}

"أد أسترا".. البحث عن معنى الحياة على تخوم الكون

سارة عابدين 2 يناير 2020
سينما "أد أسترا".. البحث عن معنى الحياة على تخوم الكون
ملصق فيلم "Ad Astra"
تعتبر ثيمة الفضاء الخارجي، والرحلات إلى الكواكب والنجوم، من أشهر الثيمات السنيمائية التي تجذب الجماهير. وتناولت العديد من الأفلام تلك الثيمة بطرق مختلفة، آخرها فيلم "Ad Astra" بطولة براد بيت وتوم لي جونز، وسيناريو وإخراج جيمس غراي، مع موسيقى البريطاني ماكس ريختر، ومدير التصوير الهولندي السويسري هويت فان هويتما.

يدور الفيلم حول رائد الفضاء روي ماكبرايد، ابن رائد الفضاء الشهير كليفورد ماكبرايد، الذي تم استدعاؤه بواسطة "سبيسكوم" وهي جزء من القوات المسلحة الأميركية، لكنها تختص بالفضاء الخارجي. يتم إخبار روي أن هناك خطراً ما يهدد الأرض نتيجة تدفق طاقة لا يعرف أحد مصدرها، وهناك شك أن يكون ذلك التدفق نتيجة ما يطلق عليه مشروع ليما، أحد مشاريع الفضاء التي كانت تحاول استكشاف وجود حياة ذكية في أبعد مناطق النظام الشمسي، والذي كان يشرف عليه كليفورد ماكبرايد، والد روي. يطلب المسؤولون في سبيسكوم من روي أن يذهب في رحلة فضائية للبحث عن مشروع ليما، ويخبرونه بأن والده ربما لم يمت في رحلته الفضائية، ولكنه ما زال على قيد الحياة وهو المسؤول عن ذلك التدفق القاتل.


الفضاء كذريعة للأسئلة الوجودية
في البداية يعتقد المشاهد أن الفيلم عن استكشاف عالم الفضاء، لكن مع التقدم في الأحداث يكتشف المشاهد، أن الفضاء مجرد ذريعة ليستكشف البطل ذاته وأسئلته الوجودية التي تشغله، ويراجع علاقاته الأسرية والاجتماعية، واختياراته في الحياة بشكل عام، وهل يوجد مكان أبعد من النجوم للبحث عن الذات ومداواة مشاعر الاغتراب والعزلة واكتشاف النفس من جديد.

يطرح الفيلم تساؤلات تخص علاقة الأب وابنه، في المشاهد التي يفكر فيها ماكبرايد الابن في ماكبرايد الأب، وكيف أثرت اختياراته كأب على حياة ابنه وزوجته، وكيف يمكن لشخص أن يترك حياته بالكامل ليذهب ويقرر الاستقرار على كوكب بعيد، ليبحث عن مخلوقات عاقلة، أو ليبحث عن إجابات لأسئلته المعلقة، عن الخالق والكون والحياة. بالرغم من أن المضمون الديني لم يتم التركيز عليه بشكل كبير في الفيلم، إلا أنه موجود في بحث ماكبرايد الأب عمن خلقه، ولماذا خلقه، وما هو الهدف من الحياة، ليصبح عالم الفضاء مجرد ذريعة للهدوء والسكون الذي يغلف مشاهد الفيلم وفكرته الفلسفية.
مع متابعتنا للبطل روي ماكبرايد الذي يتمتع بخصائص جسدية مثالية، نكتشف أنه لا يفقد أبدا مشاعره الإنسانية، ولا تتوقف الأفكار عن الدوران في رأسه، مما يبقينا كمشاهدين مرتبطين معه، ومندمجين بداخل تساؤلاته التي لا تتوقف.
في رحلة الفيلم نشاهد الأفكار التي سمعنا عنها كثيرا في أفلام الفضاء الخارجي، وقد تحولت إلى حقيقة. نجد رحلات سياحية إلى القمر، ومطارا سياحيا ومحلات تجارية. نجد نزاعات على الموارد على سطح القمر والمريخ، وإطلاق نار بين الكواكب، وقراصنة قمريين، وأجواء حروب فضائية، وكأن سكان الأرض لم يكفهم النزاع على موارد كوكبهم، لتمتد نزاعاتهم إلى الفضاء الخارجي أيضا.


يمكن للبشر أن يخطئوا
بالرغم من كون الفيلم يناقش أفكارا فلسفية عميقة، لكنه لم يفقد عناصر الحركة والتشويق والمخاوف التي تظهر الجانب الإنساني للبشر، وكيف أن الناس يموتون ويمرضون ويخطئون، وكلما اقترب روي ماكبرايد أكثر من تخوم الفضاء الخارجي، كلما أصبح أكثر تصالحا مع أخطاء البشر وعيوبهم، كلما أدرك أيضا عيوبه الشخصية وتأثيرها على المحيطين به. نلاحظ أيضا مشاهد يتذكرها لزوجته السابقة التي تشكو من وحدتها وعدم معرفتها لأي شيء يخصه، وعدم اهتمامه بها وبمشاعرها، وتفكيره فقط في استكشاف الفضاء كغاية كبرى لحياته.
استخدام التصوير في مشاهد الفيلم مدروس بدقة، من خلال الاستخدام الدقيق للألوان في مقاطع مختلفة من الفيلم، مثل الأبيض والأسود على سطح القمر، والأحمر الذي يغلف كل شيء على سطح المريخ، ما يجعل المشاهد أقرب إلى لوحات بصرية ساحرة في درب اللغز الكوني الطويل. كما نشاهد الشخصيات تدور في الفراغ المضطرب للفضاء بشكل يذكرنا بالصورة الشهيرة لأرمسترونج على سطح القمر.
تعتبر الموسيقى التصويرية المصاحبة لمشاهد الفيلم واحدة من أهم عناصر نجاحه، فالموسيقى تبدو كأنها تعرض لمشاعر البطل وأفكاره وتوتره الداخلي في اللحظات الفارقة من رحلته، لتساعد المشاهد على الاندماج معه والسفر داخل عوالمه، خاصة في لحظة انتقاله من المريخ إلى المكان الذي يفترض أن والده موجود فيه.
تزداد لأول مرة نبضات روي ولا يستطيع السيطرة عليها، عند قرب لقائه المرتقب بوالده، عندما يدرك أنه حرم نفسه من الحياة الطبيعية على الأرض، ليبحث عن حياة أخرى في الفضاء مثل والده. يتخلى عن أقرب الناس له مثله، يتجاهل مشاعره الإنسانية في سبيل أمر مجهول تماما لكنه لا يمكنه توقيفه.

الرجل الذي اختار الفضاء بيتا
في اللحظات التي يقترب فيها روي من مقابلة والده، يحدث التحول الكبير في أفكاره. براد بيت كان يبدو كبطل وحيد للفيلم، حتى مشهد ظهور توم لي جونز بأدائه الجذاب لشخص لم يقابل بشرا منذ ثلاثة عقود.
أول سؤال طرحه روي على والده بمجرد سماع صوته، هو "هل أنت بمفردك؟" ما يشي أنه يصدق اعتقاد الأب بوجود كائنات عاقلة على الكواكب الأخرى، لكن للأسف نكتشف أن الأب ما زال بمفرده، ولم يصل لشركاء في الحياة على الكون بعد، بل حتى رفاقه في الرحلة تركوه وكانوا هم سبب تدفق الطاقة الذي يضر الأرض في الوقت الحاضر.
في اللحظة التي يطلب فيها الابن من والده العودة معه إلى الديار "الأرض" يرفض قائلا "هذه دياري، والرحلة بلا عودة"، وأنه بالرغم من مرور عقود، لم يتراجع الأب عن موقفه واعتقاده لنتأكد بشكل ما أن البحث لا يتعلق فقط بحيوات أخرى أو كائنات عاقلة، لكنه يتعلق بجوهر الحياة وهدفها وخالقها.
يرى الأب أن الحياة على الأرض أتفه من أن يعود إليها، وأن العلاقات حتى الحميمة منها مثل علاقته بزوجته وابنه، لا تزيد عن كونها علاقات تافهة لا تستحق الحياة لأجلها، وبالرغم من حياته وحيدا في الفضاء لمدة 30 عاما لم يفكر مطلقا في العودة إلى الديار، لنرى لأول مرة دموع ماكبرايد الابن في لحظة من أكثر لحظات الفيلم ألما.
يقول ماكبرايد الأب "لكنني وجدت قدري، لذلك فقدت ابني" لنتساءل عما يعنيه القدر هنا بالنسبة لماكبرايد الأب، هل هو معنى الحياة، أم الهدف منها؟ نشاهد تشبث الأب بوجوده في الفضاء بشكل لا يصدق، حتى أن ملامح وجهه تتبدل، ونظرات عيونه تصبح زائغة عندما يصر الابن على إعادته إلى الأرض، ويتراجع ساحبا يده إلى الخلف حتى لا تتلاقى مع يد ابنه، في رفض واضح ومباشر لمبادرة الابن. بالرغم من شعره الأشعث، ولحيته، وملابسه القديمة، والحياة وحيدا في الفضاء، بكل قسوتها، فإنه يفضلها عن الحياة على الأرض.
تسيطر المشاعر المتزايدة والعاطفة على الابن، لعثوره على والده، لكن والده لم يبادله تلك المشاعر، ولم ينظر إليه كابن، لكنه نظر إليه كشريك مثالي في رحلة البحث عن كائنات عاقلة أخرى تشاركنا الكون الكبير.

الصراع النهائي
يبقى مشهد صراع الأب والابن في سواد الفضاء المعتم، كنقطتين صغيرتين في ذلك الكون الشاسع، من أهم مشاهد الفيلم، حين يحاول الأب الفكاك من رباط الابن والبقاء في الديار التي اختارها، وينصاع الابن في النهاية لرغبة والده، ويتركه من جديد وحيدا يسبح في الفراغ الأسود الكبير، ليقرر كل منهما اختياره: اختيار الأب رؤية فقط ما يرغب في رؤيته بعيدا عن الواقع والعالم، وبعيدا عن المشاعر بكل أشكالها، بينما يعود الابن إلى الديار، بعدما أدرك أنها دياره بالفعل، وأنه ينتمي إلى الأرض أكثر مما ينتمي إلى الفضاء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.