}

فرانك أورباخ.. البحث عن الكمال الفني

سارة عابدين 20 نوفمبر 2019
تشكيل فرانك أورباخ.. البحث عن الكمال الفني
"أورباخ أحد أهم الفنانين البريطانيين بعد الحرب العالمية الثانية"
إذا حاولنا استعادة القصص المأساوية في الفن التشكيلي سنجد العديد من القصص لفنانين تشكيليين عاشوا حياة صعبة أو تجارب إنسانية مؤلمة، مما يعيدنا في أوقات كثيرة إلى تأثير الحياة الشخصية لكل فنان على فنه، وهل يجب فصل الفن عن الحياة والتعامل معه بشكل مستقل، أم أن كلاً منهما لا يمكن قراءته منفصلاً عن الآخر.
في سياق هذا التساؤل نستعيد التجربة الحياتية والفنية للفنان الألماني/ البريطاني فرانك أورباخ المولود في 29 أبريل/ نيسان 1931.
ولد أورباخ في برلين لأسرة يهودية ألمانية، لوالده الكيميائي ماكس أورباخ ووالدته طالبة الفنون شارلون ني بورشاردت، وقبل أن يكمل عامه الثامن أرسله والداه للدراسة في بريطانيا بمدرسة بونس كورت الخاصة باللاجئين خوفا عليه من جرائم النازية. بعد ذلك لم يلتق أبويه من جديد، ولم يعرف على وجه اليقين في أي معسكر قتلا، تلك الحادثة التي يعتقد مؤرخو الفن ومشاهدو لوحات أورباخ بقوة تأثيرها على تشكيل فنه وتقنياته في الرسم والتعبير.
أظهر أورباخ موهبة ضخمة في سن مبكرة، وبدأ دراسة الفن في مدرسة سانت أوريغو للفنون، ثم أكمل بالكلية الملكية للفنون. وإلى جانب موهبة الرسم امتلك أورباخ أيضا موهبة تمثيلية، وفي سن السابعة عشرة التقى خلال أحد العروض الممثلة الهاوية استيلا أوليفيا تويست (32 عاماً) وتوطدت علاقتهما وأصبحا مقربين، وكان لها دور كبير في مساعدته بالعثور على أسلوبه الفني الفريد.



أسلوب أورباخ الفني
يعتبر أورباخ أحد أهم الفنانين البريطانيين بعد الحرب العالمية الثانية، ليس فقط بسبب إرثه الفني، ولكن بسبب طريقته الفريدة في العمل التي تمزج بين التجريد والتشخيص، فقد حاول الغوص فيما وراء الشكل الخارجي للجسم البشري، بالإضافة إلى رسم صور مناظر طبيعية تظهر فيها الكآبة والألم، تزامنا مع الدمار الذي خلفته الحرب، لكن بشكل ديناميكي. كتب أورباخ يقول "أريد أن يتحرك كل شيء في اللوحة، كل خط وكل لون، كل اتجاه يرتبط بالآخر. عندما تعمل اللوحة، وقتها ستتاح الفرصة لقراءتها".
كان أورباخ يقضي أغلب وقته وأمواله على لوحاته، خاصة مع كميات الطلاء الضخمة التي كان يطبقها على لوحاته، حتى أن بعض أعماله كان من المستحيل تعليقها على الجدران، وعرضت بشكل مسطح في العديد من قاعات العرض. لذلك السبب رأى كثير من نقاد الفن أن فنه غريب وغامض. من أشهر اللوحات التي رسمها أورباخ بتلك الطريقة لوحة رأس جوليا عام 1960، حيث كانت موضوعاته الرئيسية تتنوع بين رسم زوجته جوليا باردلي ميلز والتي يشير إليها في لوحاته بحروف اسمها وصديقته وحبيبته إستيلا أوليف ويست (E.O.W)، ورسم المدينة والشوارع المحيطة بمرسمه.



أورباخ والرغبة في الكمال
ربما ترجع هيمنة الألوان القليلة والشاحبة في أعماله المبكرة إلى قلة التمويل، لكن مع تحسن إمكاناته المادية بدأ في توسيع اللونية وفي تجريب تقنيات مختلفة للتلوين. وبالرغم من أنه يصنف كفنان تعبيري، إلا أن أعماله تتجاوز التعبيرية إلى حد كبير، وعلى عكس العديد من الفنانين التعبيريين، لم يركز أورباخ على الربط بين المرئي والروحي، بل عمل على فصلهما تماما، وكان أي شيء وكل شيء كافيا ليلهم أورباخ فنيا، وكان يعمل على خلق اتصال عاطفي قوي بينه وبين موديلاته وعناصره، ما كان يسبب عدم رضاه في كثير من الأحيان عن عمله، ويعدد من مرات الكشط والبدء من جديد، وبالتالي تزايد عدد الطبقات في كل لوحة، وقد استخدم في عمله الفني السهام الحادة، والمفكات الصلبة، ويظهر ذلك من ملاحظة أعماله عن قرب، وتأثير كل أداة على شكل الخطوط وتعرجاتها في لوحاته.
يرجع قلة عدد البشر في لوحات أورباخ إلى عدم الرضى عن اللوحة في نهاية الأمر، ويمكن تطبيق ذلك على محاولاته في رسم المناظر الطبيعية في نفس المكان لأكثر من نصف قرن، ولنفس السبب نجد في أعماله العديد من النسخ لكل لوحة، بالإضافة إلى ما يقرب من 200 رسم تحضيري لكل لوحة.
يعتقد أورباخ أنه كلما اقترب من شيء ما زادت معرفته به وبمواطن جماله، ويرى أن عمل اللوحة بالكامل يرتبط بنسيان الذات، والتصرف بالغريزة، وهو يجد نفسه أكثر انخراطا في العمل الفني، عندما يشاهد الناس ويعرفهم، يكبرون ويتغيرون أمامه. يحاول أورباخ تسجيل ذلك التسلسل الذي يحدث، ومع كل التشابكات والتعقيدات في لوحاته، يصبح هناك شيء ما مستمر ومتنام لنفس الأشخاص والأماكن.
يقول أورباخ "ما أحاول صنعه هو لوحات رصينة ومستقلة ومتماسكة، لم يسبق لها مثيل من قبل. لوحات تطارد العالم مثل وحش جديد". هذه التراكمات الصادمة والعنيفة لألوان أورباخ هي ما جعلته مؤثرا وعميقا ومقلقا. القوام الغليظ لمخلوقاته الكثيفة والثقيلة يصنع كتلا لونية شديدة الصلابة تدعو المتفرج إلى تحسس تلك المتاهات اللونية.


أفكار أورباخ وفلسفته
بالرغم من حصول أورباخ على العديد من الجوائز، واعتباره واحداً من أهم فناني بريطانيا على قيد الحياة، فإنه غالبا لا يهتم لأمر الجوائز، ولم يطرأ أي تغيير على طريقته في العمل. تقول زوجته جوليا "طالما بقيت الجدران الأربعة قائمة، فلن ينتقل من الستوديو الخاص به". على عكس العديد من الفنانين لا يجمع أورباخ أي أعمال فنية، ولا يسافر أبدا، ولا يهتم بأمر الواجبات الاجتماعية، ولا يفكر كثيرا في الممتلكات المادية، ويعمل طوال أيام الأسبوع. ربما يعتبرها البعض حياة شاقة، لكنه يراها حياة ممتعة، تشبه حياة الزاهد، ولكنها مكرسة للفن بدلا من الأهداف الدينية أو الروحانية.
يقول أورباخ في لقاء له "بعض الرسامين لم تكن لهم حياة، أو كانت حياتهم شديدة التقشف، مثل موندريان. لكن إذا لم تكن هناك حياة، فلن يكون هناك شيء لنرسمه، في الوقت نفسه، إذا خضع الشخص للحياة تماما، فلن تكون هناك طاقة للرسم. ذلك الصراع الدائم هو فكرة إبداعية في حد ذاتها".

مراحل جديدة بعد انتهاء العمل
لا ينتهي أورباخ من اللوحة بمجرد رفعها من على حامل الرسم، لكنها تبدأ رحلة جديدة، حيث يأخذها وهي مبللة ويضعها بداخل صندوق خشبي، ثم يضع الصندوق فوق خزانة مرتفعة لمدة أسبوعين. بعد ذلك يتصل بوكيله الفني ليتناقشا معا بشأن اللوحة، ويطلق عليها أورباخ اسما، ثم يعيدها أعلى الخزانة مرة أخرى لمدة ستة أسابيع. بعد مرور الأسابيع الستة يتم تصوير اللوحة فوتوغرافيا بالألوان، والأبيض والأسود. عند ذلك فقط يقرر أورباخ أن اللوحة قد انتهت أو أنه سوف يعمل عليها من جديد، فهو يعتقد أن الخطيئة الكبرى في الحياة هي إخراج لوحة سيئة للعالم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.