}

داود عبد السيّد: "أرض الخوف" المليئة بـ"أحلام"

نديم جرجوره نديم جرجوره 17 سبتمبر 2018

ـ 1 ـ

بعيدًا عن تكريمٍ يستحقّه، رغم أن جماليات سينماه وحضورها الفاعل في المشهد السينمائي العربي أهمّ وأعمق وأقدر على كشفِ شيءٍ كثيرٍ من حيوية اشتغاله وسجاله وأسئلته؛ فإنّ اختياره كأحد أبرز المُكرَّمين في الدورة الثانية (20 ـ 28 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان الجونة السينمائي الدولي" يُساهم في تثبيت مكانة المهرجان، ويؤكّد على أهمية تنبّه مهرجانات سينمائية عربية إلى سينما مُشاكسة وصادمة.

 


وبعيدًا عن مناخٍ يفرضه المهرجان في تكريمه مخرجًا يصنع سينما تبوح بحميميةِ ذاتٍ في مواجهتها الجماعة والعالم، وترافق أفرادًا في مساراتهم المشحونة بالاضطراب والقلق والتمزّق؛ فإنّ التكريم بحدّ ذاته دعوة إلى إعادة مُشاهدة أفلامه المصنوعة في فتراتٍ سياسية واقتصادية واجتماعية ملتهبة في بلده، والمتمكّنة ـ بشكلٍ أو بآخر ـ في المحافظة على استقلالية درامية في سرد حكاياتٍ أو تصوير حالاتٍ أو رسم ملامح بيئة وأناسٍ، باستخدام الصورة السينمائية والسعي الدائم إلى بلورة أشكالها في قراءة وقائع وانفعالات وتفاصيل.

 

فأفلام داود عبد السيّد (1946) تحفر عميقًا في المخبّأ في لاوعي الفرد، من دون أن تتغاضى عن وعي يتحكّم بسلوكٍ أو علاقة أو شعور أو تفكير؛ وتغوص في متاهات المبطّن كي تكتشف شيئًا من آليات اشتغاله وتبيان صُوَره وأحواله؛ وتتلصّص على المخفيّ في مستويات العيش، الشخصي البحت أو الجماعي العام، كي تُضيء جانبًا منه، أو كي تناقش بعضًا منه، أو كي تكشف جزءًا منه. أفلامٌ توحي بقولٍ مُباشر، لكنها تنسحب سريعًا إلى مسافة لا علاقة لها بالمُباشر، دافعةً إلى إعمال العقل والإحساس معًا في رفقة شخصيات تتوه في مسارب الحياة، وتقتنص فرصًا كي تتبوّأ مراتب، أو كي تحصل على ثباتٍ في معركة وجود، أو كي تبوح بتفكيرٍ أو مسلكٍ أو لا شيء.

 

ـ 2 ـ

وإذْ يتفنّن النقد السينمائي في قراءة أفلامه والإمعان في تفكيكٍ متنوّع لمضمونٍ أو مناخٍ أو لغة، انطلاقًا من جمالية صنيعه بحدّ ذاته وهو (الصنيع) يلتقط هوامش حياةٍ أو اجتماعٍ، إلاّ أن كلّ فيلمٍ من أفلامه الروائية الطويلة الـ9، المُنجزة بين عامي 1985 و2015، قادرٌ على إثارة مُشاهدة عادية وممتعة تورِّط المُشاهد في مساربها العديدة، مانحة إياه ـ في الوقت نفسه ـ مداخل كثيرة لولوج ذاته وأوهامه وهواجسه وانفعالاته، من خلال قصص واقعية، ومسارات درامية عادية، وعلاقات إنسانية عادية، وشخصيات عادية. لكن هذه "الواقعية ـ العادية"، المتمكّنة من تنبيه المُشاهد إلى جمال التقاطها وتصويرها، مفتوحة على كلّ ما يحلو للمُشاهد أن يُفكِّر فيه أو أن يشعر به: خراب روح، وتمزّق حالة، وانكسار وخيبة، وحب وأوهام ومشاغل وارتباكات، أو أحلام وإنْ تكن موؤودة، أو رغبات وإنْ تكن مُعطَّلة.

 

فالتحوّل القاسي من قاع اليوميّ إلى عنف التسلّط في الزمن الناصريّ يُمكن أن يكون مجرّد حكاية عن صديقين يواجهان تحدّيات العيش في زمن انقلابات تؤثّر، بشكلٍ أو بآخر، عليهما وعلى أحوالهما ("الصعاليك"، 1985). والتسلّل إلى داخل عصابة تُتاجر بالمخدّرات لن يبقى أسير فعل تشويقي عن مطاردة بلهاء بين شرطة وتكتّلات إجرامية (كما في أفلامٍ كثيرة أخرى)، لأنه يفتح أفقًا واسعًا على أسئلة الحياة والموت والواجب والأخلاق والالتباسات واللحظات المعلّقة بين متاهات ودهاليز ("أرض الخوف"، 2000). والخوف من السفر مدخلٌ إلى معاينة سينمائية دقيقة لمعنى البقاء والسكينة في الروتين اليومي، ولمغزى التجوال في قلق الروح واضطراب المشاعر وتناقضاتها، ولأحوالٍ مُقيمة في جوانب المدينة وهوامش الحياة، ولتفاصيل العلاقات المضطربة والمُشوَّهة بين المرء وذاته أساسًا، وإنْ يتمكّن البعض من بلوغ نوعٍ من مُصالحة ستبقى ملتبسة الصورة النهائية ("أرض الأحلام"، 1993).

 

ـ 3 ـ

أمثلةٌ كهذه لن تُختصر بـ3 أفلام تمنح مُشاهدها أكثر من متعة بصرية، تدفعه إلى مزيدٍ من قلقٍ مشروعٍ إزاء خراب يعتمل فيه أو في ما يُحيط به من أناسٍ وحالات. مُتعة مفتوحة على تساؤلات وجماليات، وعلى تمعّن عميقٍ ببهاء أداء تمثيليّ ممتدّ من نور الشريف ومحمود عبد العزيز (الصعاليك) إلى أحمد زكي (أرض الخوف) مرورًا بفاتن حمامة في دورها السينمائيّ الأخير (أرض الأحلام). عبد العزيز نفسه سيتفوّق على صلاح (الصعاليك) بفضل الشيخ حسني ("الكيت كات"، 1991)، فهو، قبل 6 أعوام على الاقتباس السينمائي الجميل لرواية "مالك الحزين" (1983) لإبراهيم أصلان (1935 ـ 2012)، ممثّل يخطو خطوات أولى في عالم النجومية، ويجتهد ـ بهدوء يليق بساعٍ إلى حِرفية محمَّلة ببراعة وعمق ـ كي يجعل من تقنية التمثيل ركيزة ابتكار وتغيير وبلورة. وإذْ يُرافقه نور الشريف في تلك الخطوة، بما لديه من حساسية ممزوجة بوعي معرفي ونجومية لن تحول دون تقديم فنّ الأداء على كلّ ما عداه؛ فإن لداود عبد السيّد فضلاً كبيرًا في الدفع قدمًا إلى مزيدٍ من الحرفية الجميلة، التي يُقدِّم عبد العزيز شيئًا جميلاً منها في "الكيت كات".

 

وفي مقابل الحضور الطاغي لفاتن حمامة، بعد سنين مديدة من جهدٍ وحرفية وحضور يصعب تفسيرها أو تحليلها، فإن أحمد زكي ـ الضابط المتسلّل إلى أعماق عالمٍ يمزج الجريمة بأهوال الجحيم، ويغيب في دهاليز الخراب بعد انغلاق باب العودة أمامه ـ يُتيح للمُشاهد متعة المُشاهدة، والذهاب بعيدًا في قراءة المخبّأ في ثنايا النص واللغة والمباني العديدة في "أرض الخوف" تلك: "فعلاً، هناك مستوى ميثولوجي عن نزول آدم إلى الأرض، وهذا واضح في الأسماء والتفاصيل. وهناك مستوى سياسي يتعلّق بالجيل الذي أنتمي إليه، وهو جيل تمّ إعداده لمهمة ثم تغيّرت المهمّة فجأة. نحن جيل نشأ وسط أهداف قومية عربية اشتراكية ضد الاستعمار، ليُلغي (أنور) السادات كلّ هذا بعد أن كبر الجيل وتشكّل وعيه على الأهداف السابقة. هناك أيضًا المستوى الوجودي، المتعلّق بأن الإنسان هو أعماله لا أهدافه، (فأنتَ في النهاية) أفعالك وما قمت به في حياتك" ("داود عبد السيّد، محاورات أحمد شوقي"، الجمعية المصرية لكتاب ونقّاد السينما، الدورة الـ30 (10 ـ 15 سبتمبر/ أيلول 2014) لـ"مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسّط"، ص. 55).

 

ـ 4 ـ

هذه نماذج. أفلام أخرى لداود عبد السيّد لن تكون أقلّ أهمية، وإنْ تختلف في كيفية اشتغالها السينمائيّ، ولو قليلاً. محاولة التوفيق بين الجماهيري والسجاليّ مطلوبة، إنْ يُمكن القول إن "مواطن ومخبر وحرامي" (2001) قابلٌ لوصف كهذا. فاختيار شعبان عبد الرحيم لأداء أحد الأدوار الرجالية الرئيسية الـ3، إلى جانب خالد أبو النجا وصلاح عبدالله، لن يبقى مجرّد مزاوجة بين الشعبيّ والسجاليّ، لأنه اختبار سينمائيّ لمدى إمكانية طرح تساؤلات جمّة في قالب يُراد له أن يتوافق وبعض الرغبات الجماهيرية. وهذا لن يكون اقتناصًا من أهمية العمل، خصوصًا أن عبد السيّد منطلقٌ في اختيار المغنّي الشعبي من قناعة لديه، مفادها أن المخرج لا علاقة له بالممثل إلاّ في الدور الذي يستعين به لأدائه.

 

مع خالد أبو النجا، ينتقل داود عبد السيّد إلى "قدرات غير عادية" (2015). كأن المخرج، باكتشافه ما يُثير حشريته السينمائية في النبش مجدّدًا في ذات الممثل وإمكانياته، عازمٌ على منح ممثله هذا مجالاً أوسع لاشتغالٍ تمثيلي يتجدّد ويتطوّر ويُترجِم بصريًا رغبات المخرج وحاجاته الفنية والدرامية والإنسانية. أميل إلى اعتقادٍ مفاده أن المخرج، بتعاونه الأول مع ممثل، يجد صعوبة في الاكتفاء من قدراته وجماليات أدائه وتمكّنه من إيفاء الشخصية وعوالمها وتركيبتها (الاجتماعية والنفسية والحياتية) ما تحتاج إليه (بسبب نوع الشخصية والدور أحيانًا)، ما يدفعه إلى تعاونٍ ثانٍ ربما يُلبّي بعض المطلوب. هذه لن تكون قاعدة ثابتة، لكنّي أراها في التعاون القائم بين عبد السيّد والثنائي محمود عبد العزيز وخالد أبو النجا مثلاً.

 

إذْ تؤكّد التجربة الأولى (عبد العزيز) صوابيتها في إخراج بعض الجديد والمتألّق في التعاون الثاني، فإن شيئًا من هذا حاصلٌ في اختبار التعاون مع أبو النجا أيضًا: ففي "مواطن ومخبر وحرامي"، يبدو أبو النجا كأنه يُقدِّم نفسه كممثل يمتلك أداوت تعبير أدائي متلائمة وشخصية المواطن، رغم حضور تلفزيوني طاغٍ له قبل هذا الدور. أما "قدرات غير عادية" فآتٍ بعد أعوام على تجارب تمثيلية مختلفة له، وعلى تنويع بصريّ يجعله أحد أبرز ممثلي السينما المصرية الشبابية والتجديدية، ما يُغري سينمائيًا مثل داود عبد السيّد كي يختبر، مجدّدًا، "قدرات" الممثل التي لن تكون "عادية" في فيلمٍ يخرج من عاديته إلى ما هو عميقٌ في صلب المعاناة الحاصلة في الاجتماع المصري، في العلاقات المرتبكة بين الناس المختلفين بعضهم عن البعض الآخر، والشرائح المتناقضة في الثقافة والتربية والسلوك والقناعات، والعاجزة عن توافقٍ اجتماعي في بلدٍ مُفكَّك ومنهار.

 

ـ 5 ـ

هذه محاولة لفهم بعض اشتغالات داود عبد السيّد، المحتاجة إلى مساحة أوسع لما فيها من مفاتيح تتيح للمهتم دخول عوالم وحكايات، والتنبّه إلى معالم إنسانية وآليات عمل. هذه محاولة لن تتغاضى عن "رسائل البحر" (2010) أيضًا، الذي يُضيء أمورًا جوهرية في الحياة العامة، كالوحش العقاري والحيتان التي تغتال الفرد العادي. لكن الأهمّ من هذا كامنٌ في تبيان أحوال متعلّقة بمسبّبات "ثورة" أو "انتفاضة" أو "حراك مدني"، يعكس السينمائي ـ في أفلامه ـ شيئًا من نبضها. ففي "رسائل البحر" مثلاً، وقبله في "مواطن ومخبر وحرامي"، يكشف داود عبد السيّد بعض "ميكانيزمات" الفساد الحاصل في المجتمع برمّته، في محاولة دؤوبة منه لفهم الواقع ولمعرفة خفاياه وللإمعان في رؤيته ورؤية المبطّن فيه. أفلامه غير تحريضية، على غرار "هي فوضى" (2007) ليوسف شاهين (وخالد يوسف)، بل كشفًا سينمائيًا لما يعتمل في المجتمع والفرد والنظام المتكامل من أهوال ومصائب. وكشفٌ سينمائيٌّ كهذا أهمّ من أي شيء آخر.

 

وهذا من دون تناسي "البحث عن سيّد مرزوق" (1991)، الذي يغوص في لعبة تبدو كوميدية وساخرة في ظاهرها، لكنها غائصةٌ في ارتباكات ذاتٍ وسلطة ونظام. بينما يعكس "سارق الفرح" (1995)، المستند إلى قصّة لخيري شلبي (1938 ـ 2011)، عالم العشوائيات وما فيه من تحدّيات ومصاعب وحكايات. وإذْ يتعاون مع نور الشريف مجدّدًا ليبحثا معًا عن "السيّد مرزوق"، فهو ينقل لوسي من مغنيّة فيه إلى ممثلة في "سارق الفرح"، ستُظهر شيئًا من براعتها الأدائية.

 

لهذا كلّه، يُفترض بتكريم داود عبد السيّد في "مهرجان الجونة" ـ بمنحه "جائزة الإنجاز الإبداعي" ـ أن يُحرِّض على مُشاهدة إضافية لنتاجٍ يجعل السينما مرايا ذات وبيئة وأحوال، وينقل النص المكتوب إلى متتاليات بصرية تكشف وتسأل وتقول، مستعينةً بلغة سينمائية تلتقط شيئًا من وقائع العيش في "أرض الخوف" المليئة بـ"أحلام" مُعطّلة.

 

*ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.