}

حُفر إخفاء الجرائم: عن سينما المقابر الجماعية

عبد الكريم قادري 29 أبريل 2024
سينما حُفر إخفاء الجرائم: عن سينما المقابر الجماعية
ملصق فيلم "طنطورة" عن المجزرة الإسرائيلية عام 1948

تملك السينما أدوات ضرورية تجسد الوقائع، وتعيد اكتشافها، وتنعكس تلك المقدرة من خلال شحن المُتلقي ومحاصرته بشحنة من الانفعالات والعواطف التي تجعله يقف مليًا أمامها. وهنالك مئات الأمثلة التي استطاعت فيها الأفلام أن تحيي جراحًا قديمة، وتعيد تقديمها بطريقة إبداعية وعلمية وفنية، بحيث تجعلها وكأنها وقعت في تلك اللحظة، أي تاريخ إنتاج الفيلم، رغم أن الحادثة، أو الواقعة، مرت عليها مئات السنين، وبالتالي يتم إسقاط أسماء تاريخية، وإعلاء أخرى، من منطلق ثنائية (الضحية والجلاد)، وكل هذا لا يعني بأن السينما موضوعية، فهذه حالات نسبية تحدث بين مخرج وآخر، وبين منتج ومنتج، وحتى بلد وبلد، لأن بعض الأفلام زوّرت التاريخ وأعادت كتابته لصالح جهات معنية، وبالتالي حوّلت الضحية إلى جلاد، والعكس صحيح. وفي المقابل، هنالك أفلام موضوعية جُردت من الذاتية والانتماءات الأيديولوجية والتبعيات السياسية، وذهبت صوب الحادثة مباشرة، بعد أن أحاطت بها من جميع الجهات، انطلاقًا من الوثائق التاريخية، والشهود، والسير، والمنطلقات العلمية، لتقدمها في فيلم سينمائي موضوعي، تعيد من خلاله إحياء آلام حدثت، أو مآسٍ وقعت لشخص، أو مجموعة، في ماضٍ قريب، أو بعيد، وربما تعيد اكتشاف الحاضر، وحتى تطلق بعض المؤشرات والاستشرافات المستقبلية، وهي سينما يتم صياغتها من طرف مخرجين مؤهلين يملكون رصيدًا فنيًا واتجاهات موضوعية يتم من خلالها الإشارة بشكل مباشر إلى المجرم، من دون الخضوع لآلية الإنتاج، ودائرة التوزيع، ومنطلقات الحسابات الضيقة التي تفرزها الصراعات الراهنة بين الأقطاب.

مقابر جماعية تداري جرائم لا يمكن مداراتها
استعمل الإنسان، ومنذ القدم، المقابر الجماعية، ليدفن فيها مجموعة من الأشخاص في قبر واحد، وهذا سلوك عادي يحدث في ظل الكوارث الطبيعية والحروب، إذ لا يجد الوقت، ولا الجهد، لتجهيز قبر لكل فرد، فيلجأ لهذا الأمر حتى يتجنب تحلل الجثث فوق التراب، وكي لا تنتشر الأوبئة والأمراض، وهو أمر مشروع من الناحيتين الأخلاقية والإنسانية، لكن في الجهة الأخرى هنالك المقابر الجماعية التي تحدث بدافع الجريمة، فيتم قتل مجموعة من الأشخاص بطريقة واحدة، أو بطرق عدة، عن طريق السلاح، أو الخنق، أو الدفن أحياء، وهو فعل جرمته القوانين الدولية والمحلية، والأعراف الإنسانية، على مر العصور، لكن هنالك فئات تتجرد من أخلاق الجندية، والحروب، والشرف، فترتكب تلك الجرائم. وبمرور الأيام، وربما الشهور والسنوات، وحتى العقود، يتم اكتشاف تلك المقابر الجماعية، عن طريق جرافة كانت تقوم بأعمال حفر في ساحة، أو في مكان ما، فاكتشفوا من خلالها عشرات القبور، أو عن طريق منقب آثار، أو مواطن بسيط يحفر أساسات بيته، أو أننا عرفنا أخبارها من الناجين من تلك الفظائع، فهم من يتعرفون على تلك المقابر، لتبدأ رحلة التحقيق، وتكون النتيجة حسب كل حالة، فمنها من تصل إلى المجرمين، وتسوقهم إلى العدالة، ومنهم من ينجون منها، ومنهم من تتم إدانتهم بالسجن، لكن النتيجة واحدة دائمًا، وهي أن المجرم سيأخذ جزاؤه، قصر الزمن، أو طال.

عن مقابر الطنطورة الجماعية وأخواتها
هنا يأتي دور السينما في استنهاض تلك القصص وإعادة اكتشافها من جديد، من أجل الوقوف على حيثياتها، ومعرفة أسبابها، وأسماء مرتكبيها، من أجل إدانتهم من الناحية القانونية إن كان مرتكبوها أحياء، أو إدانتهم أخلاقيًا إن كانوا موتى، أو محصنين، من قبل دولهم وكياناتهم، أو لأي سبب كان، المهم هو الإشارة إلى المجرم، وما ارتكبه. ومن بين تلك الأفلام التي عادت فأحيت مجازر قديمة عكستها المقابر الجماعية الفيلم الوثائقي "طنطورة" الذي أنتج عام 2022 (94 دقيقة)، للمخرج "الإسرائيلي" ألون شوارتس. وأثار هذا الفيلم ضجة عالمية، من خلال موضوعه المؤلم، الذي أعاد من خلاله اكتشاف مقبرة جماعية قام بها جيش الاحتلال الإسرائيلي عن طريق الكتيبة 33- لواء إسكندروني، وهو الأمر الذي صدم العالم، وعددًا من المتابعين. عاد المخرج 74 عامًا إلى الوراء (وقت صدور الفيلم)، إلى يومي 22 و23 أيار/ مايو عام 1948، وقتها استشهد ما بين 270 إلى 290 فلسطينيًا في تلك المجزرة، التي حدثت في قرية الطنطورة الساحلية التي تبعد حوالي 24 كم عن حيفا، وتقع جنوبها. ومن السخرية وعبثية القدر أن يتم رصد ذلك القبر الجماعي، الذي يقع تحت موقف مركبات في منتجع "شاطئ دور"، الذي أقيم على أنقاض الطنطورة عن طريق "الإسرائيليين" أنفسهم.
ارتكز المخرج ألون شوارتس في هذا الفيلم التاريخي على مصادر قوية لا يرقى لها الشك، وهم جنود شاركوا في تلك المجزرة، سردوا بكل صلافة وفخر كيفية تقييد الفلسطينيين، ورميهم بالرصاص، فيما تم وضع آخرين في براميل خشبية وقتلهم، رغم أنهم من دون سلاح، ليتم دفنهم في قبر واحد من دون وازع من أخلاق، أو ضمير، من أجل تصفية القرية وتهجير أهلها جماعيًا، في واحدة من جرائم الاحتلال التي لا تعد ولا تحصى. من عبثية القدر أن تحدث قبل أيام قليلة من إعلان دولة اسرائيل المزعومة عام 1948، وقد حاولت بعض الجهات نفي الجريمة، في المقابل هناك من دعا إلى فتح تحقيق مستقل، وقد أجرت بعض المراكز المختصة أبحاثًا علمية، وحددت حتى مكان المقبرة الجماعية بالضبط.




لم يكن هذا الفيلم وحده من يعكس أو يؤكد جرائم المقابر الجماعية، أو القتل الجماعي للفلسطينيين في حقب زمنية مختلفة، بل هنالك عدد من المعطيات التي كرّست هذه الحقائق التاريخية، وقد تم تأكيدها بشكل قاطع من خلال ما يتم اكتشافه بشكل يومي تقريبًا في غزة في الوقت الراهن، سواء في فناء مستشفى الشفاء، الذي تم تدميره وإخراجه عن الخدمة، أو في باقي الفضاءات والمستشفيات الأخرى، خاصة في مستشفى ناصر الطبي الذي أصبح المنشأة الصحية الرئيسية في قطاع غزة، وقد عثر على المئات من الجثث، من المرضى والنازحين، وحتى الإطارات الطبية، مقيدة وعليها آثار طبية وتعذيب، على عمق ثلاثة أمتار تحت الأرض، لهذا وجب طرح عدد من الأسئلة من الناحية السينمائية، هل يمكن توثيق تلك المقابر الجماعية؟ وهل سيتم كشف أخرى مستقبلًا؟ وهل هنالك مخرجون مستقلون ممن يملكون مواقف ومرجعيات ومواهب يفكرون في إخراج أفلام تجسد تلك المآسي، أو هل سننتظر 74 عامًا أخرى ليأتي مخرج مثل ألون شوارتس ويقدم لنا مقاربة سينمائية يثير فيها مشاعر العالم مثل ما فعله في فيلمه الوثائقي "طنطورة".
في السياق نفسه تقريبًا، علينا التنويه بفيلم التحريك "فالس مع بشير" (87 دقيقة، 2008) للمخرج آري فولمان، وقد قدّم الفيلم اعترافًا وإن جزئيًا بمسؤولية الجيش الإسرائيلي عن مذبحة صبرا وشاتيلا.

جرائم جماعية أخرى في كل الجهات

فيلم "فندق رواندا" يسرد وقائع قتل حوالي مليون من المدنيين من قبيلة التوتسي على أيدي قبيلة الهوتو في رواندا عام 1994  


من بين الأفلام التي جسدت جزءًا من عمليات القتل والتصفية والدفن الجماعي الفيلم الوثائقي الإندونيسي "قانون القتل" (115 دقيقة، 2013) الذي شارك في إخراجه ثلاثة أسماء، هم: جوشوا أوبنهايمر، وأنونيموس، وكريستين سين، وينقل العمل، أو يعيد اكتشاف الأحداث الدامية التي وقعت عامي 1965 و1966 في إندونيسيا، وقد قُتل فيها حوالي 500 ألف شخص على الأقل، في خضم أزمة سياسية حادة، وهذا بعد محاولة انقلاب فاشلة، ليبدأ بعدها الجيش حملة تستهدف الشيوعيين في البلاد، وقد ركز الفيلم على أحد القتلة المهمين، وهو الجندي "كونغو"، الذي كان عضوًا في كتيبة القتل التي استهدفت كل من يشتبه في انتمائهم لليسار، وقد طلب من الجاني إعادة تمثيل عمليات القتل أمام الكاميرا. اقترب المخرج من الجاني في محاولة منه لفهم سيكولوجية الجاني، وقد عكس العمل عددًا من المشاهد المرعبة التي جسدها الجاني، الذي قال: "حاولت نسيان كل ذلك، عن طريق الرقص، والشعور بالسعادة، والقليل من الكحول والماريوانا". لكن الفيلم جاء ليجسد جرائم مرعبة في حق أشخاص قتلوا ووزعوا على عشرات من المقابر الجماعية.




قبل هذا الفيلم، قدّم المخرج البريطاني ليزلي وودهيد عام 1998 فيلمًا مؤلمًا وحزينًا وجريئًا ومختلفًا، بعنوان "سربرنيتسا: صرخة من القبر"، وقد تتبع المخرج في هذا التحقيق السينمائي من خلال تتبع الشهود والضحايا، وحتى الجلادين، ليقدم في الأخير وثيقة سينمائية مهمة، وثق من خلالها جرائم قتل راح ضحيتها أكثر من ثمانية آلاف من مسلمي البوسنة، تم توزيعهم على عدد من المقابر الجماعية والسرية التي لم يتم اكتشاف كثير منها إلى غاية اليوم، ولأن التاريخ لا يرحم، والجريمة وإن طال ابتعاد مرتكبها عن المحاسبة، فإنه في الأخيرة سيحاسب، وهذا ما حدث للجنرال الصربي راتكو ملاديتش، أحد مهندسي المذبحة، حيث حكم عليه بالسجن مدى الحياة، من طرف المحكمة الجنائية الدولية عام 2021.
ليست الأفلام الوثائقية وحدها من نقلت مآسي وجراح الآلاف ممن قتلوا بطريقة بشعة، وتم دفنهم جماعيًا، بل هنالك المئات من الأفلام الروائية التي استطاعت هي الأخرى أن تعيد اكتشاف وتجسيد تلك المآسي، من بينها ما حدث في رواندا، انطلاقًا من الحرب الأهلية، وجرائم الإبادة، والدفن الجماعي، مثل فيلم "فندق رواندا" (121 دقيقة، 2004) للمخرج تيري جورج، وفيلم "أرارات" (115 دقيقة، 2002) للمخرج أتوم إيجويان، ويروي قصة خضوع "شاب للتحقيق على يد شرطة الجمارك، ويستعيد هذا الشاب على مدار مسار التحقيق كيف تغيرت حياته جذريًا عندما صنع فيلمًا يتناول إبادة الأرمن في بدايات القرن العشرين"، والفيلم العراقي "صمت الراعي" (104 دقيقة، 2015) لرعد مشتت، وترتكز أحداث الفيلم حسب ما جاء في ملخصه على (زهرة) الفتاة البالغة من العمر ثلاثة عشر عامًا، وهي قروية تعيش في جنوب (العراق)، وتختفي ذات يوم في ظروف غامضة، عندما تذهب لجلب الماء، وتحيك المخيلة الشعبية لمجتمع القرية حكايتها الخاصة عن اختفاء زهرة المفاجئ، ولكن الشخص الوحيد الذي يعرف ما حدث يبقى صامتًا تحت تأثير الخوف من القتل، والسجن، والتعذيب، وهو عمل يعود إلى المجازر والمقابر الجماعية التي ارتكبها نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.