}

مسرحية "المتحف".. القتل لاكتشاف معنى الحياة

مسرح مسرحية "المتحف".. القتل لاكتشاف معنى الحياة
لقطة من العرض المسرحي "المتحف" (تصوير: خلود باسل)
على خشبة لا تحمل معالم مميزة تدل على مكان سير الأحداث أو تواجدها انفتح الستار على غلالة تقف حاجزاً بين المتفرجين الذي اكتظت بهم قاعة مسرح "الرصيف" في بروكسل على مدار ليلتين. هكذا افتتح المخرج الفلسطيني بشار مرقص مسرحيته الجديدة "المتحف" التي تحكي قصة عملية إطلاق نار بشعة راح ضحيتها 49 طفلاً ومعلمتهم في متحف للفن المعاصر من قبل رجل حاصل على درجة الماجستير في الفنون البصرية، كما يتضح لنا من خلال حوار ثنائي بطلاه الممثلان الفلسطينيان هنري إندراوس ورمزي مقدسي اللذان أدّيا دوريهما بمنتهى البراعة والحرفية.

على امتداد خمسة فصول هي عمر المسرحية التي امتدت ساعة ونصف الساعة، أخذ الممثلان الجمهور في رحلة يقودها المخرج الشاب بشار مرقص إلى دواخل النفس البشرية المعقدة التي تعتمد مفاهيم محددة متلقاة من قبل المنظومة المجتمعية والسياسية التي تعيش داخلها، ليأخذه إلى مناقشة قضية من أخطر القضايا التي نعيشها في العالم الآن وهي قضية الإرهاب والذي توافق العالم على إلصاقه بأشخاص أو جماعات تقوم بقتل أبرياء مثل القاتل هنا الذي وعلى الرغم من غرابة تركيبة شخصيته ظن أنه بارتكابه هذا الفعل فهو يساهم في تغيير العالم، فلم يصوره العمل رجلاً ملتحياً، كما هي الصورة النمطية عن الإرهابيين ولا رجلاً مجنوناً مثلاً، على العكس تماماً فهو متعلم ومثقف يدرك قيمة الحياة ويتذوق الفنون لكنه يراها من زاوية أخرى، وكأن المخرج والكاتب هنا يطلب منا قلب الأدوار والنظر إلى هذا الفعل من زاوية أخرى.
يأخذ القاتلُ المحقق الذي حقق في قضيته قبل سبع سنوات في رحلة نفسيه عابثة ومليئة بالألعاب الخطرة حينما يطلب رؤيته في الليلة الأخيرة قبل يوم إعدامه بالحقنة السامة ليكون طلبه الأخير منه أن يقضي بصحبته الليلة الأخيرة له في الحياة، ليلة استطاع فيها القاتل أن يلعب مع المحقق مجموعة من الألعاب التي تعتمد القسوة والمباشرة والتي تدور بمجملها حول البحث عن معنى الموت الذي يرغب فيه، بأداء صوتي وحركي توافق بشكل كبير مع النص الذي ساهم العمق الذي كُتِب به بالمسامحة في طوله في بعض الأحيان. كما كان لإبداع المخرج العامل الأكبر في نجاح العرض حيث أنه لم يترك مساحة في المسرح لم يستخدمها ليكسر رتابة المشهد الواحد والشخصية الواحدة والحدث الواحد، كما قام هو أيضاً بعدة ألعاب إخراجية منها الطريقة التي كان يخبر الجمهور فيها بانتهاء الفصل الأول مثلاً، واستخدام كاميرا سينمائية عرضت على الشاشة الخلفية للمسرح صورة القاتل أثناء التحقيق وكيف استخدمها المحقق في اللعبة الدائرة بينهما.

 

مشروع مسرحي
مسرحية "المتحف" هي المسرحية العشرون ربما للمخرج الشاب الذي يعمل بجدية بكثافة منذ بداياته الأولى مع مسرحية "البلي بلي بل" والتي عرضها في مسرح "الميدان" الحيفاوي عام 2011، وهي عمل يوضح أن هناك مشروعا مسرحيا ينضج على مدار السنين لمخرج صاحب خبرة لا تعكسها سنوات عمره الصغير ولكن أعماله التي تتمتع بنضج عال تعكسها بكل وضوح.
وكان لـ"ضفة ثالثة" حديث معه بعد انتهاء العروض في بلجيكا والتي ستعود ثانية في عام 2020 في مدن أخرى ليخبرنا مرقص بداية أنه "كان من المهم لنا أن نحكي عما يسمى إرهاباً ليس من المنظور السياسي السطحي للتعامل مع هذه القضية، حيث نطرح هنا السؤال حول فكرة العنف وما الفرق بين العنف الذي يمارسه شخص ضد أشخاص آخرين وبين العنف الذي تمارسه دولة ضد أبرياء؟ ما الفرق بين حادث إرهابي قام به شخص ليقتل فيه عدداً من الضحايا وفق قناعة أنه يفعل الصواب ويتم تجريمه من قبل كل المجتمع الدولي وبين عنف الدولة التي تشن حرباً تقتل فيها المئات من الأطفال ولا يتم تجريم هذا الفعل واعتباره إرهاباً وكأنما تمت برمجتنا على قبول هذا الفعل أو اعتباره أقل من فعل ينفذه شخص واحد؟".

 يعمل مرقص كمخرج مسرحي من أجل صناعة تغيير في الواقع وفي الحياة  (تصوير: خلود باسل)


















أصل العنف
بهذه الجمل الصادمة شرح لنا مرقص وجهة نظره في ما نعيشه اليوم. ثم يكمل حديثه متسائلاً عن أصل العنف ومتى يكون وسيلة كي تصنع معنى للموت؟ موضحاً أنه كمخرج مسرحي يعمل "من أجل صناعة تغيير في الواقع وفي الحياة، وهو ما دفعني لأسأل نفسي ماذا يمكن أن يحدث لو توقف دور المسرح عن تغيير المجتمعات؟ وماذا يحدث لو قٌتل أحد أفراد عائلتي؟ أو لو فقدت بيتي؟ هل أنا بعيد عن إمساك البندقية وإطلاق النار منها نحو آخرين؟ وأعلم أن الكثير من الاشخاص لا يفكرون بهذا الشكل في العالم الحديث الذي نعيش فيه حيث نفكر فقط من زاوية السلطة ومن منظور صاحب القوة ونرى من يحاول تغيير الحياة التي تعودنا قوانينها أنه هو المجرم الوحيد مع أن السلطة في ذات الوقت تقتل وتخرب مستندة على الشرعية والسلطة المخولة لها، وفي المقابل يوصم الأشخاص الذي يقومون بنفس الفعل بالإرهابيين وكأن هذا فقط هو الشكل الوحيد للإرهاب".
وفي معرض سؤالنا عن بعض التشابه في موضوع الموت بين مسرحية "المتحف" ومسرحية "شرق أوسط جديد" التي عرضت قبل سنوات يرد مرقص أن الموضوع في مسرحية "شرق أوسط جديد" كان "متأثراً بالأحداث التي جرت في سورية خاصة في بدايتها حيث كانت الشخصيات في العمل تحارب من أجل الحياة بينما في "المتحف" ينشغل الشخصان الرئيسيان بهاجس واحد هو البحث عن المعنى الذي يخلقه الموت والفرق بينهما كبير".

 

علاقة منذ سبع سنوات
وكان للسيد محمد اقويبعان، مدير المركز المتنقل للفنون "موسم"، مشاركة مع "ضفة ثالثة" حول دور المركز في إنتاج هذا العمل وكيف بدأ التعاون مع مسرح "خشبة" في حيفا بحكم أنه لم يكن أول تعاون وإنتاج مشترك بينهما، حيث أوضح أن "العلاقة مع بشار مرقص، المخرج والمشارك في كتابة العمل، تعود إلى سبع سنوات مضت من خلال مسرحية "باي باي جيلو" التي تم تنفيذها بدعم من الاتحاد الأوروبي في إطار برنامج التعاون عبر الحدود في البحر الأبيض المتوسط، وهي من تأليف الكاتب طه عدنان، حيث اختيرت مسرحيته من بين خمسة أعمال أخرى مترجمة للفرنسية ضمن فعاليات مرسيليا عاصمة للثقافة الأوروبية في نفس العام ووقع وقتها الاختيار على مرقص رغم صغر سنه - كان وقتها يبلغ من العمر 22 عاماً- كي ينفذها مسرحياً وذلك لخبرته وكفاءته اللافتة، وقام بتحويل النص إلى عمل مسرحي بثلاثة أبطال لفت انتباه كل من حضره وحاز استحسان معظم المهتمين بالمسرح في بلجيكا".
ويؤكد اقويبعان أن "الهدف الرئيسي كان مساعدة فنان نؤمن به وبقدراته على بناء جمهور له هنا في أوروبا وبمسيرة فنية قيمة له، من هنا قمنا بتتبع مشوار مرقص خاصة بعدما أسس مسرح خشبة في حيفا الذي أنتج من خلاله أعمالاً أخرى كان منها مسرحية "شرق أوسط جديد" والتي شاركنا بإنتاجها معه، وهي عمل كان نتيجة إقامة فنية لمرقص في بروكسل وشارك أيضا في كتابة المسرحية ضمن مشروع الخشبة العالمية الذي كان الهدف منه إيصال مسرحيين عرب إلى المسارح البلجيكية هنا سواءً في بروكسل أو في المناطق الفلامانية، وتم عرض المسرحية في عدد من المدن الفلامانية وفي بروكسل، وبعد ذلك شاركنا في إنتاج العمل التالي "أماكن أخرى" الذي تناول قضية الهوية الفلسطينية في الشتات بالاستعانة بفنانين فلسطينيين من المهجر، وكانت مسرحية "المتحف" هي أحدث تعاون بيننا قمنا بالمشاركة في انتاجه جنباً إلى جنب مع مسرح خشبة في حيفا ومسرح "المسلخ" في سويسرا ومسرح فورآوت في مدينة جنت البلجيكية".
وبالشراكة مع "موسم" وغيره ستكون هناك جولة عروض أخرى لـ"المتحف" في 2020.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.