}

"دغدغة العمالقة" لسارا تاكسلر: عن فنّ السخرية وتحدّياته العربية

نديم جرجوره نديم جرجوره 9 فبراير 2018
سينما "دغدغة العمالقة" لسارا تاكسلر: عن فنّ السخرية وتحدّياته العربية
مشهد من الفيلم

منذ اللحظة الأولى، يكشف "دغدغة العمالقة" (2016)، للأميركية سارا تاكسلر، مدى توافقه والحسّ الكوميدي الساخر، الذي يتمتّع به "بطل" الفيلم الوثائقي هذا، المصري باسم يوسف (1974). فالبداية معقودةٌ على "تحذير" موجَّه إلى مُشاهدي الفيلم ـ الفائز بجائزة "مهرجان وان وورلد السينمائي" (الدورة الـ11 لـ"المهرجان السينمائيّ الدوليّ لحقوق الإنسان" في بروكسل، في 4 مايو/ أيار 2017) ـ وتنبيههم إلى المناخ العام، وإلى المَشَاهد المتتالية، والمضمون الدراميّ الإنسانيّ الذي يُظهره سياق السرد الحكائيّ ليوميات طبيبٍ جرّاح يُصبح، بعد إسقاط الرئيس المصري السابق حسني مبارك، إثر "ثورة 25 يناير" (2011)، الوجه التلفزيوني الكوميديّ الساخر، الأكثر حضورًا ومتابعة ومُشاهدة، في بلدٍ مرتبكٍ ومُعطَّل، خصوصًا بعد الانقلاب العسكريّ (3 يوليو/ تموز 2013) على أول رئيس مُنتخب ديمقراطيًا (24 يونيو/ حزيران 2012).

 

"سيف" الدعابة

والتحذير واضحٌ: "رجاء أخذ الاحتياطات اللازمة عند تجربة أي أسلوب من الأساليب المتبعة في هذا الفيلم. التحدّث عن أي نظام قمعيّ قد يُسبِّب بعض الأعراض الجانبية، مثل: الصداع، تقلّب المزاج، الانتفاخ، عسر الهضم، فقدان الشهية، فقدان النوم، فقدان الوطن، فقدان الأصدقاء، فقدان الحقوق الدستورية المكفولة، الموت" (وغيرها). يُكمِل التحذير نصّه الساخر، بالقول إن الفيلم ربما "يكون غير مناسب لكلّ المُشاهدين"، مُضيفًا ما يلي: "إنْ كنتَ ديكتاتورًا، رجاء مغادرة هذه الغرفة فورًا".

لن يكون صعبًا تبيان مدى التطابق بين أسلوب كتابة النص التحذيري وشخصية باسم يوسف، المنصرف إلى قراءة أحوال بلدٍ واجتماعٍ وناسٍ بلغة محبَّبة وبسيطة وهادئة، تمتلئ بانتقاد ساخر من سلطات حاكمة، وتجعل مُشاهدي برنامجه التلفزيوني "البرنامج" يضحكون من قلوبهم، وينتبهون ـ في الوقت نفسه ـ إلى خرابٍ يعتمل في روح بلدهم وجسده، كما في أرواحهم وأجسادهم. ولن يكون صعبًا العثور على تشابهٍ بين باسم يوسف والأميركي جون ستيوارت، أحد أبرز كوميديي الشاشات التلفزيونية الأميركية، عبر برنامجه الأسبوعيّ "ذو دايلي شو"، الذي تتولّى سارا تاكسلر نفسها منصبًا أساسيًا فيه، بصفتها واحدة من "كبار منتجيه". فستيورات، بالنسبة إلى يوسف، مثالٌ يُحتذى، وتجربة يُستفاد منها، واختبار يُمكن الركون إليه في تحقيق برنامج "مصري" بحت.

التحذير مدخلٌ إلى فيلمٍ وثائقيّ (111 دقيقة) يروي حكاية رجلٍ أصاب سلطةً باضطراباتٍ جمّة، لشدّة براعته في تحويل النقد اللاذع إلى كوميديا ساخرة، تقترب كثيرًا من أحوال أناسٍ يتوقون إلى خلاصٍ أكيدٍ من سطوة القبضة العسكرية، لكنهم يقعون في فخّ قبضة عسكرية أخرى: "في 3 أعوام، تخلّصنا من رئيسٍ عسكريّ للتوصّل إلى رئيسٍ أكثر إخلاصاً للجيش" (باسم يوسف). بين القبضتين، يعيشون خيبة الأمل بانتخاباتٍ ديمقراطية حرّة، إذْ يعجزون عن تحصين هذا الحقّ من تنانين السياسة والاقتصاد والمال والإعلام، التي تنقضّ على تلك الخطوة "الإيجابية"، والتي لن تتمكّن إطلاقًا من تحمّل "نكتة ساخرة"، تُعتبر إحدى السمات التاريخية والجوهرية لشخصية الإنسان المصريّ.

لكن، عندما تكون "الدعابة أشدّ من السيف"، فإن الحاكم العسكري يخشاها، ويحول دون السماح للتعبير، عبرها، عن رغباتٍ وأحلامٍ وانفعالاتٍ وحاجاتٍ وأحاسيس. والحاكم العسكريّ نفسه يُدرك، تمامًا، ذاك القول المتداول، الذي يُفيد بأن "حرية أي شعبٍ تُقاس بمدى قوّة ضحكته"، ما يدفعه إلى إحكام قبضته القامعة، تحسّبًا لمنع خلخلة نظامه. ولعلّ إشارة جون ستيوارت نفسه، الذي يستضيفه باسم يوسف في إحدى حلقات "البرنامج"، تبقى الأقدر على توضيح المسألة برمّتها: "إنْ لم يكن نظامك قويًا بما يكفي للتعامل مع النكات، فليس لديك نظام". والقوة لن تكون بطشًا، بل ثقة في النفس، وحسن قيادة مبنية على ركائز ديمقراطية عادلة.

 

حكاية بلدٍ واجتماعٍ

فـ"الدعابة لم تركب دراجة نارية مع عصا"، يُضيف ستيورات، قائلاً: "لم نرَ نكتة تُطلق الغاز المسيل للدموع على مجموعة من الناس في حديقة". لهذا، يعجز الرئيس عبد الفتاح السيسي عن الإجابة على سؤال مُحاورٍ تلفزيوني أميركي، يتناول إيقاف برنامج كوميدي ساخر في مصر. لقطة الوجه الصامت للسيسي، بابتسامة مشوبة بغضب مبطّن، تُشكِّل أحد المعالم الأساسية لـ"دغدغة العمالقة": تفكيك تلك السلطة الحاكمة، لأنها معقودة على كمّ الأفواه، وزجّ المطالبين بحقوق طبيعية وشرعية للناس في سجون عهدٍ، لن يختلف البتّة عن عهود عسكريين أو مخلصين للعسكر، منذ ثورة "23 يوليو" (1952).

يستعيد "دغدغة العمالقة" ـ المعروض للمرة الأولى دوليًا في الدورة الـ15 (13 ـ 24 إبريل/ نيسان 2016) لـ"مهرجان ترايبيكا السينمائيّ الدوليّ" في نيويورك، والمعروض لبنانياً في الدورة الثانية (11 ـ 14 يوليو/ تموز 2017) لـ"كرامة ـ بيروت، مهرجان أفلام حقوق الإنسان" ـ مراحل مختلفة من الأعوام القليلة التي يظهر باسم يوسف فيها، بين "ثورة 25 يناير" (أول حلقة من "البرنامج" تبثّها قناة "أون تي في" المصرية، في الأول من أغسطس/ آب 2011، بعد أسابيع عديدة على إطلاق حلقات "باسم يوسف شو" على "يوتيوب"، بدءًا من 8 مارس/ آذار 2011، التي سيبلغ عددها 109، يُشاهدها 15 مليون مُشاهد) وانتقاله إلى الولايات المتحدّة الأميركية برفقة زوجته هالا وابنتهما، بعد انقضاض سلطة السيسي عليه.

يواجه باسم يوسف تحدّيات سياسية جمّة. بعد "ثورة 25 يناير" بأشهرٍ عديدة، تُرفع دعوى قضائية ضدّه، بتهمة السخرية من "شخص الرئيس"، و"ازدراء الإسلام". في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، تُهمٌ وتهديداتٌ مبطّنة وعلنية، ومواطنون غاضبون، وضغوط داخلية (محطة "سي. بي. سي"، ولاحقًا محطة "أم. بي. سي. مصر") وخارجية (السلطة، القضاء، الناس، رغم أن قلّة منهم تخضع لمشيئة الحاكم، في مقابل أعدادٍ أكبر من المدافعين عن "البرنامج"، علمًا أن هناك نحو 30 مليون مُشاهد من أصل 80 مليون مواطن، يتابعون حلقاته الأسبوعية في ذروة نجاحه التجاريّ). هناك، أيضًا، الجانب العائلي، وبداياته المهنية كطبيب جرّاح، وانتقاله إلى غرفة غسل الملابس في بيته، للبدء بحلقات الـ"يوتيوب"، إذْ يعترف يوسف بأنه عاشقٌ للسخرية، ومتأثّر بجون ستيوارت. يعترف بأنه راغبٌ، حينها، في برنامج كوميديّ ساخر، كعمل ستيورات؛ وبأنه طامحٌ إلى السخرية، في شؤون السياسة والبلد وأحوال الناس والمجتمع؛ لكنه يُدرك، في الوقت نفسه، أن المشكلة الوحيدة كامنةٌ في: "أنا أعيش في مصر".

 

أسئلة معلّقة

استعادة "دغدغة العمالقة" كامنةٌ في مشهدٍ عربيّ يبدو منبثقًا من داخل الفيلم الوثائقيّ نفسه: اعتراض سلطوي على فن السخرية والإضحاك، رغم أن عاملين عربًا في هذا المجال يركنون إلى التسطيح والتصنّع والمبالغة في الادّعاء الكوميدي. مشهدٌ تعيشه بيروت والقاهرة، أكثر المدن العربية عجزًا عن حماية هامشٍ، ولو ضئيل، من حرية قول وبوح، تتلاءم (الحرية) ومفردات ثقافة متكاملة من العيش والوعي والمعرفة (يُخشى عليها من الانقراض التام، لفقدان الكثير منها حاليًا)، تؤهّل الاجتماع برمّته لتقبّل فن السخرية. فالمدينتان العربيتان مسكونتان بذعرٍ وارتباكٍ، ناتِجَين عن تشدِّد سلطويّ إزاء أنماط القول، وعن تساهل نقديّ إزاء أساليب القول، رغم أن التشدَّد أعنف وأحدّ، في تعامله مع الاجتماع كلّه، من التساهل.

فالقضاء اللبناني، مثلاً، يُطارد أفرادًا يحاولون جعل السخرية أداة تشريحٍ لبلدٍ منهار، رغم سذاجة أفعالهم، وعدم اكتمالها، ثقافيًا وجماليًا وإبداعيًا؛ وفنّ الضحك والكوميديا في القاهرة يعيش، سينمائيًا وتلفزيونيًا، أسوأ مراحله. البرامج الكوميدية اللبنانية أسيرة ضعفٍ بنيوي يُصيب صانعيها ومُقدّميها، لهشاشةٍ فاضحةٍ في الوعي المعرفي والثقافي، ولانشقاقاتٍ في السياسة والطائفة والعلاقات؛ وصناعة الابتسامة الصافية في القاهرة مُشوّهة وممزّقة، لشدّة اهتراء اليوميّ والحياتي والإنساني. مع هذا، فـ"أن يكون الكوميديّ رجلاً مطلوبًا أمرٌ صادمٌ فعلاً"، لكنه لن يؤدّي، حتمًا، إلى انقلاب السخرية على من يُطارِد "شخصًا ساخرًا"، كما قيل في "دغدغة العمالقة". هذا لأن جزءًا كبيرًا من حالة السخرية في العالم العربي محكوم بدجلٍ ثقافي وفني، لا بحيوية الإبداع ومتطلّباته.

هذا كلّه جزءٌ من سطوة القمع المتنوّع الذي تُعانيه المدينتان وأبناؤهما، والثقافة فيهما ونتاجاتها، والفنون، التي تصنعانها، وأساليب قولها. ولعلّ المشهد مطلوبٌ، إذْ لن يكون باسم يوسف وحده "ضحية" العجز السلطوي العربيّ عن احتمال نكتة وسخرية، ولن تكون برامج كوميدية تلفزيونية لبنانية كثيرة ضحية الاستسهال والسطحية والادّعاء، وضحية حماقة سلطوية في مطاردة حماقة التصنّع.

"في زمن الذعر والخوف، من الصعب جدًا تقبّل المحاكاة الساخرة". خلاصةُ فيلمٍ وثائقيّ تنضح بوقائع عيشٍ في "مدنٍ من قلق" (عنوان فيلم لـ"الجزيرة الوثائقية")؛ وخلاصةُ حالةٍ عربيةٍ تعاني مآزق وانكسارات وخيبات.

 

* ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.