».
ووفقا لاستطلاعات المؤشر العربي، فإن التأييد للديمقراطية بين مواطني المنطقة العربية الذين رأوا أن «النظام الديمقراطي وإن كانت له مشكلاته، فهو أفضل من غيره من الأنظمة» في تزايد مستمر؛ لتبلغ نسبة 74 في المئة من المستجيبين في استطلاع المؤشر لعام 2018/2017. وإن ازدهار الصين اقتصاديا واستقرار نظام بوتين في روسيا لا يعنيان أن النظامين في البلدين أصبحا جذابين لمواطني الدول الديمقراطية، أو حتى لمواطني الدول النامية. فأي مواطن عربي، مثلا، معجب باقتصاد الصين أو بمواقف بوتين يفضل العيش مع ذلك في الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية. ولكن ما يفترض أن يهمنا هو أن يفضل العيش في دولة ديمقراطية في وطنه، أي أن يؤيد الانتقال إلى الديمقراطية في بلاده.


خاتمة
توصلنا مع بشارة إلى أن الشعبوية خطاب سياسي، يحتكر التكلم باسم الشعب، ويجمع بين المخاطبة والممارسة، ويستمد شرعيته من مفردات الديمقراطية مستفيداً من التوتر بين الديمقراطية والليبرالية. وقد يتحول هذا الخطاب إلى أيديولوجيا في حالات متطرفة، كما ينزلق الى تقسيم «نحن» الشعب المتخيل و«هم» أعداء الشعب من المؤسسات والنخب والذي يعرقل التعددية الديمقراطية داخل «نحن» مواطنية، وقد ينقلب إلى صراع على مستوى الهوية، لكن بإمكان الديمقراطية الليبرالية الراسخة التي نشأت عبر عملية تاريخية طويلة تجاوز الخطاب الشعبوي واحتواؤه بسبب رسوخ مبادئ الليبرالية، ولا سيما الحريات والحقوق المدنية.
الشعبوية أيضا مزاج سياسي مستقبِل لهذا الخطاب ناجم عن غضب فئات اجتماعية متضررة من التطور السريع، وصعود نخب جديدة، وفقدان الألفة في المجتمع القائم، ولا سيما مع العولمة والهجرات الواسعة. والوسيلة المثلى لهذا الخطاب لتمثل الشعب والتحدث باسمه، هي نمط القيادة ذات التواصل المباشر مع الجمهور، الأمر الذي تيسره وسائل الاتصال الحديثة ووسائل التواصل.
يشكل هذا الخطاب خطرا حقيقيا على الديمقراطيات الوليدة التي نشأت عن الانتقال مباشرة من نظام سلطوي من دون مرحلة ليبرالية سابقة، إذ يكون بمتناول الخطاب الشعبوي إمكانية التعبئة الشعبية خلف شعارات المشاركة السياسية من دون احترام الحقوق والحريات.

وتستثمر الشعبوية في التوترات في بنية الديمقراطية الليبرالية المعاصرة ونظريتها، هذه التوترات وما تنتجه من أزمات يراها بشارة، في آن معا، مصدرا لأزمات النظام الديمقراطي ومحركا لتطوره وهي: التوتر بين مكوني الديمقراطية والليبرالية، وبين المؤسسات الديمقراطية المنتخبة وغير المنتخبة، وبين المواطن والمؤسسات الوسيطة التي تفصله عن عملية صنع القرار. وتستقي الشعبوية أهم مصادرها من التناقضات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تضر بفئات وتهمشها، فتعبّر عن قلقها وخوفها وغضبها، بصيغة مناهضة منجزات ذلك الاجتماع التاريخي بين الليبرالية والديمقراطية، الذي نتج بدوره من تطور تاريخي طويل، وكل ما يقيد حكم الأغلبية، مثل المؤسسات الوسيطة داخل النظام، والاتفاقيات والالتزامات الدولية.
يميز بشارة بين حالتين من عدم الرضا، إحداها حالة عدم الرضا عن الحكومة في الديمقراطيات الراسخة، حيث يميز السكان، عموما، بين الحكومة ونظام الحكم؛ وحالة عدم الرضا في الدول التي انتقلت إلى الديمقراطية حديثا، حيث ترتفع التوقعات الاقتصادية الاجتماعية من النظام الديمقراطي في الوقت ذاته الذي تنشأ فيه حالة عدم استقرار، ولا سيما بعد إسقاط النظام بثورة. وقد تترجم حالة عدم الرضا إلى موقف سلبي من النظام الديمقراطي حيث يصعب على سكان هذه الدول التمييز بين الحكومة والنظام.
ومن خلال استقرائه للتاريخ، يذهب بشارة إلى أنه في الحالات التي كان فيها النظام الديمقراطي الليبرالي قويا تمكن من احتواء حركات شعبوية في مؤسساته، فغيرها وتغير معها، أو همشها. ويتوقع أن تندمج الحركات الشعبوية في النظام القائم في المرحلة المعاصرة، وتتهمش الحركات التي لا تحترم إنجازات الحقوق والحريات، على أن يولي النظام الديمقراطي اهتماما جديا لقضايا الثقافة والهوية، وهموم الفئات المتضررة من العولمة والنيوليبرالية على حد سواء. ويبدو بشارة واثقا من أن تحسن أداء الأنظمة السلطوية التنموي وانتشار عدم الرضا في الديمقراطيات الليبرالية لا يعنيان تفوّق الأنظمة السلطوية عليها أم فقدانها جاذبيتها.


هوامش:
(1)  لم تكن مسألة خروج بريطانيا أو بقائها في الاتحاد الأوروبي على أجندة الرأي العام حين طرحها رئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، فجأة، بغرض حسم نقاش داخل حزبه، ولم يتوقع أن يجيبه الجمهور بـ «نعم» للبقاء. استراتيجيته هذه حولت التصويت من أجل الخروج إلى مجمع لاحتجاج الناس ومظالمهم، وحرضهم ساسة شعبيون مثل بوريس جونسون ونايجل فراج لصب جام غضبهم على الاتحاد الأوروبي بوصفه سببا للبطالة والهجرة غير المنظمة، وكذلك على النخب السياسية المؤيدة له والمغتربة عن هموم الناس وهويتهم. وفجأة أصبح المجتمع البريطاني منقسما بين مؤيدين للبقاء ومؤيدين للخروج ويعترف الجمهور في الاستطلاعات بأنه لم يدرك فعلا نتائج تصويته ونتائج الخروج من الاتحاد بشكل عام (بشارة، ص 75- 76).

(2)  الإثنوقراطية عموما هي نظام يعمل على تمكين الأمة المهيمنة (غالبا "الجماعة المميزة") وفرض الإثنية وسيطرتها على الكيان السياسي، والمواطنة هنا ليست قائمة بذاتها بل هي العضوية في جماعة إثنية.

(3)  تقدم شرحها في الجزء الأول من هذه المراجعة.

 

# محاضرة للدكتور عزمي بشارة بعنوان الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.