}

الصور التي تتبخّرُ من الرُفاة.. لوحات هازا براخاس تمثلاً

سامي داوود 28 يناير 2020
تشكيل الصور التي تتبخّرُ من الرُفاة.. لوحات هازا براخاس تمثلاً
قدمت براخاس مجموعتين متتامتين: "بورتريهات للموتى"، و"رفاة المقابر الجماعية"
استهلال
ثمة قراءة مكثفة للوجوه التي نحتها جياكوميتي، قدمها آلان تورين في سياق نقده للحداثة، محدداً إياها بالوجوه المشدودة إلى منتهى الهشاشة، كتمثيل للنواة التي يشكلها العنف. مقاربة لا تشتغل في النسق العراقي ـ والسوري بكل تأكيد ـ، إذ لم يترسب العنف في بنية تحمله كشكل، يؤدي تفكيكه إلى مَفهَمَتها. وإنما تجذّمَرَ كنسيج من الوجوه المعقدة، الموزعة في مداراتٍ نحيلة، تنفتحُ باستمرار على ما هو بدون مثال. ومن هنا جاءت صعوبة التعبير عن الأرض العراقية كفضاء لعنفٍ مخبول هُرمسي التعين. فالجمجمة التي كان يصدر منها الغاز في مظاهرات بغداد ستبقى عصية على التعبير بإعادة تمثيلها عبر إنتاج صورٍ على غرارها بتعبير سيزان. وفي المقابل، ظهرت أعمال في صيغة بوسترات ساذجة، لتقديم ما هو مقدم أساساً من دون وسيط؛ أي الصورة في غياب تصويرها.
كما لا توجد أشكال يمكنها أن تلتئم معاً لتكون نواة العنف الذي يكاد يكون أسطورة بديلة في هذا البلد المعتق بالأرواح المؤسسة لإحدى مدن العالم/ بابل. لا يوجد حامل لغوي، أو بصري، لتلك الرصاصة التي تخرج من فوهةٍ كاتمة، وتنغرزُ في اللحم بعاديةٍ مفرطة. هذا التلاحم الفج واللامتمايز بين الزناد والأصابع، الذي يجعل من الأفعال تجسيدات عارية لروحٍ وحشية مسحوقة في كيانات غير متأنسنة. تعيد ترسيم الجسد بما يتوافق والهيئات التي يفضلها العنف. تنادي العناصرُ المستحدثة على الأشكال المبتكرة للموت، هذا الذي يعتقد ريجيس دوبريه أنه ـ أي الموت ـ هو مؤسس الفنون البصرية. ورغم اختلافي الجزئي مع دوبريه، إلا أنّ الموت في هذه الجغرافية يمكنه أن يقوم بتخريفه الخاص. إذ نعثر في الخلفية، على عنصر الغاز، وهو يعيد ترسيم مدينة حلبجة، بجسمانية ملتوية، ليَّنة، يسقط أهلها معاً في موت جماعي، ظلّت صورته هو أيضاً بلا تصوير مضاعف. ذاك المشهد الذي لم يترك لمخيلتنا أيّ فكرةٍ عن نوع الموت الذي جعل الجسد منفوخاً، ومتخشباً في وضعيات جسدية عالقة في الهروب، وملجومة بسرعة السقوط أرضاً. لم نعرف كيف ارتخت الركب والأذرع؟ ولا كيف توسعت أفواههم لتستنشق الموتَ الذي باغتهم دون علامات. وفي غياب العلامات، ما هو مصير الصورة التي ستحمل تلك الأجساد المذعورة من المكان، والذي فقدَ مع الغاز، أبعاده المفترضة لفكرتي
الداخل والخارج.
يحاول الفن أن يؤرِّخَ العالم بإظهاره محفوراً في الجسد. لذلك ليست له أفكار، إنما رؤى. وفي هذه الأرض الجنائزية، ثمة حاجة لاستدعاء الفكر المأخوذ بمفهمة العناصر. وأكثرها حضوراً ههنا هو التراب. هذه الأرض التي جعلت الإنسان يُعرَّفُ بها نفسه، مفترضاً أنها تخصه بخصالها المختلفة لتجعله متمايزاً مثلها، ومن خلالها. تعال إذاً أرسم لي هذه الأرض أيها المصور. إجعلها مرئية بما تكتنزه من حيوات منهوبة. آتنا بتلك الحسية التي ترشدنا إلى رؤية ما لا يمكننا رؤيته إلا متجسداً مثل العصفور المتبخِّر لـ"دوزتان"، الذي تقدم بأكثر المفاهيم غرابة حول الأرض. في افتراضٍ أجده يُمثِّلُ حالُ أرض السواد العراقية. حيث تصوّرَ دوزتان أن الخالق قد راق له: "أن يضعَ في الأرض فراغاً كبيراً، فراغاً جائعاً يجتذب إليه بلا انقطاع العصفور المُتبخّر جداً، لإعطائه جسداً مرئياً، ويمكن لمسه باليد".
وفقاً لهذه اللازمة الاستهلالية، يمكن تناول التجربة الفنية التي قدمتها الفنانة هازا براخاس في مجموعتين متتامتين: "بورتريهات للموتى"، و"رفاة المقابر الجماعية"، كونها التجربة الفنية الوحيدة في عموم العراق، التي تمكنت من تشريح الإبادة الجماعية، من حيث هي علامة بصرية خالصة.

الرُفاة كصورة مُضاعِفة
ثمة مستوى حفري في تخيل الأشكال التي قدمتها الفنانة براخاس، تمثلت في كونها التقطت بقايا الأجساد المتحللة، وصاغت منها الصورة الشحيحة، المكتفية بالحد الأدنى من الشكل، لتمثيل

أقصى التعابير الممكنة. فالوجوه غائبة عن الأفواه المنفتحة على شساعتها، والمتخشبة في لحظة صراخ أزلي. لا توجد للوجوه أية خطوط، بل ظهورات متباينة الاتجاه للفك، والأسنان، وفقاً لأحجامٍ مختلفة. والجماجم عبارة عن كتل محطمة داكنة اللون، وسميكة العجينة، ومختلطة ببقايا الثياب، ومستويات أخرى، تظهر كأنها علامات خاطفة إلى بقايا شكل آخر يحول كتلة الرأس إلى بؤرة عميقة للحطام.
وثمة مونتاج مشهدي في تركيب الصورة داخل لوحات عدة؛ سفلي تظهر فيه الأسنان ـ كانت الأسنان في تاريخ البشر ما قبل الاجتماعي هي سلاحه الأول، وسبب بقائه، بالمعنى الدارويني ـ، كعلامات صغيرة إلى ركام من الأجساد المتحللة في عمق داكن من دون قياس، يعلوه تركيب آخر، يبقى أيضاً مشهداً سفلياً، لكنه مدفوع بإجراء لوني ذي قوة لونية مشرقة، تمنح الأفواه المنبثقة من وسط اللوحة صخباً هادراً من خلال الملمس الخشن للحواف البارزة للأفواه، ودرجتها الضوئية العالية، وحجم كتلتها التي تقفز إلى مقدمة المشهد. ويربطها كلها في امتداد أفقي، شبكة من الخطوط النافرة بالخيوط الثخينة، لتعضيد معمار الشكل ككل، بالملمس الذي يمكن تحسسه باليد. ثم يعلوه تركيب آخر، دون أن يتقدم على منتصف اللوحة، مشهد مخفف بتقنية الشاش الأبيض الذي يعيد التوزيع الفراغي للعناصر الشكلية، لتؤسس للفراغ عبر توزع كتلها المتباينة، من دون الاعتماد على المعالجة المعتادة في إجراءي الخط المنظوري، والتدرج اللوني. وبذلك تتفاعل العناصر تعاضدياً، كأنها في عملية خلقٍ متبادل لأشكالها. تنفلت تحت الشاش الأبيض، كتل لونية سوداء، وبعض الأفواه/ الصرخات، لتتكثف في الكتلة التي تظهر بدرجة أخرى مشبعة لونياً، من خلال نزع طبقة الشاش الأبيض، لتنفتح كنافذة لبروز شكلٍ آخر. إنه مشهد داخل المشهد، كالمسرح داخل المسرح، والصيغة البصرية هنا هي شكل مركب من البقايا، أو هو ممثل لبقايا الأجساد لأن تتشكلن كإحالة بصرية إلى جسد ما، كتلته عبارة عن فكين مختلفين من دون تناظر في بنيته، إذ لا توجد هنا بنية. لذلك هي ليست استعارة لتأسيس نسخة بلاستيكية عن فرانكشتاين. إنه اللاوجه كأقصى مستويات التمثيل البصري للتعبير عن الوجوه التي خسرت صورتها.
ثمة تعتيق بصري للمشهد عبر وضع طبقات من الشاش، أو الخيوط النافرة، كشبكة على أجزاء من اللوحة، لتورية الكتل اللونية قليلاً، وإظهارها في ظهورات شكلية مغايرة. وهو عكس المعتاد في مجال الفن التعبيري الذي ينوع الإجراءات اللونية والخطية، من أجل إنتاج أشكال مختلطة. كما لدى فرانسيس بيكون، ومن جاء بعده، أي جعل الجسد مسكوناً بأجساد أخرى، مسخاً مثل أبي الهول، بعضه حيوان، وبعضه إنسان. إذ إن الشكل الموجود حتى في هذه البورتريهات هو شكل هجين من دون أرجحية شكلية، ولا تعيد رسم الجسد بما هو جسد، بل تحرر الكتل اللونية من أطرها الشكلانية، لتمثل حالة جسمانية منفتحة على كل ما هو حيواني ونباتي. لذلك نلامس عملية التحلل الجسدي داخل المقابر إلى صيغ شكلية متنوعة جداً. لكن، من دون تغيير في صيغة الأفواه المفتوحة إلى أقصاها، لتكون تلك الأسنان المتبقية هي الأثر المتبادل بين الموتى وموتهم.

بورتريه للخارج
كتبت سابقاً، إن أكثر مشاكل فن البورتريه هو حدود الوجه المعاصر. فهو وجه خُلاسي 

ومسكون دائماً بما هو مهيمن على دلالته. لذلك لن يكون كافياً أن يقوم البورتريه بتصوير ما هو أجنبي في الوجه، بما هو خليط من الإشارات المتعارضة، والمؤسسة معاً لشكله الدال. يتعين على البورتريه أن يوفر التعويض الشكلي لعلاقة الوجه بمرآته الخاصة، بتصوره المنعكس في أشكاله الدالة.
لكن، ما السبيل إلى تصوير البقايا المتحللة للوجوه التي استحالت في المقابر الجماعية إلى أتربة ومواد عضوية لا متمايزة. أيُّ تنويه يمكن أن يؤسسه البورتريه للموتى المصفوفين كاليرقات اليابسة إلى جانب بعضها بعضاً؟
أضع هذا الاستفهام على جملة اللوحات التي قدمتها هازا براخاس في مجموعة البورتريهات. ويمكننا استخلاص الآتي: وفقاً لصيغة العظام المتبقية، وهي كتل مهشمة، ترتسم بنية الوجه. أيُّ وجه في غياب كل قسماته؟ هنا تماماً يكون التصوير. فالبورتريهات جميعها تقدم كمشة، حزمة من الكتل الهلامية التي تتوزع كوجوه مفتتة. تظهر في داخلها ثغرات فارغة، أو بروزات لونية معتقة بخلائط أخرى. هذه الملامس المتنوعة تحيل إلى الزمن الذي حفظ هذه الوجه الفارغة، وفتح فيها مجالاً لظهور مخلوقات أخرى. لكن الأسنان تبقى فيها مستقرة كما تحطمت.
ثمة وحشية تحيل إليها هذه الوجوه التي هي دون قسمات. استدعاء بصري لوجه القاتل في وجه الموتى. كتلة الرأس المهشم تحيل إلى خارج اللوحة، إلى الجسد الذي أحدثَ كل هذا الدمار. لذلك فإن إحدى الوجوه التي تحملها بورتريهات الموتى هو الوجه الذي رأوه يبقى خارج المقبرة، ذاك الذي قاموا هم بحفظه عبر الذعر، وكذلك عبر تدمير بنية الوجه في الكتل التي تظهر كأختام نافرة لمنتهى الوحشية.
لدى الفنانة براخاس حس استذكاري للوجوه التي غادرت بوجعٍ مكتوم، ولجمها الموت في مقابر مجهولة. حاولت هازا أن تمنح تلك الأشباح صورة داخلية. كمن يلتقط للموت صورة سينية شفافة.

الفنانة هازا براخاس: قدمت سنة 2015 أول معرض لها بعد عشر سنوات على تخرجها، وتركت الماجستير لاعتقادها أن الاستمرار فيه سيعيق قدرتها على التخيل. لا تعرف ماذا تعني عبارة الـC.V. ولا تفكر في تقديم شيء آخر. تعيش كلياً خارج سوق الفن وعلاقاته العامة. وهي من مدينة حلبجة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.