}

"الثنائي المرح": كوميديا بتراجيديا واقع غريب

مريم فرح 3 يوليه 2019
مسرح "الثنائي المرح": كوميديا بتراجيديا واقع غريب
مشهد من المسرحية
"الثنائي المرح" كوميديا كلاسيكية جميلة وذكية، تحاكي سبعينيات برودواي في أميركا، وفلسطينياً تحاكي جمهوراً مشتاقاً ومتعطشاً دائماً للمسرح. ويؤديها ممثلان ساهما في بناء الحركة المسرحية في الداخل وفي بناء المسرح العربي الأول، ولا يزالان ينبضان مسرحاً وينتجان أعمالاً جميلة كهذه الكوميديا، التي استعرضت أيضاً حقبة تاريخية من عملهما سوية في الحقيقة.
مؤلف المسرحية هو الكاتب الكوميدي الأميركي نيل سايمون، وكتبها عام 1972. وقيل عن سايمون كثيراً إن موهبته تتجلى بالأساس في قدرته على تسجيل ضحكات كبيرة في أثناء نقل حزن عميق.
"الثنائي المرح" مأخوذة عن مسرحية The Sunshine Boys لسايمون وعرضت في برودواي للمرة الأولى عام 1972، ثم تم تحويلها إلى فيلم كوميدي يحمل نفس الاسم مثّله وودي آلان وبيتر فالك، وأخرجه جون إيرمان.
تروي المسرحية قصة ويلي كلارك وأل لويس، وهما ممثلان سابقان في السبعين من عمرهما، يعيشان في وحدة للعجزة. عمل الممثلان لأكثر من 43 سنة كثنائي مسرحي ناجح في المسرح الأميركي إلى أن ترك أل لويس ويلي كلارك بعد سنوات من العمل والضحك والمشاهد المشتركة، ما أدى إلى نشوب خصام بين الإثنين.
يستمر الخصام مدة 11 عاماً، إلى أن تقوم إحدى قنوات التلفزيون بتحضير برنامج خاص عن تاريخ الكوميديا في البلاد، ويقع الاختيار عليهما، وهنا يظهر بن كلارك، ابن أخي ويلي كلارك، والذي يعمل كوكيل للممثلين، محاولاً بشتى الطرق اقناعهما بتأدية أحد المشاهد التي قدماها سابقاً معاً. والصراع الأساسي في المسرحية يدور حول سؤال العمل معاً بعد خلاف
قاس أنهى مستقبلهما الفني وقضى على طموحات كلارك.
كشف الصراع قصصاً قديمة بين الممثلين لم تنته حتى عندما توقفا عن العمل معاً، واتسم الصراع بعلاقة مركبة من صداقة قوية وعداء وغيرة ومنافسة، وهذه المشاعر جعلتهما يتفوقان على نفسيهما في الأداء وفي تسوية الصراع.
أل لويس في المسرحية هو الممثل مكرم خوري، في شخصية ممثل قدير كما هو في الواقع، ومن الأوائل الذين احترفوا التمثيل فعلاً في الداخل الفلسطيني. ويحمل لويس تجربة وخبرة فنية وحياتية مثيرة ومركبة إلى حدٍ كبيرٍ تجمع بين الكوميديا والتراجيديا الحياتية، ويعيش مع ابنته في غرفة صغيرة بعدما كان يملك المسرح كبيت وكأسلوب حياة. تعكس تجربة أل لويس تجربة العديد من الفنانين في تلك السنوات في أميركا، عندما خذلهم برودواي. فهو ممثل وإنسان حكيم أدرك جيداً متى عليه مغادرة النجومية لتبقى نجوميته في الذروة. وترك المسرح ليظل ممثلاً عظيماً. وشكّل عزوفه عن المسرح لحظة أساسية في حياته كممثل مسرحي محترف في سبعينيات القرن الماضي.
يوسف أبو وردة هو ويلي كلارك، شخصية مركزية أخرى، معقدة، مشاغبة، اندفاعية ومتسلطة. هو الشخصية التي تراقب الفن بدقة تفاصيله الصغيرة وتعبث بالشخصيات وبالأعمال كما تعبث في الحياة. يمنح شعور العظمة للخلود بينما أل لويس يمنحه للانسحاب في القمة. موهبة ويلي كلارك ذكية وخفيفة كخفة يوسف في أداء الأدوار وسلاسته في تقديم الكوميديا المسرحية بعدة لغات وكحضوره في خشبة المسرح من "المسرح الناهض" في السبعينيات إلى "مسرح المجد" اليوم، وكلاهما نشطا في مدينة حيفا.
يوسف ومكرم ثنائي فني فعلاً، عملا معاً في "المسرح الناهض" ومسرح حيفا في عدة أعمال، منها "في انتظار جودو" و"الجزيرة". وكانا جزءاً مهماً في تأسيس المسرح العربي الأول في حيفا، كما شكلا مرحلة مهمة في الحركة المسرحية في الداخل الفلسطيني. لهذا لا تبعد المسرحية في علاجها لواقع وتاريخ الممثلين فيها ولكنها حتما تبتعد عن الحاضر، فمكرم ويوسف هما جزء من مجموعة فنانين مسرحيين (منهم محمد بكري، سليم ضو، سلوى نقارة وغيرهم) شكلوا وما زالوا يشكلون القلب النابض للمسرح الفلسطيني في الداخل.
أدّى إياد شيتي دور بن كلارك، وكيل الفنانين الذي يساعد عمه ويلي في احتياجاته اليومية ويساهم في إبقاء معنوياته عالية برغم عجزه في بعض الأمور. وإياد هو مدير "مسرح
المجد"، الذي أنتج المسرحية وتولى ترجمتها إلى العربية، وبصمته واضحة في المسرحية شكلاً ومضموناً. استطاع إياد تأدية دوره الثانوي بجدارة البطولة الرئيسية، وليس سهلاً على أي فنان مهما كان إرثه الفني غنياً كإياد، وكذلك على مدير لمسرح يقوم بإنتاجات مهمة كـ"مسرح المجد"، تأدية دور أمام ممثلين كيوسف ومكرم.

الثنائيات
تعتبر الثنائيات الكوميدية ظاهرة مهمة في السينما والمسرح، ورغم اختفائها تبقى لها بصمة مؤثرة في الكوميديا السينمائية والمسرحية.
ولعل أهم ثنائي كوميدي ظهر في الساحة العالمية هو لوريل وهاردي (ستان لوريل وأوليفر هاردي)، إذ حققا نجاحاً خيالياً، وظهرا معاً في أكثر من 100 فيلم كوميدي بين عامي 1921 و1950. وتشبه قصة أل لويس وويلي كلارك قصة لوريل وهاردي إذ تشاجرا وانفصلا لسنوات ليعودا إلى المسرح في جولة عروض يمرض خلالها هاردي ويتوقف الثنائي مجدداً عن العمل، ومع موت هاردي يعتزل لوريل التمثيل لكنه يبقى يكتب مشاهد كوميدية للاثنين وكأن هاردي ما زال حياً. وكمثال على أهمية هذا الثنائي الكوميدي الذي عاش حياة تراجيدية يأتي فيلم Stan & Ollie, 2018 من إخراج جون بيرد المستوحى من كتاب "لوريل وهاردي – الجولات البريطانية" لإي. جي. ماريوت ليستعرض سنوات الأزمة التي عاشها الثنائي الذي أحب ثنائيته جداً.
أما في الدراما العربية، فالثنائي الأشهر هما دريد لحام ونهاد قلعي، اللذان مثلا معاً في مسلسلات شامية مثل "حمام الهنا" و"مقالب غوار" و"صح النوم"، وفي مسرحيات عديدة، وفي 26 فيلماً سينمائياً. وعملا معاً لمدة أكثر من أربعين عاماً، وشكلا أيضا ثنائياً كوميدياً وقوياً بالأبيض والأسود قد لا يضاهيه ثنائي حتى اليوم.

الإخراج
أخرج "الثنائي المرح" وأعدها مسرحياً بالنسخة الفلسطينية الفنان غسان عبّاس، الذي عمل مع

مكرم ويوسف كممثل في أعمال سابقة، وهذه هي المرة الأولى التي يخرج فيها عملاً مشتركاً للممثلين. يشبه الإخراج أو على الأقل بعض التقنيات إخراج النسخة الأميركية للمسرحية، ولكن النسخة العربية تحمل رؤية إخراجية مختلفة ملائمة للثنائي الفلسطيني مكرم ويوسف، وتحمل زوايا كوميدية مختلفة وزوايا مسرحية تبرز قدرات متميزة عند الممثليْن وتناغماً مرحاً بين الثلاثي. أما التقنية الأجمل التي استخدمت برأيي فهي الانتقال بين فصول ومشاهد المسرحية، التي على ما يبدو دمجت بين صور أعمال مسرحية ليوسف ومكرم في الماضي، بمرافقة موسيقى سوينج، التي تميل الى المرح في إيقاعها، وساهمت في سلاسة الانتقال الزمني والمكاني على شكل شريط سينمائي سريع ومرح يشبه الأفلام الغنائية في السبعينيات.
"الثنائي المرح" مسرحية تستحق المشاهدة والضحك والتفكير في المسرح، وفي نجوم المسرح الفلسطيني وقدرتهم على العطاء للجمهور، ترافقها موسيقى جميلة للفنانة ميرا عازر، وديكور متناسق مع أجواء المسرحية لأشرف حنا. إنها كوميديا حقيقية في تراجيديا الواقع الغريب.  

*صحافية ومذيعة تلفزيونية من حيفا - فلسطين 48.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.