}

فيلم "البحث".. الآسيويون الأميركيون يقلبون الطاولة!

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 27 نوفمبر 2019
سينما فيلم "البحث".. الآسيويون الأميركيون يقلبون الطاولة!
"في قلب بلد السينما بنى Searching سردية خاصة به"
فعلها أخيراً الأميركيون من أصل آسيوي وفرضوا مقترحاً بصرياً جديداً لفرص نجاح فيلم سينمائي. ففي فيلمه الروائي الطويل الأول، بعد عدد من الأفلام القصيرة، يبدأ المخرج الأميركي من أصل هندي آنيش شاجانتي في فيلم ("البحث Searching" 2018) بتحفة فنية بصرية إنسانية دليلة البلاغات، يقترحها الشريط عبر عدد من العناصر التي ساهمت بنجاحه وجعله مختلفاً: الحدوتة الإنسانية عالية الشفافية حول علاقة الآباء بالأبناء، المشاعر الجياشة المندفعة عبر شاشات الحواسيب المنزلية، الإثارة المتصاعدة من مفصل إلى آخر من مفاصل الفيلم، الاعتماد الكامل بالنسبة للتصوير وباقي تقنيات الفيلم على عالم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي يعتمدها بطل الفيلم خلال بحثه عن ابنته المفقودة في ظروف غامضة.

بداية، وفي مرور سريع على حدوتة الفيلم، يروي "البحث" قصة اختفاء الصبية مارغوت كيم (الممثلة الآسيوية الأميركية الشابة ميشيل لا) في ظروف غامضة، وانطلاق عملية بحث مضنية يتبناها والدها ديفيد كيم (بطل الفيلم باقتدار الممثل الآسيوي من أصل أميركي جون تشو)، وما يسبق اختفاءها من رحيل والدتها باميلا (الممثلة الآسيوية الأميركية سارة سون) بعد صراع لم يطل مع مرض السرطان، وما تركه رحيلها من أثر بليغ على الأسرة الصغيرة، خصوصاً البنت التي لم تكن قد تجاوزت الثانية عشرة من عمرها عند رحيل والدتها.
تلك الحدوتة ولحظات تعامل الأسرة مع مرض الأم واللحظات الخاصة مثل عيد ميلاد أحد أفرادها أو أول درس بيانو للصغيرة مارغوت أو يوم الأب وما كتبته البنت لوالدها تلك اللحظة أو رحلة أو أي تفصيلة، نتعرف عليها جميعها من خلال شاشة رب الأسرة ديفيد، الذي لا ينسى حتى أن يصوّر لحظات تعليم باميلا ابنتها طريقة إعداد أكلة صينية شعبية.

لا يتوقف دور شاشة الحاسوب وشاشة الهاتف الذكي وحتى شاشة الجي بي إس الموجودة في السيارة عند تفاصيل الدخول في عالم الفيلم، بل ينجح المخرج الشاب (شاجانتي من مواليد عام 1991) في توريطنا بصيرورة الفيلم وأحداثه عبر مشاركتنا الأب ديفيد جلوسه أمام شاشة حاسوبه الشخصي أو المنزلي ومراقبة ردود فعله وأدق تفاصيل انتقاله من شاشة إلى أخرى، ومن أيقونة داخل الشاشة الواحدة إلى أخرى، سواء قبل حادثة الاختفاء وهو يتواصل مع ابنته خلال وجودها في المدرسة أو عند صديقاتها أو خلال تواصله مع شقيقه بيتر (الممثل الآسيوي الأميركي جوزيف لي) الذي يتصل بشقيقه بين الفترة والأخرى، إما باستخدام الفيس تايم أو وسيلة أخرى من وسائل التواصل الاجتماعي: السكايب، الماسنجر وما إلى ذلك. أو بعد حادثة الاختفاء عندما يسخر كل مهاراته الحاسوبية ويستنفر مهارات جديدة في سياق بحثه المضني عن ابنته ومحاولته فك لغز اختفائها، وصولاً لاتصاله عبر هذه التقنيات أيضاً مع قسم الطوارئ، ومن بعد ذلك تواصله مع المحققة روزماري فيك (ديبرا ميسينج) أيضاً من خلال وسائل التواصل الحديثة سالفة الذكر.

الرسالة الأكثر وضوحاً
100 دقيقة متواصلة (مدة الفيلم) من جلوس ديفيد وبالتالي جلوسنا معه أمام الشاشة منتقلاً من موقع إلى آخر، ومن بريد إلكتروني إلى آخر، مفجراً أقصى قدراته الذكائية ليحل معضلة عدم معرفته الأرقام السرية لحسابات ابنته الشخصية، ومقتحماً بالتالي عالمها الخاص بعد اختفائها، ليبدأ الفيلم هنا بسحرنا وتقديم وجبة إنسانية بليغة الدلالات. وربما من أكثر جمل الفيلم الحوارية (على قلتها) بلاغة، عندما يقول ديفيد لنفسه وللمحققة: لم أعرفها، أنا لم أعرف ابنتي مارغوت.
تحاشى ديفيد وعلى مدى عامين متواصلين بعد رحيل زوجته التطرق لها أمام ابنته ساعياً لمساعدتها على تجاوز المحنة، وهو الاجتهاد الذي يكشف لنا الفيلم عدم صوابيته. وهو ما واجهه به شقيقه في لحظة عصيبة من لحظات الفيلم، خصوصاً أنه وقع هنا بتناقض فادح دون أن يدرك، فهو أصر على مواصلتها تعلم العزف على البيانو، رغم أن تلك الدروس كانت تذكرها بأمها بشكل مباشر فهي عند نفس المدربة التي اختارتها والدتها، وهو ما باحت به لعمها ولم تبح به لوالدها الذي كان قليل السؤال لها راغباً بتقدمها وتفوقها وتجاوزها قصة موت أمها وهي ما تزال يافعة طرية العود، مظهراً صلابة غير حقيقية. إذاً، أصر على دروس البيانو من جهة ولم يتحدث مع ابنته حول آلام الفقد من جهة ثانية.

حتى وهو يتراسل معها معبراً عن فخره بها بعد أن أبلغته حصولها على علامة كاملة في مادة الأحياء، كتب رسالة أخرى بعد رسالة شعوره بالفخر مفادها: "وكانت والدتك ستكون فخورة بك أيضاً" ثم سرعان ما شطبها بعد كتابته لها ولم يرسلها.
تركيزي على هذا الجانب منبعه أنه الرسالة الأكثر وضوحاً داخل تفاصيل الفيلم.
في سياق آخر يلقي الفيلم ضوءاً على علاقة المحققة بابنها، ولأن الخوض في هذه العلاقة قد تذهب بي نحو تفاصيل ينبغي تركها لمن يرغب مشاهدة الفيلم، إلا أن الرسالة الثانية داخل Searching تتعلق بتفاصيل هذه العلاقة وأبعادها النفسية والاجتماعية والتربوية.

يخوض الفيلم تحدياً من نوع خاص: اقتحام عالم أفلام الإثارة الأميركية من بابها الواسع، عبر منصة إنسانية عميقة الرؤى

















تحد من نوع خاص
بفيلم ذي ميزانية إنتاج فقيرة (880 ألف دولار) يخوض آنيش شاجانتي (مخرجاً ومشاركاً في إنتاج الفيلم وفي مونتاجه وفي كتابة نصه) ومعه فريق عمله خصوصاً سيف أوهانيان (من أصول أرمنية غير بعيدة عن آسيا) شريكه في كتابة السيناريو وفي إنتاج الفيلم، تحدياً من نوع خاص: اقتحام عالم أفلام الإثارة الأميركية من بابها الواسع، عبر منصة إنسانية عميقة الرؤى، وعبر فريق عمل بمعظمه تقريباً من أصول آسيوية.
إنه تحد نجحوا به إلى أبعد الحدود، ليس على الصعيد المعرفي القيمي الجمالي البصري فقط، ولكن حتى بلغة الأرقام، فالفيلم الذي لم تتجاوز كلف إنتاجه المليون دولار، حقق أرباحاً وصلت إلى حدود 79 مليون دولار.


لا شك أن هناك أفلاماً غير Searching اعتمدت على فكرة إقحام لغة العصر وعالم التقنيات وثورة الاتصالات التكنولوجية الباهرة، لكن ما يميّز شريط شاجانتي هو ذكاء الاستفادة من هذا العالم، والانصهار الكلياني خلال دقائق الفيلم داخل هذا العالم، وتوظيفه كعنصر جوهري ساعد بتقليل حجم النثر والتمدد الأفقي لصالح تمدد عاموديّ رصد ردود فعل الشخصيات بمهارة فائقة ومصداقية عالية وتلقائية مدهشة.
تنقل الفيلم الذي نال جائزة Bandung Film Festival for Imported Film بحرفية عالية بين محوريه الرئيسيين: محور الإثارة (مع قليل من الهنات) ومحور الدراما، موظفاً موسيقى بالغة الحساسية، متناغمة إلى أبعد الحدود مع المشهدية المرافقة لها، ومحققاً إبداعاً مهماً على صعيد مونتاج الفيلم وتدفق مشاهده صعوداً وهبوطاً في إيقاعه بحسب ما تتطلب اللحظة الدرامية.
في قلب بلد السينما بنى Searching سردية خاصة به، ليست أميركية خالصة ولا آسيوية خالصة، راصداً أكثر اللحظات الإنسانية توتراً ونبضاً ودقات روح؛ علاقة الآباء بالأبناء، علاقة الأبناء بالآباء، الأثر الذي يتركه الفقد المبكر للأم (ركن الأسرة وقوامها) على مجمل وجود تلك الأسرة وعلى معناها ومتوالية أيامها.
رحلة طويلة جداً وعميقة جداً في العالم الرقمي شاركنا بها Searching بفريق ليس من الصف الأول على صعيد سينما هوليوود، حافراً في وجدانية التلقي ابتسامة مشوبة بالحزن والترقب، معلناً عن نجومية قصوى سوف يصعد لها من شاركوا بإنجاز الشريط الفذ، خصوصاً الممثل جون تشو الذي لا يمكن أن يتخيله المشاهد بسبب قدراته الأدائية الاستثنائية، إلا أباً صالحاً على أرض الواقع، صنع وحده، بإصراره وحبه العميق لابنته، الحل الجميل للغز صعب.

 * الفيديو الدعائي لفيلم البحث * 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.