تحتوي مدينة الأقصر وحدها على ما يقرب من ثلث آثار العالم، وهو ما يجعلها واحدة من أكبر المتاحف الطبيعية المفتوحة. أطلق على المدينة قديمًا عدد من الأسماء من بينها مدينة الشمس، ومدينة المائة باب، وطيبة عاصمة مصر في العصر الفرعوني. من هنا تعتبر المدينة خير تمثيل للقارة الأفريقية وهذا ما حدا بإدارة مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية إلى اختيارها لإقامة مهرجان نوعي سنوي يعني في المقام الأول بإبداع القارة السمراء.

انطلقت فعاليات الدورة الـ 13 من مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية تحت شعار "أفريقيا بكل الألوان" وذلك على مدار ستة أيام، في الفترة بين 9 و14 شباط/ فبراير الحالي، بمشاركة 43 فيلمًا من أكثر من 30 دولة أفريقية. ورغم الأهمية التاريخية والسياحية للمدينة، فهي تخلو من أي دور عرض سينمائية، لهذا يستضيف قصر الثقافة وقاعة الفندق عروض المهرجان، بالإضافة إلى ساحة "أبو الحجاج" في الهواء الطلق، وكلها أماكن تفتقر إلى تقنيات العرض المناسبة.   

كما هي العادة، دارت مراسم حفل الافتتاح في معبد الأقصر والتي بدأت ببعض الأبيات من قصيدة "شريان فلسطيني" لشاعر العامية الكبير فؤاد حداد، بصوت الفنانة الشابة آية حميدة، ابنة الممثل المصري محمود حميدة، الرئيس الشرفي للمهرجان على مدار عدة دورات. وفيما بدت كلمة حميدة من الصعب استيضاحها كعادته، أعلن رئيس المهرجان السيناريست سيد فؤاد في كلمته عن تضامن كل صناع السينما من الحضور مع الشعب الفلسطيني وصموده أمام العدوان الصهيوني في قطاع غزة.

أجنحة السينما

أهديت هذه الدورة إلى ثلاثة أسماء: المخرجة صافي فاي من السنغال، والناقد رؤوف توفيق من مصر، وكذلك الفنان المغربي نور الدين صايل رغم أن المهرجان سبق أن أهداه نسخة الدورة العاشرة 2020 في العام الذي رحل فيه الصايل عن عالمنا بعد إصابته بفيروس كورونا. إلى جانب ذلك اكتظ المهرجان بعدد كبير من التكريمات في كل دورة. من بين الأسماء المكرمة هذا العام إيمي سمير غانم، حسن الرداد والمنتج جابي خوري. كما حملت الدورة اسم المخرج المصري خيري بشارة الذي يُعد واحدًا من ألمع أسماء موجة الواقعية الجديدة. على مدار نصف قرن لم يقدم بشارة سوى 13 فيلمًا، علاوة على بعض الأفلام التسجيلية ومن أشهرها "صائد الدبابات" و"طائر النورس" منتصف السبعينيات. كما نذكر من أفلامه الروائية المميزة "الطوق والأسورة، 1986" عن رائعة الكاتب يحي الطاهر عبد الله، و"يوم مر يوم حلو، 1988" وغيرها من الأفلام. لقد خاض بشارة أيضًا تجربة الإخراج الدرامي والمسرحي، ومؤخرًا قرر خوض مجال الكتابة حيث صدرت له أواخر العام الماضي رواية بعنوان "الكبرياء الصيني" ويجري الآن تحويلها إلى عمل مرئي كما يقول. وعلى جانب آخر يصرح بشارة بمفاجأة قريبة لمحبيه وصدور ديوان شعري يرغب في تصنيفه بـ "خلجات شعرية".

حملت الدورة اسم المخرج المصري خيري بشارة الذي يُعد واحدًا من ألمع أسماء موجة الواقعية الجديدة

يقترب بشارة من الثمانين بقلب طفل، يحمل ثلة صغيرة من الأفلام وعددًا كبيرًا من الأحلام والمشاريع. في لقاء سابق استضافه المعهد الفرنسي بالقاهرة، صرّح بامتلاكه لمئات الساعات المسجلة والتي من خلالها قام بتدوين تفاصيله اليومية على مدار السنوات السابقة. إنها الساعات التي يعتبرها كنزًا مجهولًا لم يعرف صاحبه بعد، ربما تتاح له الفرصة لإخراج فيلم عن حياته من تلك التسجيلات، وربما تتاح لغيره، الأمر سيان عند بشارة كما يقول، فهو إنسان قدري يفعل ما عليه وينتظر تصاريف المكتوب.

من ضمن مطبوعات دورة هذا العام، صدر كتاب يحتفي بمسيرة بشارة بعنوان "خيري بشارة... السينما لها أجنحة" للناقد المصري عصام زكريا. يقول زكريا في مقدمة كتابه واصفًا تجربة بشارة: "يعكس هذا الثراء رغبة مستعرة في احتواء العالم كله، ونهما لا يهدأ للمعرفة، المعرفة بمعنى الكلمة الأصلي، باعتبارها الخطيئة الأولى والتكليف الأول، معرفة الخير والشر، معرفة العالم؛ وهذا أيضًا أحد أسرار عالم خيري بشارة".

جوائز بكل الألوان

لم تخرج معظم نتائج الجوائز عن أفق التوقعات العامة، لذلك لم يكن مفاجئًا أن تذهب جائزة أفضل فيلم إلى السودان عن "وداعًا جوليا" من تأليف وإخراج محمد كردفاني، الذي يُعد خطوة مميزة وهامة في تاريخ السينما السودانية الشابة، وهي سينما ترسم خطاها من الأرض البكر، واقعية سحرية ربما في طريقها إلى الاكتمال سواء على مستوى الصورة أو المواضيع، كما يعتبر أول فيلم سوداني يُعرض في مهرجان "كان" ضمن فعاليات نسخته الـ 71. ونلاحظ أنه سجل حضورًا مميزًا منذ عرضه الأول في مايو/ أيار الماضي، ويتطرق إلى أزمة انقسام السودان منذ ما يزيد عن العقد من خلال قصة إنسانية تجمع بين امرأتين تمثلان طرفي النزاع - الجلاد والضحية- في ذات الوقت. في سياق مشابه، حصل الفيلم أيضًا وفي اليوم نفسه على جائزة مهرجان بغداد السينمائي في دورته الأولى، والتي أعلنت نتائجها بالتزامن مع إعلان جوائز مهرجان الأقصر الأفريقي. 

لم تخرج معظم نتائج الجوائز عن أفق التوقعات العامة

وذهبت جائزة لجنة التحكيم الخاصة مناصفة بين فيلمي "ما وراء الجبال"، الفيلم الثالث في مسيرة المخرج التونسي محمد بن عطية، والفيلم المصري "رحلة 404" من إخراج هاني خليفة. حصل الفيلمان أيضًا على جوائز في التمثيل: أفضل ممثل مجد مستور وأفضل ممثلة منى زكي. بدأت زكي رحلتها الفنية مقتبل التسعينيات من خلال الدراما التلفزيونية ومن ثم انتقلت إلى السينما مع فيلم "صعيدي في الجامعة الأميركية، 1998"، الذي مثّل نقطة انطلاقة لعدد من الوجوه الجديدة في حينها، وعلى رأسهم محمد هنيدي بطل الفيلم.

ينحصر التنافس في مهرجان الأقصر في أربعة أقسام، وكان للسينما التسجيلية ظهور واضح في قوائم الأفلام المتنافسة، الأمر الذي انعكس أيضًا على النتائج النهائية، حيث حصل الفيلم الوثائقي "شجاعة متناهية"، إخراج مشترك لبيلي توره ولوران شيفليه، على "جائزة الدياسبورا" أو "سينما الشتات" كأفضل فيلم. وفيه نتابع رحلة انتقال فرقة موسيقية من بلد إلى آخر، إلا أنها لم تكن فرقة عادية فجميع أفرادها من ذوي الهمم والأقزام، لذلك تتخطى رحلتهم الحيز الجغرافي لتعطينا درسا روحيا في التسامح والانسجام مع الآخر رغم جحيمه البادي للعيان.

رحلة أخرى نتابعها في فيلم "أرض توجو" إخراج يورجين الينجهاوس وقد حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة، ويتبع أثر مخرج سينمائي قديم شرع في رحلة استكشافية إلى "توجو" وكانت حينها تخضع للاستعمار الألماني.  

في مسابقة الفيلم القصير، ذهبت الجائزة الكبرى - قناع توت عنخ أمون الذهبي- إلى الفيلم الكيني "تصرف عاطفي"، إخراج أريك موانجي، بينما حصد الفيلم الجزائري "زهرة الصحراء" جائزة لجنة التحكيم الخاصة – الفضية- وهو من إخراج أسامة بن حسين. أما مسابقة أفلام الطلبة، فقد ذهبت جائزتها إلى الفيلم التسجيلي "طرح النيل" للمخرجة نصرة الذهبي، وفيه تتتبع الذهبي الرحلة الفنية للفنان التشكيلي المصري محمد عبلة، مُصمم البوستر الرسمي لدورة هذا العام.