}

عبد اللطيف كشيش.. سينما "الهوية المزدوجة"

حسام علي العشي 13 ديسمبر 2021
سينما عبد اللطيف كشيش.. سينما "الهوية المزدوجة"
كشيش يتحدث عن فيلمه "مكتوب حبي" في مهرجان كان(24/5/2019)



ما هو معلوم أن فكرة الهجرة لا تقوم على منطق مادي صرف، أي هجرة شخص من مكان إلى مكان آخر، وإنما هجرة محضن ثقافي إلى محضن ثقافي آخر، فيكسب الشخص هوية أخرى مع هويته الأصلية. المهاجر يحضر معه عاداته وتقاليده، من أكل وشرب ولباس وحتى أغانيه أيضًا، وهذا أمر نلمسه بقوة في الهجرات الجماعية، أو الفردية، مثل اللجوء السوري، فنجد مدينة حلب في برلين، أو تونس، والمغرب والجزائر في باريس. وهذا الأمر لا يقتصر على الجيل الأول فقط، وإنما هو ممتد للجيلين الثاني والثالث وحتى الجيل الرابع من المهاجرين، هذه الأجيال تتمتع بـ"ازدواجية" في الهوية، كأن نقول فرنسي من أصول جزائرية، أو أميركي من أصول أفريقية، أو لبناني من أصول أرمنية. بالتالي، تعريف "الأنا" قائم على الازدواجية التي تطفو عند المبدع في فنون السرد السينمائي، أو الروائي، مثل الأديب اللبناني أمين معلوف المقيم في فرنسا ويكتب الرواية باللغة الفرنسية، وتدور أحداثها في لبنان، ومثل خالد حسيني الأفغاني الذي يعيش في أميركا ويحمل جنسيتها، لكنه لم يتخل عن الكتابة عن هموم وطنه الأم أفغانستان في روايته المكتوبة بالإنكليزية. وقس عليهما في السينما، مثل المخرج الفرنسي من أصول جزائرية رشيد بو شارب، وإسماعيل فروخي الفرنسي من أصول مغربية، والفلسطيني الهولندي هاني أبو أسعد، إلى جانب المخرج الأردني البريطاني، ناجي أبو نوار. هذه الأسماء التي ذكرتها هي نماذج لكتاب ومخرجين ينتمون إلى عالمين وينقسمون بينهما غالبًا ليس بمنطق الصراع، وإنما بمنطق توازن متعدد الأبعاد، يشكل هواجس ومصدرًا للمبدع، كما هو الأمر في أعمال المخرج الفرنسي من أصول تونسية عبد اللطيف كشيش.

ليا سيدو (يسار) والمخرج عبد اللطيف كشيش والممثلة أديل إكسارشوبولوس يتحدثون عن فيلم "حياة آديل" في مهرجان "كان" السينمائي (26/ 5/ 2013/ فرانس برس)        


(خطأ فولتير، المراوغة، كسكسي بالبوري، الزهرة السوداء، حياة آديل، مكتوب حبي: اللحن الفاصل) هي مجموعة من الأفلام تحت توقيع المخرج عبد اللطيف كشيش، تناول فيها مجموعة من القضايا تخصّ الشخصية العربية في المهجر، باعتباره تونسي الأصل انتقل مع عائلته إلى فرنسا منذ الصبا في منتصف الستينيات؛ وتناول قضايا ما بعد حداثية تخص الشخصية الفرنسية، باعتباره فرنسيًا كذلك. بالتالي، فإن عوالم كشيش بين ثقافتين ينتمي إليهما، بتطرقه إلى قضايا الهجرة، العنصرية، الاندماج، إلى جانب العلاقات الأسرية والعاطفية، إثبات الذات وقضايا المرأة والحب، من خلال حكايات البسطاء والمهمشين الذين نسيهم المجتمع من الشباب الوافد والأسر المغاربية في الجنوب الفرنسي، وفي ضواحي باريس وغيتواتها. فمنذ باكورة أفلامه "خطأ فولتير" (2000) بأسلوب الواقعية الإيطالية ومكوناتها الفنية من اللقطات الطويلة، والكاميرا المحمولة، وبمزج عناصر السينما التسجيلية في الأفلام الروائية، تناول كشيش الحياة اليومية لمهاجر غير شرعي من شمال أفريقيا يعيش في باريس، ولكنه يميط اللثام أيضًا عن عالم المشردين والعاطلين عن العمل والمرضى عقليًا... أولئك الرجال والنساء الذين يختلفون بطريقة ما عن عامة الناس الذين أدار المجتمع ظهره لهم، وهم لا يشعرون أنهم منبوذون لأنهم يشكلون دائرتهم الخاصة بهم والمغلقة بإحكام، تجعلهم لا يستسلمون للعنصرية.





هذا المفهوم الذي عاد به كشيش إلى أصل النشأة والممارسة في المجتمعات الأوروبية من خلال عمله الرابع "الزهرة السوداء" (2010) المتحصل على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي الدولي، وهو فيلم مقتبس عن قصة حقيقية في بدايات القرن التاسع عشر حول امرأة تدعى سارتجي بارتمان تم إحضارها من جنوب أفريقيا إلى أوروبا للمشاركة في عروض فرجة من أجل تسلية المجتمع الأوروبي بطريقة حيوانية، لما لها من شكل غريب وضخامة على مستوى البنيان، على أمل أن تجمع ثروة تعود بها إلى بلدها الأصل، لكنها تموت هناك كعاهرة، ويستغل جسدها مرة أخرى من طرف علماء فرنسيين بحفظ مخها وأعضائها التناسلية لافتراضهم أنها كانت أقرب إلى فصيل القردة منها إلى البشر الأوروبيين، ولذا هي من جنس أقل شأنًا، هذه الواقعية الشرسة في "الزهرة السوداء" هي من أجل تسليط الضوء على الفاشية الأوروبية والقسوة وعدم التسامح.



الهم الاجتماعي

لقطة من فيلم "خطأ فولتير" (2000)


هذه المعاصرة نلمسها في جل أعمال كشيش بمنطق أرسطي للفن، باعتباره محاكاة للواقع. برصد تفاصيل حيوات المهاجرين، وما يعانونه من مشاكل كثيرة، وما يواجهون من تحديات، كانت سينما كشيش تعبيرًا عن هذا الهم الاجتماعي، من حكايات بسيطة أقرب إلى الحياة اليومية في قالب دراما اجتماعية، كما هو الأمر في فيلمه الثاني "المراوغة" (2003) الذي حظي بأربع جوائز سيزار، وفيلمه الثالث "كسكسي بالبوري" (2007)، الحاصل على أربع جوائز سيزار مرة أخرى. في "المراوغة"، ينتصر كشيش من جديد لأسلوب المدرسة الواقعية في اختياراته الفنية، كون الممثلين غير محترفين، وبميزانية صغيرة انتقل بنا إلى عوالم المراهقين في ضواحي باريس، بين بيوتها ومدارسها، من خلال مجموعة من الطلبة يقومون بالتدرب على عرض مسرحية من القرن الثامن عشر بعنوان "لعبة الحب والحظ" للكاتب الفرنسي ماريفو. وأثناء البروفات، تتطور علاقة حب بين فتاة فرنسية وعبد الكريم، الذي يسكن مع أمه في مبنى متهالك في غيتو بضواحي باريس، ويحاول عبد الكريم لفت انتباه الفتاة من خلال مشاركته في المسرحية، هذا إلى جانب الحبكات الفرعية في الفيلم حول العلاقات الإنسانية بين المغاربة والفرنسيين، وعلاقة عبد الكريم بأمه في ظل غياب الأب، وعلاقات المراهقين في ما بينهم، خاصة الإناث، وما ينتابهن من غيرة وحسد وحقد حول رجل واحد، وهو عبد الكريم. في "المراوغة"، كان كشيش وفيًّا للواقع المعيش إلى درجة التماهي في قالب سرد خطي بسيط من دون تكلف من أجل الولوج إلى أغوار نفسيات شخصيات الشباب المراهقين والمهاجرين، ونسيج علاقاتهم في ما بينهم وبين الفرنسيين كذلك، هذا النسيج الاجتماعي العلائقي المطروح في "المراوغة" عند كشيش امتد بقوة في سرديته الثالثة "كسكسي بالبوري" بأسلوب الواقعية التسجيلية، وأحيانًا واقعية فوضوية وتلقائية بالتخلي عن الديكورات الفخمة وإضاءة الأستوديو، مستخدمًا اللقطات القريبة، والكاميرا المحمولة، والمونتاج الحاد، من دون الاعتماد على قواعد التكوين في الصورة السينمائية، ليدخل المشاهد من حيث الشكل إلى الجزئيات اليومية لسيرة عائلة تونسية مهاجرة مكونة من ثلاثة أجيال تعيش في جنوب فرنسا، يتعرض رب أسرتها سليمان، هذا الرجل الستيني، للطرد من عمله في صناعة السفن بعد 35 سنة عمل بسبب عجزه الناتج عن سنه، فيقرر أن ينشئ مطعمًا على مركب قديم، وتساعده ابنة زوجته الثانية التي تجد فيه أبًا حقيقيًا، لتذليل صعوبات بيروقراطية الإدارة الفرنسية، وتتفاعل كل أفراد أسرة سليمان من أبناء وأحفاد وزوجته السابقة في إقامة مشروع المطعم الذي يقدم وجبة كسكسي بسمك البوري، وهي وجبة تونسية محلية، وعنوان الفيلم أيضًا. هذه العائلة الموسعة من أبناء وأزواج وأحفاد، يجد فيها سليمان عزاءه بشعوره أن حياته كان لها معنى رغم مرارتها التي عبر عنها كشيش باستخدام ألوان باردة، كدرجة الأزرق والأخضر والرمادي الرتيب التي تشبه حياة سليمان أمام صمته الدائم وعجزه الجنسي مع زوجته الثانية، بينما لا يتوقف أفراد الأسرة عن الحوار والصخب في لقاءاتهم الجماعية كل يوم أحد لتناول وجبة كسكسي بسمك البوري، هذه العادات التي لم تمحها تجربة الوجود في مجتمع غربي رغم تزاوج الأبناء من روس وإسبان وفرنسيين كذلك... وتبلغ رحلة سليمان ذروتها ليلة افتتاح المطعم حيث تكتشف ابنته أنها نسيت القدر الذي يحوي الكسكس في صندوق سيارة أخيها الذي هرب من الافتتاح لتواجد زوجة رئيس البلدية التي كان على علاقة معها. فدب الجوع والقلق والانتظار عند الزبائن، ولإنقاذ الموقف تقوم ابنة زوجة سليمان الثانية بعرض راقص شرقي لشد انتباه الضيوف، فيما تذهب أمها لإعداد وجبة جديدة للزبائن.




بحبكة بسيطة وذكية ومرونة في سرد تفاصيل التفاصيل من يوميات عائلة سليمان يهدي المخرج الفيلم إلى أبيه، وكأن بكشيش يستمد صورة سليمان من الجيل الأول للآباء المهاجرين الذين كونوا عائلاتهم في المنفى، من دون أن يقع المخرج في كليشيهات الاندماج والعنصرية، وإنما كان بمثابة خطاب متزن لتشريح الواقع الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه العائلة المهاجرة من دون نزعة استعطافية، وبقصد تقديم الشخصية المغاربية كما هي، مقبلة على الحياة رغم الصعوبات، وتساهم المرأة المغاربية في تذليلها من دون انطواء، وعقدة الآخر، ولا اندماج إلى درجة التفسخ، وإنما بتكسير الصورة النمطية للمرأة العربية في المهجر، بالتالي خلطة تعبر عن هذا الانتماء المزدوج، والاحتفاء بحب الحياة، والاندماج الاجتماعي عند المهاجرين من دون تعقيدات ومقولات سياسية وأيديولوجية.


وثيقة بصرية

لقطة من فيلم "مكتوب حبي: اللحن الفاصل" (2017) 


وقد تجلى هذا الأمر أكثر في آخر سرديته السينمائية "مكتوب حبي: اللحن الفاصل" (2017)، الذي رشح للمسابقة الرسمية في مهرجان "كان" السينمائي. فيلم عن الحب، الحياة، المرأة، وأجساد النساء تحت أشعة الشمس من وجهة نظر فنان، الشخصية الرئيسية. يدخل كشيش غمار التجريب مرة أخرى، ولكن على مستوى الحكي السينمائي من دون حبكة، وإنما حوارات تلقائية طويلة منسجمة حول تفاصيل الحياة اليومية في مدينة "سيت" الساحلية في جنوب فرنسا، بين مطاعمها وحاناتها، وعلى شاطئ البحر، تدور أحداث الفيلم عن أمين من أصل تونسي، طالب طب سابق، وكاتب سيناريو عائد من باريس إلى قريته في جنوب فرنسا من أجل قضاء عطلة الصيف بين عائلته وأصدقائه وابن عمه طوني وصديقته أوفيلي، حبيبة طوني، يقضي أمين وقته جنبًا إلى جنب مع طوني بين المطعم التونسي الذي يديره والده والحانات متأملًا في وجوه النساء وأجسادهن من دون أن يقيم علاقة مع أي منهن حاملًا معه الكاميرا، بينما طوني زير نساء موغل في الشبقية والعلاقات العابرة، فأحداث الفيلم تدور في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، أي قبل ظهور الإنترنت والهاتف المحمول، وكأنا بالفيلم يسرد سيرة ذاتية للمخرج، وعن العوالم التي كان يعيشها. لذلك جاء مشحونًا بتفاصيل الحياة اليومية والحوارات الجانبية على أتفه الأشياء اليومية في عائلة أمين وحوار النساء وقت الأكل والشرب والالتقاء العائلي الموسع والشباب المندفع للحانات في ليالي الصيف، بأسلوب جمالي حتى الإنهاك، فالصورة عند كشيش تتغذى من أجساد النساء، وأشعة الشمس، وفوضى المشاعر والشبقية، إنه جنون الشباب والصيف، فكانت كاميرا كشيش محمولة على اليد ومهتزة متنقلة بسرعة كأنها رأس أمين، فكل الفيلم بعيون أمين الشاب الخجول الفنان.
لم يكن "مكتوب حبي: اللحن الفاصل" سوى وثيقة بصرية للمجتمع المغاربي في منتصف التسعينيات في المهجر بتكسير كشيش كل قواعد السرد السينمائي، ليترك المجال مفتوحًا على مصراعيه أمام الاندماج الاجتماعي، من دون صراع، أو قلق وجودي عند المهاجرين، أو الفرنسيين، وإنما كتعبير عن الحب، هذا الحب الذي أعاد كشيش رؤيته من زاوية حرجة تجاه المجتمع الفرنسي ما بعد الحداثي أمام الجدل الحاصل في الأوساط الثقافية والسياسية في فرنسا حول مشروع قانون الزواج المثلي في عام 2013، وهو العام الذي توج فيه عبد اللطيف كشيش بالسعفة الذهبية في مهرجان "كان" السينمائي على فيلمه الخامس "حياة آديل" (2013). ويحكي الفيلم عن آديل فتاة مراهقة تدرس في الثانوية في فرنسا تتعرف على شاب وسيم يدعى توم، ويقيمان علاقة جنسية، لكن آديل لم تشعر معه بالحب والنشوة، وإنما كانت سببًا للفراق. وفي إحدى السهرات في الملاهي الليلية، تلتقي آديل بفتاة تدعى إيمي، وهي فنانة تشكيلية... وتدريجيًا تتوطد العلاقة بينهما إلى صداقة، ثم إلى حب ترجمه كشيش في مشاهد جنسية ماراثونية مصورة بجرأة فائضة. وتحولت آديل للعيش مع حبيبتها إيمي، والقيام بجميع أعمال البيت، بينما تقوم إيمي برسم آديل في لوحات زيتية وهي عارية مفتونة بجسدها.. والفيلم الممتد على ثلاث ساعات لم يخل كبقية أفلامه من رصد تفاصيل الحياة التي تزيد في فهمنا للشخصيات وخلفياتهم الثقافية، من أجل تسليط الضوء على قضية شائكة في المجتمع الفرنسي، على اعتبار أن المخرج ينتمي إلى هذا المجتمع، ولكن نزعة الانتماء العربي عند كشيش تتجلى في اختيار اسم شخصية آديل، وهو اسم مشتق من كلمة "عدل" بالعربية، كما يخبرنا أحد مشاهد الفيلم، كأن كشيش أراد أن يقول بأن العدالة والحرية بصفة عامة هما مطلب إنساني في هذا العالم.




يمثل الانتماء الذي وصفناه بأنه مزدوج عند عبد اللطيف كشيش مصدرًا رئيسيًا لسرديته السينمائية للتعبير عن هواجسه، بوفاء للواقع والبيئة والمحضن الثقافي، وهذا سبب دحض الصورة النمطية للشخصية العربية في المهجر ربما بجرأة تدل على تفرده على المستوى السردي القائم على اصطياد التفاصيل بنفس أنثروبولوجي، ما يجعل تجربته السينمائية وثيقة بصرية لمعرفة الشخصية العربية. ولم يكن الوفاء على مستوى الحكي السينمائي فقط، وإنما على المستوى الفني أيضًا، فكشيش في جل أعماله كان مخرج حدث درامي لا مخرج تكوين بصري، وهذا أمر يعود إلى تكوينه الأكاديمي كمخرج مسرحي، وممثل، في بداياته، وظف أدواته المسرحية في تجاربه السينمائية التي كانت متماهية بين ما هو سردي وما هو فني، وجعلت من تجاربه محل نقاش وبحوث في الأوساط الأكاديمية الفرنسية، وموضع تتويج في مهرجانات عالمية، وكذلك محل جدل في المشهد الثقافي والسياسي لرؤيته المختلفة كذلك. ويمكن القول إنه تبقى للفن بصفة عامة والسينما بصفة خاصة تلك القوة الناعمة التي من شأنها أن تفعل وتغيّر في مقابل الخطاب السياسي القائم على الكراهية والعنصرية تجاه المهاجرين.


*مخرج تونسي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.