}

يوم الدين.. كوميديا الألم

هشام أصلان 5 أكتوبر 2018

 

يقول شهود تلك الليلة من مايو/ أيار الماضي، إن التصفيق استمر وقوفًا لأكثر من 15 دقيقة. ربما بالغوا في حساب الدقائق، ولكن رأينا الوقوف تقديرًا لفترة ليست بطالة عبر مقاطع الفيديو. المصفقون هُم حضور مهرجان "كان" السينمائي في دورته الأخيرة، بعضهم من نجوم العالم، والأبطال هُم صُنّاع الفيلم المصري "يوم الدين". وخرج الفيلم من الدورة الـ71 لـ"كان" فائزًا بجائزة فرانسوا شاليه للأعمال الإنسانية، قبل أن يتم اختياره لتمثيل مصر في مسابقة الأوسكار للأفلام غير الناطقة بالإنكليزية.

بعد مرور سبع سنوات على ثورة يناير، التي بانتصاراتها وخيباتها لم تقف عند حدود الفعل السياسي، نحن بصدد وعي جديد وإن أدركه الإحباط. ذلك أن ما حدث ساهم في توسيع دائرة التلقي النخبوي. آن للأعمال التي تُصنف "نخبوية"، بلغة أخرى "أفلام المهرجانات"، أن تجد بُعدها الجماهيري بشكل ملحوظ.

من هنا، ليس مدهشًا أن يكفي الاحتفاء بفيلم في "كان" وفوزه بجائزة، أو أخبار ترشيحه رسميًا للمشاركة في الأوسكار، لترويجه عند قاعدة جماهيرية معقولة في نوع من أنواع الشارع المصري، وإقبال معقول في دور العرض عند عرضه جماهيريًا. الفيلم فاز أيضًا، منذ أيام، بجائزة أفضل فيلم روائي عربي في مهرجان الجونة السينمائي.

كان من الممكن ألا يجد الفيلم هذا التلقي من دون موهبة فادحة الظهور لراضي جمال، المواطن المتعافي حقيقة من المرض، والذي هو بطل سينمائي قام بأول أدواره بعد تدريب استمر شهورًا لنراه على الشاشة في شخصية بشاي، وهو قبطي أربعيني متعاف من مرض الجذام وإن قضى المرض على ملامح وجهه وأطرافه. ومع شفائه أكمل تعايشه وسط زملائه المرضى في مستعمرتهم المعزولة بعيدًا عاملًا في جمع القمامة، ذلك أنه، ومنذ تركه والده طفلًا عند بوابة المستعمرة، لا يعرف شكلًا آخر للحياة.

وبينما تموت زوجته بخليط من الجذام والمرض العقلي، يستيقظ عازمًا الرحيل، بعد حوار قصير عند المقابر بينه وبين أمها، وسؤال حول جدوى أن يكون لديك من يأتون لزيارة قبرك. هو، إذن، واحد من تلك الأعمال المتكئة على تيمة الرحلة، والتي عالجت سطحيتها المعهودة طبيعة المرتحل وعلاقة أمثاله بمجتمع مثل مجتمعنا، فضلًا عن ذهابه بحثًا داخل المجهول وعنه بتجلٍّ، من بداية الطريق مرورًا بحركة بشرية في شوارع وحياة لا يعرف عنها شيئا، انتهاءً بنتيجة غير مضمونة نهائيًا، سواء استطاع العثور على عائلته أو لم يستطع.

الحكاية بدأت عندما فكر المخرج أبو بكر شوقي في صناعة فيلم وثائقي عن مستعمرة الجذام والمرضى المعزولين بداخلها بعيدًا عن أي من أشكال الحياة بسب مرض يشوه ملامحهم ويحولهم إلى منبوذين حتى بعد الشفاء. بالفعل أخرج فيلم "المستعمرة" الوثائقي ليكون نواة فيلمه الروائي الطويل: "يوم الدين". يحكي للصحافة عن صعوبات العمل، ومنها أن الممثلين تم تجهيزهم في 4 شهور "خصوصًا أن بينهم من لا يعرف القراءة"، وكيف أصر على الاستعانة بشخص عانى من المرض ليجسد التفاصيل بدراية: "طريقة حمله للأشياء وتناوله الطعام وتدخينه وغيرها من التفاصيل الصغيرة".

أنت أمام مستويين للتلقي. الأول في بساطة التعاطف الطبيعي مع ممثل كونك تعرف أنه يعرض شيئًا من معاناته الحقيقية، ووجه تشوه من دون ماكياج سينمائي بما يتسبب له من مواقف شديدة الإزعاج، والثاني في عمق المفاجأة من قدرة هذا الممثل على توصيل إحساسه بينما يفتقد أدوات التوصيل البديهية. وتعبيره، بحساسية بالغة، عن الانفعالات الإنسانية العادية: الارتياح، الضيق الخفيف أو العميق، القرف. هكذا من دون عينين واضحتين أو ملامح تتحرك بطبيعية.

صديقا البطل حمار يموت في منتصف الرحلة وطفل يتيم لافت الذكاء والموهبة، أدى شخصيته أحمد عبد الحفيظ ممثلًا، أيضًا، للمرة الأولى، يلتصق ببشاي ويجد حلولًا بسيطة لتجاوز العقبات، كأن يحيك قطعة شاش في قبعة صديقه تداري وجهه عن العيون المنزعجة والخائفة، أو يردع بلسان سليط نسوة يحممن البهائم في النهر بعدما انطلقن في طردهما خوفًا من تلوث المياه ونقل العدوى إلى أطفالهن.

هنا، أيضًا، سؤال، وجودي ربما، حول الاضطهاد بوصفه سمة أصيلة في الجنس البشري. كيف أن المُضطهد اجتماعيًا سيمارس الاضطهاد عفويًا بمجرد أن تضعه الظروف أمام من هو أضعف، قد يكون مصطلح التسلُط أكثر دقة، لن يفرق كثيرًا، ذلك أن الفكرة هي ممارسة ما نعاني منه إن توفرت الظروف.

مثلًا، سترى متسولا مبتور الساقين يعنّف بشاي عندما اضطر للتسول في محيط منطقته جوعًا، أو محبوسا ظلمًا يعنف زميله قرفًا من شكله، غير أن المخرج أبو بكر شوقي لجأ إلى معالجة الأمر بأن خلق في قلب مبتور الساقين لحظة شهامة أدت إلى عدم احتماله ترك المتعافي من الجذام عرضة لنهش الشارع، فيأخذه إلى أصدقائه من المتسولين الذين يعانون عيوبًا جسدية ليعملوا جميعًا على المساعدة في وضع بشاي على أول الطريق الصحيحة للوصول إلى مسقط رأسه والبحث عن عائلته. لا أعرف إن كان من الأفضل فنيًا إيجاد صيغة لترك السؤال مفتوحًا من دون الحسم بإجابته. نحن، في النهاية، نفكّر بصوت عال، كما ضحكنا بصوت عال مع كوميديا راقية جاءت في كثير من مشاهد مؤطرة بالألم.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.