}

"قصص العابرين" لقتيبة الجنابي: صُوَر المنافي وحكايات العيش

نديم جرجوره نديم جرجوره 1 فبراير 2018
سينما "قصص العابرين" لقتيبة الجنابي: صُوَر المنافي وحكايات العيش
من أعمال قتيبة الجنابي

تحتلّ الصُوَر الفوتوغرافية، تلك المُلتَقَطة بالأسود والأبيض أو بالألوان، مكانةً بارزة في المشاهد السينمائية المصنوعة في "قصص العابرين" (2017)، الوثائقي الجديد للعراقي قتيبة الجنابي. مكانة تعكس جماليات فنٍّ، يصوغ الجنابي لقطاته بلغةٍ تضبط إيقاع اللحظة وفضاءها المفتوح على اختزالاتٍ وتعابير، وبأسلوبٍ يتكامل واشتغاله السينمائي، المنبثق من حكاياتٍ خاصّة، هي جزءٌ من تاريخ بيئة وبلد واجتماع.

والصُوَر الفوتوغرافية ـ التي يتفنَّن قتيبة الجنابي في تحويلها، أحيانًا عديدة، إلى قصصٍ تتتالى حكاياتها من لقطةٍ إلى أخرى، في كتابٍ أو فيلمٍ أو معرضٍ ـ تقول إنّ لثنائية الأسود والأبيض، مثلًا، دلالة أعمق إلى ما يعتمل فيه من انفعالٍ أو اضطراب أو قلق؛ وإنّ للألوان ألق البحث عن المكامن الراهنة، إما لرغبةٍ في مقارنة مع ماضٍ بعيد، وإما لسعيّ إلى اكتشاف الآنيّ بعينٍ مختلفة. وإذْ يتماهى الأسود والأبيض مع ذاكرةٍ فرديةٍ، فإن الألوان مدخلٌ إلى عوالم (لا علاقة لها بذاكرة فردية) يُدركها الجنابي، ويحيا فيها، ويتفاعل معها، ولعلّه يبقى على مسافةٍ منها أيضًا.

سيرة اغتراب وتساؤلات

هذا كلّه نابعٌ من حساسيةٍ لديه إزاء سيرته ومفاصلها، وإزاء ذكرياته ومنعطفاتها، وإزاء عيشه الآنيّ وتقلّباته. فالمفاصل مداخل جمّة إلى سيرة مجبولة بهجرة أو باغتراب دائمين، أو بفقدان وتساؤلات ـ معلّقة وغير منتهية ـ تولّد مزيدًا من خيبات ومَوَاجع، أو برغبات مفتوحة على ضجيج الحنين، وتلك الإمكانية الغريبة على احتمال المنفى. والمنعطفات مسارات تمتلك رفاهية البوح الجماليّ، وبراعة الاختزال المُكثَّف لتاريخ ومحطات وأشواقٍ وسعي محمومٍ إلى أجوبة، وإن تكن غالبيتها الساحقة غير مكتملة. أما التقلّبات، فناشئةٌ من جوهر الحكاية الأولى: انسلاخٌ من بيئةٍ أصليّة، وأسفارٌ في بيئات تتناسل من بيئاتٍ ومغامراتٍ واكتشافاتٍ، ورحلاتٌ تجوب طرقات، و"الطرق كلّها تؤدّي إلى المنفى"، و"الطرق كلّها بعيدة عن بغداد"، كما يقول الراوي، بصوتٍ مُثقَلٍ بألف همّ ورغبة واجتهادٍ، في "قصص العابرين".

وإذْ يؤكّد قتيبة الجنابي، بلسان الراوي، على أن الكاميرا التي يحمل هي "عزاء روحي"، وهي "مثل بساط علاء الدين" أيضًا، فيمضي معها وعبرها إلى بحثٍ عن صُوَر أولى له عن بغداد وفيها، قبل أن يجد نفسه "مدفونًا" في آلاف الصُوَر الملتقطة في بلاد غريبة لا تعرفه؛ فإن صُنع مكانة بازرة للصُوَر الفوتوغرافية في السياق الدرامي لـ "قصص العابرين" ينتج من شغفٍ ـ إنساني ومعيشي وتأمّلي وجمالي ـ بالمعاني التي يُمكن لصُوَر كهذه أن تُبرزها وتكشفها أمام عيونٍ وأرواح وانفعالات. معانٍ "تؤرّخ" لحظة أو أكثر، وانفعالًا أو أكثر، لكنها تخرج من جمود التأريخ إلى اتّساع الحياة على تقلّبات وتحدّيات ومصاعب وأهواء، ومن قسوة اللحظة إلى مواجهة الأصعب في التقلّبات والتحدّيات والأهواء تلك.

 

من أعمال قتيبة الجنابي 

والراوي نفسه يبدو كمن يُحدِّد إنجازه السينمائي الجديد هذا، بقولٍ واضح ومباشر: "أبحثُ عن حدود الأوطان/ غرف فنادق وحكايات عابرين". هذا متأتٍ من مُصيبة عيشٍ في بلدٍ معقود على حروبٍ وقمع وتمزّقات وتغييب وفقدان: "تحوّلنا إلى أرقامٍ بسبب الحروب والقهر والخوف الدائم". هذا يبدأ في اللحظات الأولى للنصّ الوثائقي، المفتوح على أجمل صُوَر سينمائية في صناعة المشهد، إذْ تهطل أمطار غزيرة، وتصدح أصوات رعد وبرق، تُشبه قصفًا وضجيج حربٍ؛ بينما الألوان الغامقة (الرماديّ المائل إلى أسود ملتبس بملامحه وبعض إضاءاته الخفيفة)، جرّاء هطول الأمطار في لحظة شبيهةٍ ببداية المساء، إحالة بصرية إلى مسار لاحقٍ، يكشف عمق الجراح المنبثقة من خروجٍ مفروضٍ، تقول به والدةٌ تخشى مصيرًا لابنها يكون، هو نفسه، مصير أبٍ مغيَّب/ مفقود.

الميل إلى بداية مُشبعة بثنائيةٍ متكاملة (رعد وبرق وأمطار غزيرة/ قصف؛ ألوان غامقة في بداية المساء/ أحاسيس الاغتراب والمنافي والارتباك) تقديمٌ لمسار زمني ـ مكاني مفتوح على أسئلة المنفى والفقدان والهوية والانسلاخ والألم. وهذا الأخير ذاتيّ ـ نفسيّ ـ روحيّ لشابٍ يتمكّن ـ في الـ 17 من عمره ـ من مغادرةٍ، محفوفة بالمخاطر، من مدينته، كي يبدأ حياته، "من دون وطن ومن دون عائلة ومن دون معرفة مصير والدي المغيَّب".

خياراتٍ ومَواجع

والمغادرة لن تبقى مجرّد مغادرة، بقدر ما تكشف مسارًا جديدًا، بكل ما تحمله مفردة "جديد" من تحدّيات ومواجهات ومغامرات، ومخاطر أيضًا. في حين أن تساؤلَ الراوي، باسم الفنان نفسه، لحظةُ تأمّل في مصيرٍ يتمثّل في المقبل من الأيام: أهو الفنان الذي اختار الغربة "ودروبها الفارغة والموحشة"، أم الغربة اختارته، لتمنحه عيشًا في صقيع وقلق وخوف وضيق، فيعزم على التقاط "جمالها" فقط؟ هذا صراعٌ يفتتح الجديد في حياة شابٍ يبلغ 17 عامًا. بل هذا نزاعٌ يعثر في الصُوَر ـ الفوتوغرافية والسينمائية ـ على دروبٍ جمّة تعينه على اكتشاف أجوبة، وإنْ تبقى قليلة أو غير مكتملة؛ وتمنحه براعة صنيع بصريّ، كي يتمكّن من إكمالِ عيشٍ في متاهات الدنيا ووقائعها.

هذا كلّه غير مكتمل، بصريًا وإنسانيًا ودراميًا، من دون نصٍّ يتلوه راوٍ، ببحّةٍ مُتْعَبةٍ وقَلِقةٍ ومرتبكة، يسرد حكايةَ سينمائيٍّ مولعٍ بالتصوير الفوتوغرافي، الذي يدفعه إلى بحثٍ فني وتأملي وفكريّ في أحوال بيئة يُغادرها، وفي أنماط عيشٍ يمارسها خارج بيئته، وفي أشكال مواجهة وتحدّياتٍ، يبقى بعضها ماثلًا، بجماله وذكرياته، في ذات المخرج، إذْ يُهدي "قصص العابرين" إلى ولديه عائشة وداود، متمنّيًا لهما ألاّ يُضطرّا إلى خوض تلك التجربة؛ ويشكر بودابست، أول المنافي ربما، لأنها مانحةٌ إياه "أجمل السنين".

والكاميرا، بالنسبة إلى قتيبة الجنابي، اثنتان: فوتوغرافية تُشبع فيه ميله إلى اقتناص اللحظات وتحصينها من كلّ اندثار ممكن في أرشيفٍ مفتوحٍ على نبض حياة، ومسار ذاكرة؛ وسينمائية تحاول الاستفادة من الصُوَر الفوتوغرافية بما يتيح لها إمكانية التوغّل في هاتين الحياة والذاكرة، فيُضيف إليهما متتاليات بصرية تُكمل روايات الصُوَر نفسها، أو تسرد كلّ جديد ممكن، منها ولها وحولها. هذا غير منفصلٍ عن "أداةٍ" تستعيد شيئًا من ذاكرة طفولةٍ مضروبةٍ بانسلاخٍ من البيئة، وبخروجٍ من المدينة: المذياع. فالأشياء القديمة حاضرةٌ في "قصص العابرين"، كهاتفٍ (له رنين قاسٍ، تزداد قسوته عندما لا يردّ أحدٌ عليه) ومفاتيح وصُوَر قديمة بزجاج مكسور، ومذياعٍ يُعيد السينمائيَّ، وصحبَه من المُشاهدين، إلى أيامٍ حافلةٍ بخطابات رنّانة، زمن حروبٍ خارجية يُراد لها، من بين أمور كثيرة أخرى، تغييب حروب الداخل.

فالسينمائيّ ـ المهموم بالصُوَر الفوتوغرافية والسينمائية معًا، وبما تحمله من ثقلٍ معنوي وجمالي وإنساني يتمثّل بماضٍ وراهنٍ يتكاملان في صناعة نصٍّ بصري بديع ـ يسير في أروقة الحياة والدنيا، وفي أزقة المدن والفضاءات، قائلًا بصوت الراوي: "حاملًا كاميرتي لأدوِّن يومياتي فوتوغرافيًا وسينمائيًا، عسى أجد ضالتي، وأخلص من شبح المذياع". كأن الاغتسال من ماضٍ مليء بالآلام اليومية المتنوّعة، يسكن الفنان نفسه وروحه ويومياته وانفعالاته، يُصبح ـ في الصُوَر الفوتوغرافية والسينمائية ـ تطهّرًا روحيًا ونفسيًا، وإشباعًا لهذا الكمّ الهائل من الأحاسيس والبوح والاعترافات، الكامنة كلّها في ذات الفنان. أو كأن الاغتسال نفسه يمرّ عبر الصُوَر وحدها، كي يتحرّر الفنان من قسوة السمعيّ (المذياع).

الاعتراف، أمام هيبة الكاميرا الفوتوغرافية ورهبة الكاميرا السينمائية وجمالياتهما معًا، يمزج حكايات الذات المبثوثة في ثنايا نصوص وصُوَر واشتغالات سابقة ودائمة، بسردٍ يختزل، في 65 دقيقة، 30 عامًا من اغترابٍ واكتشافٍ وامتثالٍ أمام قدرات الصُوَر على امتلاك حصانة العيش في الأزمنة المتتالية. والفنان نفسه، السينمائي والفوتوغرافي، غير قادرٍ على مغادرة بغداد من دون المرور في شوارع تحتضن، سابقًا، صالاتٍ سينمائية، كـ "السندباد" و"البيضاء" و"النجوم" وغيرها، وهي صالات مُغلقة، كأنّ المدينة برمّتها مغلقة على الحياة. والصُوَر تستكمل مشهدًا يودّعه فنانٌ يريد خلاصًا، ويريد ـ في الآن نفسه ـ لغةً مختلفة للبوح، يجدها في التقاطها نبض بيئته، ومناخ الأمكنة المهاجِر إليها، وانفعال ذاته، وارتباطاته وعلاقاته.

اشتغالات

في الجانب الفني ـ التقني، يستند قتيبة الجنابي (الذي يستلّ لقطاتٍ ومشاهد من إنجازات سابقة له، إذْ لديه مئات الساعات المُصوَّرة والملتقطة خلال 30 عامًا) إلى إيقاعٍ هادئٍ في سرد النص وبثّ الصُوَر، وإلى توليف (مونتاج) يتلاءم وجمالية الإيقاع الهادئ، المحمَّل بأثقالٍ جمّة: قلق العيش في بلدٍ منذورٍ للموت، وارتباك المغادرة إلى هجراتٍ ومنافي، وظلال أبٍ مغيَّب/ مفقود، وتقلّبات ومُشاهدات واعترافات واختبارات. فالتوليف (المونتاج) يُصيب عمق الإحساس، جاعلًا من هدوء الإيقاع انعكاسًا مبطّنًا لغليان لا يهدأ.

والموسيقى ملتبسة معانٍ وأهواء، إذْ تقف في حدّ فاصلٍ بين رغبةٍ في كشفٍ فني إضافي لأعماق الروح واضطراباتها، ولارتباكات النفس وتساؤلاتها؛ وبين تمثيلٍ سمعي لصراخٍ مبطّن، أو لصمتٍ منغلق على غضب وقلق. وهي، بهذا، تُصاحب منعطفات عديدة في المسار السرديّ، من عتمة الأمطار الغزيرة إلى صفاء شمسٍ تتيح للفنان نفسه وداعًا يليق بحالة الانشغال المطلق بخلاصٍ مطلوب؛ ومن أصداء حروبٍ (بدءًا من 4 سبتمبر/ أيلول 1980)، إلى رفض للإقامة (في هذا الحيّز المكانيّ أو ذاك)، أو رفضٍ للبقاء (في الماضي أو الراهن، أو فيهما معًا)، أو رفضٍ لعيشٍ منفصلٍ عن ذاكرة وماضٍ (ذروة الصراع الداخلي في ذات الفنان نفسه، وروحه).

كأن الموسيقى امتدادٌ لانبعاثٍ غير صافٍ من خراب وألم. أو كأن التوليف (المونتاج) لعبةٌ يُراد لها أن تصنع لغةً بألسنة كثيرة، تروي ولا تتعب من السرد، وتبوح ولا تنتهي حكايات البوح، وتصرخ بصمتٍ، تصنعُ المتتاليات البصرية ـ بأشكالها وأنماطها وأدواتها الفنية كلّها ـ أداةَ نطقٍ ذاتيّ له.

يتحوّل "قصص العابرين" لقتيبة الجنابي (مخرجًا ومنتجًا ومُصوّرًا) إلى شهادةٍ إضافية، محمَّلة بجماليات صُوَرٍ واشتغالٍ وسردٍ (رغم عنف المبطّن فيها، وقسوته وارتباكاته وقلقه)، عن سيرة فنان يُغادر أمكنة إلى أخرى، بعد أن "أخذوا والدي من أمامي إلى الأبد"، فإذا به يحمل الكاميرا (الفوتوغرافية والسينمائية)، "أدورُ بها من مكانٍ إلى مكانٍ، ومن وجهٍ إلى وجهٍ، ومن حنينٍ إلى اشتياقٍ".

*ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.