}

وسائطيات الفن العربي: من "القومسير" إلى "الكوراتور"

فريد الزاهي 11 نوفمبر 2018

 

حين طلبت مني مجلة فرنسية، من وقت قريب، أن أكتب لها مقالا عن النقد الفني والـ"كوراتوريا" في المغرب باللغة الفرنسية، لم أتردد في ذلك، لا لأن الموضوع يهمني فقط بشكل أكيد، ولكن بالأخص لأنها مناسبة متاحة للتفكير الشمولي في وضعية غامضة وملتبسة، غموض الوساطة النقدية والتنظيمية للمعارض وللوضعية الفنية عموما في العالم العربي. فلقد ظلت الساحة التشكيلية العربية مرْتعا لكافة أنواع الممارسات، التي يختلط فيها الاحترافي بالعرَضي والمحاولات التأسيسية بالمحاولات الخائبة. وظل الإداريون المعيَّنون على رأس الهيئات المنذورة للفن في الدول العربية (ذات السلطة الثقافية) يمارسون سلطة مطلقة على اختيار المقرّبين لهم للقيام بمهام تنظيم المعارض، هذا إذا لم يتكلفوا بذلك شخصيا. بل ظلت فضاءات العرض محبوسة على الموالين للسلطة يكرمون فيها من يرونه "أهلا" لهم، لا أهلا لذلك... وعدا استثناءات قليلة ظلت مهمة النقد الفني تدور في فلك المؤسسات الفنية و"السلطة الفنية"، وأضحت مهمة تنظيم المعارض خارج المبادرة الفردية الحرة المبدعة حتى حدود التسعينيات.

جنينيّة الممارسة الاحترافية الوسائطية الفنية

هل من حسن حظنا أن كلمة "كوراتور" تعني، من ضمن ما تعنيه في معناها الأصل، العناية؟ أعني العناية بمضمون معرض أو متحف؟ الأمر يحمل معه بعضا من العاطفة، فاللوحات كائنات هشة والفن نظرا لقيمته الرمزية والتجارية أيضا بحاجة لذلك بشكل أكيد. كانت كلمة "قومسير" المعرض، في ما مضى، تذكرنا بشكل ساخر بالمفهوم الستاليني: قومسير الشعب. واختار لها العرب مقابلا: "مندوب المعارض"، تخليصا لنا من هذه المرجعية القاسية والمُشينة، أي شخصا تمّ انتدابه (طبعا من قبل السلطات المعنية، شخصية أو عمومية) كي يشرف على معرض معين، فردي أو جماعي كي يضبط طبعا حركية الفن حتى تتماشى مع جمالية السلطة!

ففي مصر، كما في العراق وسورية وليبيا والمغرب، ظلت قاعات الدولة هي التي تعرض حتى حدود الثمانينيات والتسعينيات أعمال الفنانين. وهي بذلك ظلت تبسط هيمنة القائمين على شؤون الفن في مجال الاختيار والتكريم والتعظيم والتثمين والتقْويم (منح القيمة). وإذا كانت تجربة القاعات الخاصة قد ظهرت مبكرا بالمغرب (1959)، وبتونس ولبنان في الفترة نفسها، فإنها ظلت تجربة هشة تحمل معها طموح فنانين ومثقفين وكتاب وشعراء عملوا على فتح فجوة الاستقلال عن سلطان السلطة السياسية العربية على الفنون البصرية.

إن انبثاق الفضاءات المستقلة لعرض الفن قد شكل في تاريخ الوساطة mediation الثقافية والفنية مجالا خصبا للتحولات التي سيعرفها الانتقال من الفن الحديث بكل مكوناته وبكل تجاربه وتجريبيّاته، إلى مجال الفن المعاصر بكامل مغامراته وغموضه وانفتاحاته. وأنا أعترف هنا، من خلال هذه الصياغة الحذرة، بأن القطيعة التي أراد إرساءها البعض، ممن يرغبون في إسقاط تاريخ الفن الغربي على التاريخ الصغير للفن العربي الحديث والعاصر، بين التجربتين (الحديثة والمعاصرة)، وبين ما يسمى فنا حديثا وما يسمى فنا معاصرا، هي قطيعة غير وجيهة تاريخيا وثقافيا. لنتذكرْ فقط كيف أن ماركس نفسه، وهو يحاول إضفاء الشمولية على نظريته لتطور الرأسمالية، اضطر إلى ابتكار نمط الإنتاج الآسيوي ليشمل مناطق أخرى من المعمورة اتقاء لشر العالمية والكلية الشاملة والوحدوية. فكيف لنا أن نطابق بين تاريخ ثقافتنا وتاريخ ثقافة الغرب بنوع من الرعونة والنزق المعرفي؟ خاصة أن علاقتنا بالتصوير الفن لا يمكن أن تتخلص من سيف التحريم والحجز؟

حتى لا نأخذ ماركس نموذجا مطلقا هنا، لنقلْ بأن تطور المجتمعات العربية وتطور الفنون العربية (في استقلالها النسبي عن المجتمع)، يتمان من خلال إيقاعات مختلفة ليس لها طابع تسلسلي خطي. ففي الوقت الذي كان الفن الغربي يعيش تحولات الانطباعية والوحشية والتكعيبية ثم "قنبلة" مارسيل دوشان"، كان لا يزال فيه الفن العربي يستكشف طريقه نحو اللوحة، وينتج تجارب تستنبت مفهوم الفن الحديث في أصوله التصورية. وحين بدأ الفن يخرج من اللوحة في الغرب في الستينيات، كان الفنانون العرب يجربون التعبيرية والعلامات والرموز والحروفية...  إنه تطور غير متوازٍ (حتى نستعيد بشكل شخصي مفهوم سمير أمين عن التطور غير المتكافئ في الاقتصاد). وطبعا، وبالنظر إلى كون تأثيرات الفن المعاصر قد وصلت إلى البلاد العربية، بسبب التفاعل والهجرة وانتقال التأثيرات، منذ ذلك الوقت، فقد مسَّ ذلك العديد من الفنانين الحديثين العرب: شفيق عبود والغرباوي ومحمد القاسمي وفريد بلكاهية وشاكر حسن... وغيرهم. فلقد رأيناهم يخرجون بشكل حثيث من عالم اللوحة التقليدية ويجعلونها، كما يجعلون تجربتهم ولو بشكل جزئي، مسرحا لتحولات وآثار جديدة تنتمي إلى مغامرة الفن المعاصر.

والمفارقة أن الفنانين المعاصرين لحدّ اليوم لا يزالون يعودون للوحة بشكل أو بآخر، إما لأن أعمالهم مركبة فضائيا ومواديّا، وإما لأن اختيارهم المعاصرة لم يمْحُ فيهم عشقهم للوحة.... إنه تاريخ هجين، تتمثل هُجْنَتُه في توازي وتداخل إيقاعات التطور الاجتماعية والفنية، ومعها أحيانا إيقاع ومتاهة سوق الفن والاقتناء نفسه...

في هذا السياق، ظل القائمون على القاعات يمارسون مهمة تنظيم المعارض، وفي الكثير من الأحيان، كتابة النصوص، في وقت كانت التقنيات المطبعية لا تبيح إنتاج الكاتالوغات بالمعايير اللونية والتقنية المطلوبة. وظلت الصحافة مجالا "طبيعيا" لبلورة المتابعة النقدية والإعلان عن المعارض. إن استعراضنا التأريخي هذا يبتغي هنا القول إن العيانية visibilty، كانت تخص الفنان أكثر من "الغالرست" ومن منظم المعارض وكل شيء كان يدور حوله وحول عطائه. وكأن تاريخ الوساطات هنا هو تاريخ ولادة ذات الفنان، في غيبة أو غموض كل الوساطات المحيطة به.

ولادة "الكوراتور" ومتاهات الفن المعاصر

الأمر ليس فقط صراعا اصطلاحيا، أو انتقالا عوْلميا، وإن كان الأمر يفصح عن ذلك. فيكفي أن نستعرض تاريخ الممارسات الوسائطية في مجال الفنون التشكيلية والبصرية (وهو استعراض شخصي في غياب تاريخ مكتوب للممارسات الفنية والوسائطية في العالم العربي) كي ندرك أن الفن المعاصر يعيش لحمة وجوده في عمليات شبكية (إقامات، معارض، تظاهرات، تدخلات interventions ...) تعمّ المعمورة بكاملها وتسم الفنانين بميسمها، بحيث إنك تقرأ السيرة الذاتية للفنانين الشباب فتجدها كلها إقامات وتدخلات.... فمنذ أواسط التسعينيات، انمحت تدريجيا الفواصل الفضائية بين الفنانين المعاصرين. ولتنظيم وتشجيع هذه الممارسات الفنية، تشكلت إقامات، وأنشئت منحٌ وتنقلاتٌ وتفاعلاتٌ، منحتها العولمة البصرية والتواصلية شحنة مستمرة.  

صار "الكوراتور" وسيطا ضروريا في هذه العلاقة الشبكية. فهو ينتقي ويقوّم ويعرض ويكتب بشكل جعل منه أشبه بالأب الروحي للفنانين الذين يحتضنهم ويوجههم ويمنح لهم عيانيتهم. وبذلك صارت وظيفته تتجاوز وظيفة صاحب الغاليري والناقد، لأن فضاء العرض لم يعد مقنَّنا، بل متحرّرا ومفتوحا على الحركيّة العالمية. قد يكون فضاء العرض ساحة عامة أو فضاء عموميا ما، أو مكانا مهجورا أو غالريها... إن تحول مستلزمات العرض، نقل الكوراطور إلى ما يشبه المايسترو فعلا وصورة. فهو الذي يقترح الموضوع على الفنانين وهو الذي يختار الأعمال، بل هو الذي يخلق الحدث الفني عموما ويكون أحيانا منتجا للأعمال الفنية.

مع ليو كاستيلي (التاجر والغاليرست الأميركي الشهير) تحول الرواقي إلى مخْبر لاكتشاف الفنانين وخلقهم. غير أنه شأن لم نعرفه في تجربتنا العربية التي ظلت فيها الغالريهات قليلةً وذات نفس قصيرٍ، لأنها لم تكن تعمّر طويلا، ولأنها كانت تعاني من مثالب السوق وسيادة السوق السوداء وغياب الاحترافية الوسائطية في المجال الفني.

وحين نقوم بمشْط بسيط وسريع لواقع الحركة الوسائطية الراهنة في مجال الفنون البصرية في العالم العربي، نستكشف أن العولمة الحالية لم تنتج وسطاء كوراطورات من عالمنا العربي إلا القلة القليلة والنادرة، وما تبقى منهم شباب لا يزالون يسعون إلى فرض أنفسهم، سواء من خلال البينالات أو الغالريهات القليلة التي تسوق الفن المعاصر وتسند لهم مهمة التنظيم والتأطير والبحث عن المواهب. أنهم لا يزالون يعانون لسوء الأسف من هيمنة الكوراطورات الأجانب، الذين صاروا يجدون في العالم العربي والإفريقي مجالا لتوسيع هيمنتهم.  

والحقيقة أن ثمة اختلافا جوهريا يلزم الكشف عنه بين قومسير أو مندوب المعارض وبين الكوراتور، يتمثل أساسا في أن الأول كان في خدمة المعرض أو المهرجان، فيما الثاني يكون في خدمة دوره ووجوده وفعله كما في خدمة الفنانين، ومن ثم في خدمة عيانية عمله وتسويقه في شكله الاستعراضي. هذا الاختلاف يفصح بشكل عميق عن تطور قيم الوساطة في الفن من الناحية التاريخية كما من الناحية القيمية والأخلاقية. ففي الحين الذي كان مندوبو المعارض معيَّنين من السلطات الثقافية أو من الغالري، من غير أي استقلال خصوصي، صار الكوراطور مستقلا عن كل المؤسسات، يشتغل لحسابه الشخصي، حتى لو اشتغل لفائدة مؤسسة ما. بل لا يشتغل لحساب مؤسسة كبرى إلا إذا بزغ نجمه وعلا. إنه يغدو مؤسسة قائمة بذاتها، بحيث يمكن أن يؤثر في السوق أو في عملية الاقتناء كما في قيمة أو مقبولية فنان ما.

إنها تطورات لا ترتبط بمآلات الفن العربي المعاصر بقدر ما تعود إلى الحركية التي تعرفها الوساطة الفنية في الغرب. وربما لهذا السبب نفتقد وجود "كوراطورات" عرب إلا أسماء قليلة، في الوقت الذي صرنا منذ بداية الألفية الجديدة، نعيش ظاهرة عولمية و"إمبريالية" جديدة في هذا المضمار، تتمثل بالأساس في الاهتمام المتزايد لأسماء وسيطة غربية بالفنانين الشباب المعاصرين في العالم العربي. ولا يقتصر الأمر على إدماجهم في حركية عالمية بل أيضا في أنهم ينظمون ببلداننا ويشرفون فيها على التظاهرات والفعاليات والبينالات، كما لو أننا لسنا سوى قطيع لا نزال نعيش عصر نهضة جديد نحن فيه بحاجة ماسة للآخر كي ننتقل بممارساتنا الثقافية إلى حالة الرشد (أي العالمية).

*

تمكننا هذه النظرة التأريخية من الوعي بالذات وفي الآن نفسه بمسارات فننا. فالوساطة أمر صار لصيقا بتطور الممارسة الفنية وعيانيتها وتداولها، ومن ثم إنتاج قيمتها الجمالية والتجارية. والأسئلة التي تطرحها علينا اليوم تسمح لنا بإعادة النظر في دور الوساطات الأخرى من نقد وفضاءات عرض وبينالات ومهرجانات. إنها أمور قلَّ أن ينتبه لها المثقفون المهتمون بالشأن الثقافي، خاصة وأن نقادنا، للأسف، يمارسون (إلا أقلّهم) الكتابة عن التجارب الفردية من غير منح الوقت لتحليل الظواهر (مسألة التلقي والتطور والسياق...) بحيث يمكّننا ذلك من إنتاج معرفة ليس فقط عن الفنانين المفردين، وإنما أيضا عن الاتجاهات والتحولات والتطورات والوساطات أيضا.

ما أحوجنا الآن بالضبط، أكثر من أي وقت مضى، لهذه المرجعيات التركيبية، فهي التي تشحذ فكرنا النقدي والجمالي، وتمكننا من بناء درس تاريخي نقدي يجعل ما يسمى "نقدا فنيا" يكف عن أن يكون محاباة ومديحا وانسياقا مع المكافآت والصداقات الثقافية، ليتحول إلى نقد فني حقيقي، يمارس التحليل والتأويل والنقد بذكاء نقدي نحن بأمس الحاجة إليه كي نعرف إلى أين تسير الأمور المركّبة لحياتنا الفنية. طبعا حتى لا ننتظر استيراد وسطاء فننا ومؤرخيه من الخارج، كما نستورد المواد والتقنيات وأقلم الكتابة، وحتى نمنح الفرصة لأنفسنا لأن نكون نقادا ووسطاء فاعلين في عقر دارنا، قبل أن نجد أنفسنا غرباء وسط فنانينا، لا نصلح إلا لكي نصفق لهم ولذواتهم أمام بنات وأبناء الحي.

 

ملحوظة: تعمدنا استعمال المصطلحات المتداولة وخاصة المقابل العربي للكوراتور (القيّم على المعارض) لمنح طابع حي لمقاربتنا هذه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.