}
عروض

محمد ملص عن قيس الزبيدي: فنان بمرآة فنان آخر

فيصل دراج

6 يونيو 2019
كتاب غير مألوف، سرد فيه مخرج سينمائي سيرته وهو يحاور فناناً آخر، وسرد الفنانان في حوارهما مرحلة من حياة السينما العربية. المخرج هو السوري محمد ملص، الذي يزهد بالكمّ وينصرف إلى الكيف الفني، والآخر هو العراقي الغريب قيس الزبيدي، الذي أعطى حياته للمونتاج السينمائي، وغدا فيه عَلَماً.
بيد أن الكتاب، في ترتيب مواضيعه وطريقة تبويبه، لا يلبث أن يتكشّف وثيقة أدبية ـ سينمائية، تحتفي باللغة واللغة البصرية والأفكار الفنية وتعدد الأمكنة وتحوّلات الروح، التي تنفتح على الشمس ويواجهها السديم. والكتاب في اقتصاده اللغوي إعلان عن جماليات الصداقة، التي توحّد بين القيم والموّدة وتاريخ السينما وتبادل الإخلاص، بقدر ما أنه صورة عن وفاء الأحياء للأموات، فإلى جانب صوتي ملص وقيس تتصادى أصوات راحلة: سعد الله ونوس بصوته الهادئ الأقرب إلى الهمس، وعمر أميرالاي السوري الأرستقراطي الذي يزن الكلمات قبل إطلاقها، والمصري ذو المآل المأساوي نجيب سرور الشاعر والمسرحي والناقد الأدبي الذي غادر سريعاً زمناً عربياً مسكوناً بالعطب.
وكتاب ملص، في عنوانه الشاعري المتأسي: "قيس الزبيدي، الحياة قصاصات على الجدران" (هاشيت أنطوان/ نوفل، 2019، 209 صفحات) حاشد بإشارات تاريخية، تحتضن جيلاً طليعياً من السينمائيين السوريين والعرب تطلّع، ذات مرة، إلى سينما بديلة، وتذكّرْ ببغداد قديم
ة أدمنت، ذات مرة، التمرد على القديم والبحث عن جديد، وبأفكار اشتراكية تآكلت في منتصف الطريق، وبيروت التي استقبلت الكثير وكادت أن تنسى نفسها، ومخيمات الفلسطينيين التي نصرها، ذات مرة، فتيان السينما البديلة، وبدوا فلسطينيين مقاتلين من بلدان عربية، أو عرباً ترجموا معنى التحرّر "بأحلام العائدين".
ما من سينمائي سوري، في سبعينيات القرن الماضي، إلا وأنجز عملاً سينمائياً، قصيراً أم طويلاً، عن شقاء الفلسطينيين وبنادقهم، وما من سينمائي عربي مرّ بدمشق، ذات مرة، إلا وحمل في جيبه " سيناريو" عن فلسطين قديمة وأخرى قادمة. تتقاطع صورة فلسطين في أفلام محمد ملص، أكان ذلك في عملة البديع "المنام"، أو في رواية أولى ويتيمة دعاها: " إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب". ومدينة الفنان الأولى هي: القنيطرة، التي تطل على بحيرة طبريا، وأرسل منها في فيلمه "الليل" مقاتلين إلى فلسطين، ذهبوا فرحين وعادوا متعبين، أتلفهم العطش.
مرّ الكتاب على اسم المخرج المصري الراحل: توفيق صالح، الذين أنجز في دمشق فيلمه "المخدوعون" المأخوذ عن رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"، التي منعت عن "لاجئين" ضلوا الطريق راحة القبور. يذكر قيس الزبيدي، الذي لاذ من بغداد بدمشق، ومن المدينتين بمدينة "برلين الشرقية"، أنه حاور مفهوم "المونتاج" وهو يقرأ رواية غسان وأعمالاً أخرى له، فالأخير كان يكتب بعين سينمائية، مُؤثراً الشعر على النثر، إذ في الثاني روايات تقليدية، بينما الشعر أداة مبدعة. تكفّل الزمن، كما تشير كلمات ملص، بإزاحة الشعر، دون أن يطفئ السينمائيين ـ الشعراء، وترك للنثر حيزاً ضئيلاً صيّره بلاغة ماسخة المذاق.
تعامل محمد ملص مع أحلامه وفقاً "للمتاح"، وصارع المتاح متكئاً على أحلامه الأولى فأنجز، مرهقاً، سينما بديلة تقف إلى جانب أفضل ما قدمته السينما العربية في عمرها الطويل. احتفى بالجمالي ـ الوجداني، وبتقنية فنية متجددة، مدركاً أن تاريخ الإبداع من تقنياته المتطوّرة. لازمه دائماً "دفتره"، الذي يسجل فيه ما يرى، وهو الأديب الذي ينصت إلى البشر والموسيقا وهسهسة أوراق الخريف، بعيداً عن المهيبة المصنوعة من تجهّم وكلام.
سار قيس مع مسار منفاه النشيط، الذي حمله من مكان إلى آخر، ومن شريط سينمائي إلى غيره. وإذا كانت برلين، التي كانت شرقية، منفاه الأكثر كَرَماً، فإن المونتاج هو منزله الضيق والمريح معاً، فخارج المونتاج كانت له أحلام تضمنت الرواية والسينما الروائية الطويلة، ووطن حقيقي يرعاه وأشواقه معاً. أضاف منفاه الذاتي إلى المنفى الفلسطيني ونفذ إلى حقيقة المنفى وتابع العمل متأسياً، فعرف مخيمات الفلسطينيين وقضاياهم وسينما حاولوها، وحمل كل هذا ووضعه في فيلم نافذ دعاه "بعيداً عن الوطن". والبعيد هذا فرض عليه اغتراباً وشهادة وقلقاً وتجربة وجودية وصعوبات الحقيقة. بحث قيس السينمائي عن وطن، وانصرف إلى السينما في أوطان ليست له، وعاش غربة الإنسان والفنان معاً.
اختزن قيس المأساة الفلسطينية في وثيقة سينمائية طويلة. فبدا سينمائياً متميزاً ومؤرخاً قصّر عنه المؤرخون المحترفون. صوّر الواقع الفلسطيني كما رآه مبتعداً عن المحاكاة الفقيرة، لم يشدّ الفن إلى أرض الواقع مطمئناً إلى التصفيق، بل اجتهد في نقل الواقع إلى حقل الفن، متطلعاً إلى العقل والعين الناقدة ومقولات الحقيقة. حين نقف أمام "الأفلام التي أخرجها قيس في سوريا"، وهو عنوان أحد فصول الكتاب، نجد: بعيداً عن الوطن -1969 ــ وهو عن مخيم سبينة، حيث عاش فلسطينيون من لاجئي 48 ونازحي 67، ولن يختلف الأمر في فيلم "الزيارة" ــ 1970 ــ المستلهم من قصائد لمحمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم، و"شهادة الأطفال في زمن الحرب" ــ 1972ــ  وهو عن أطفال مخيم البقعة في الأردن عام 1968، و"نداء الأرض" الذي تمحور حول الانتفاضة ضد الاحتلال الصهيوني ــ 1976 ــ ... وخارج
 الهاجس الفلسطيني أخرج قيس فيلمه الروائي الطويل الوحيد "اليازرلي" ــ 1973 ــ القريب من قصة للأديب السوري حنا مينة، والقريب أكثر من هواجس ذاتية بغدادية. صوّر بالأبيض والأسود وبقي، وكما يقول ملص، مبهراً في الكثير من وجوهه الفنية.
نقف في "الأفلام التي حققها قيس خارج سوريا"، وهو عنوان فصل آخر في الكتاب، أمام وجوه متعددة للمأساة الفلسطينية المقاتلة: صوت من القدس، حصار مضاد، وطن الأسلاك الشائكة، مواجهة، ملفّ مجزرة، فلسطين سجل شعب... وغيرها. كانت السينما الفلسطينية، إن صح القول، تدرج "السينما الوثائقية" في النشاط الإعلامي المباشر، مستدعية الدموع ومستوردة الأمل. أراد قيس، وهو الذي عرف "صعوبات قول الحقيقة" بلغة بريشت، أن يصوغ خطاباً جديداً في النظر إلى الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وتأسيس قول موضوعي، يسرد الحقيقة ويقبل به متفرّج عربي وعالمي في آن؛ حيث الإسرائيليين يحاصرون الفلسطينيون بآلاتهم القاتلة، ويحاصرهم الفلسطينيون بضعفهم المتعدد المصاغ من الأمل والمقاومة والانتظار. ولم يشأ فناً إعلامياً، يرضي عقلاً سياسياً مستقيلاً، أراد فناً تصوغه مرتكزات بصرية، مشحونة بالدلالات، تكون السينما فيها وسيطاً فاعلاً يغيّر دلالة الواقع والتقنيات التي تتناوله.
كان المخرج سيرغيه أيزنشتين يقول: "على الباحث عن الحقيقة أن يقصدها بوسائل تنتمي إلى الحقيقة"، ويقول ملص "على الفنان أن يضع أفكاره في بنية فنيّة"، ترك كتابه طليقاً، بعيداً عن السرد المستقيم و"جدولة المواضيع"، فاختلط الحاضر بالماضي والذكريات بالتأمل النظري والتقويم الفني بالسجل السينمائي، وصوت المخرج الهامس وأستاذ المونتاج قيس، الذي عوّده المونتاج النظر إلى حياته من وجهة نظر الأفلام التي "مَنتَجها"... انتهى ملص إلى كتاب حواري بين صديقين، وإلى أفلام متحاورة، تستضيء ببعضها بعضاً وتستضئ جميعاً بخبرة متراكمة، تمتد من أندريه فايدا إلى هيرسوغ ، ومن تاركوفسكي إلى صلاح أبو سيف، ومن نبيل المالح صاحب فيلم "الكومبارس" إلى الراحل الجميل سعيد مراد، الناقد السينمائي السوري الذي رحل مبكراً.
سار ملص مع زمن طويل، منتقلاً من بغداد إلى حلب، ومن تونس، التي حاول فيها فيلماً عن فلسطين لم يكتمل، إلى باريس فبرلين، التي محا فيها زمن مستجد زمناً اشتراكياً اعتقد أنه انتصر. استقر ما رأى في "دفاتر متعددة"، تحكي عن روحه وعن شغف بالحياة والأدب والسينما. كتب: "تعود معرفتي بقيس إلى تلك الفترة من سبعينيّات القرن الماضي"، حيث 
تعرّف الأول على فيلمه "أضواء المدينة"، وكسب الثاني صداقة تستمر إلى اليوم (ص: 18). بعد مرحلة الجموح و"المعهد السينمائي في دمشق" والسينما البديلة، تأتي قبضة الزمن القاهرة التي غيّرت ملامح الصديقين واجتثت الكثير من المخيمات: "غدا شعور قيس بشيء من الوحشة، والوحدة ظاهراً وليس خفياً؛ ص: 134"، فإن تقدم الزمن الموحش إلى الأمام، اعتكز ملص ذكرياته، ولاحظ حزناً في عيني صديق قديم يقول: "لم يعد لديّ ما أحزن عليه سوى نفسي! فقد عشت خيارات لم تكن كما أردتها". حلم قيس بعراق سعيد وبمشروع روائي وخادعه الزمن ووقع على خيار لم يرغب به. وما كان حلمه إلا اغتراباً مراوغاً، وما كان اغترابه إلا منفى بليد الحواس، لا يعرف المراوغة.
عاش قيس مثقفاً نزيهاً في لبوس فنان محروم عالي الموهبة قليل التطلّب، وساوقه فنان سوري أقرب إلى الأغنية، يهجس بأفلام قادمة ويسجّل هواجسه بأسلوب أدبي مشرق ويعهد بها إلى "دفاتر متجاورة"، تبوح بما تريد.
أعطى محمد ملص كتاباً واسع الأفكار والذكريات: "قيس الزبيدي، الحياة قصاصات على الجدار". كان بإمكانه أن يعطي كتابه الخارج عن المألوف عنواناً آخر: "إنسان السينما في زمن مصادر". والمصادرة احتجاز الإنسان في مكان واعتقال أحلامه في مكان آخر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.