}

لمى حوراني، بصْمة عربية على بشرة العالم

فريد الزاهي 20 أكتوبر 2018
تشكيل لمى حوراني،
بصْمة عربية على بشرة العالم
لمى حوراني
 
                                        
حين أطلق كانط عبارته الشهيرة "شيئان ما يفتأان يثيران الرهبة في نفسي: السماء المرصعة بالنجوم فوقي ونداء الواجب في داخلي"، ربما لم يكن يدرك أن المجاز الذي يستعمل أقدم من الفكر الفلسفي ومن العقل والعقلانية. فتأنيث السماء وتحويلها إلى جسد محلى يحيل، كما فصَّل في ذلك مرسيا إلياد، إلى تأنيث العالم ومن ثم إلى تأنيث الألوهية كما هو الأمر لدى ابن عربي. أتذكر هذا، وأنا أستعيد فرضية طرحتهُا من أكثر من عقدين من الزمن، إلى أننا ندين بتحليل التصوير وجماليته إلى عائشة زوج النبي (كتابنا: الجسد والصورة والمقدس في الإسلام). فارتباط المرأة بالجمال والجميل، والأنوثة بالفن أمر تليد وما زلنا نستعيده بأشكال مختلفة وتلاوين وتنويعات متجددة.

هل أستطرد وأقول إن قضايا الحُسن (كما يفضل صديقي شربل داغر أن يقول) قد تداولتها اللغة والأخبار والشعر العربي حتى لأن الجسد الأنثوي صار مجاز الكون والحياة والكلام؟ وهل نستعيد هنا، على سبيل الاستطراد دوما، ومن قبيل توكيد هذا الترابط العتيق أن الفن كمفهوم لدى الإغريق قد ارتبط بالصناعة technè، وهو لدى العرب صنْعة وصناعة؟ وهل أذكّر فقط هنا بأن هذا الأنموذج الأنوثي للحسن والجمال والبهاء، هو أنموذج الإبداع الشعري؟ فالعرب لم تفتأ تتحدث عن نظم الشعر كما تنظم الجواهر والأحجار الكريمة في العقد. والعرب ما فتئت تولد المجازات المتصلة بالحُلي وبالحلية، لتخرجها من جسد المرأة وتعممها على جواهر الموجودات وحلية الأولياء، أما المأثورات المجازية المتداولة التي أثثت ذاكرة تعليمنا فكثيرة: واسطة العقد، بعيدة مهْوى القرطين.......

فهل إن عالمنا "القديم" كان عالما أنثويا بامتياز رغم ذكوريته الظاهرة؟ هل الأنوثة هي الفرشة التي منها تستقي اللغة والكلام وجمال البلاغة وجودها؟ وهل هذا يعني أن جسد المرأة لا يحلو إلا بالحلي؟

صدفة اللقاء بباريس

في مقامي الأخير بباريس توصلت برسالة قصيرة من سعاد عيساوي أم الفنانة، التي عرفتها في الأردن منذ سنوات طويلة. وبعد لقاء قصير في بيت لمى بباريس المطلّ على نهر السين، تعرفت مجددا على هذه الأخيرة وزوجها وعالمها الحميم المليء بالمنحوتات والمجوهرات... كما على توأمها المشاكس... رجعت بي الذاكرة لأكثر من عشر سنوات خلت، حين زرت عمان وصادفت معرضا للمى حوراني. كان عالمها التصميمي حينها ينبئ بأيادٍ تتلمس حمى المواد ولظى الإبداع التشكيلي في الحلي. وكانت إبداعاتها تجريبية تسير في اتجاهات مختلفة وكأنها تستكشف الأفق. عدت من عمان وفي نفسي شيء من حتى كما قال الهمذاني. فقد كنت أرغب في اقتناء أحد أعمالها أهديه لزوجتي آنذاك. غير أن زحمة الوقت واللقاء أنستني الأمر...

تربت البنت الكبيرة لعائلة حوراني في حضن أم فلسطينية وأب أردني، الأب مصور وصحفي وفنان تشكيلي والأم تملك حساسية كبرى وعميقة بمجال الفنون، جعل من رواقها "رؤى" أحد المواقع الفنية والجملية الأكثر عيانية في الأردن والشرق الأوسط. كانت لمى وهي بعد صبية شغوفة بالتلاعب بالأشكال والمواد، ربما لأنها كانت تجد في ذلك متعة الغوص في ممكناتها الذاتية. ومن اللعب الصبياني إلى الدراسة الفنية، قد تكون لمى اكتشفت أن مجال النحت والفن التشكيلي يضج بالأسماء والتجارب الذكورية والأنوثية التي قد تحجب عنها شمس التحليق في سماوات ترغب في ارتياد آفاقها. كانت لا تزال تحمل في أناملها رعشة صوغ المواد وتشكيلها ونحتها، هي الأنثى الناضجة اليوم، التي لا ترغب فقط في تجميل عالمها الطفولي، وإنما في أن تصدح أنوثتها الإبداعية بشكل سادر. لذلك اختارت طريقا آخر، بين التشكيل والنحت، بعيدا عنهما وعن مساربهما الداخلية والخارجية. اختارت أن تعمق تكوينها في صياغة المجوهرات والحلي، وهو مجال ظل في بلداننا العربية حكرا على اليهود منذ القدم، وتم توارثه إلى يومنا هذا في المدن العتيقة كما في البوادي. بل هو مجال اليوم يبرع فيه الفنانون الأجانب بلوبياته وعوالمه المؤسسية والمالية.

ما الذي يملكه مبدعو ماركات الموضة العالمية والتصميم من مهارات وأفق وإبداع لا تملكه لمى، بطموحها وإصرارها، وبعنف الرغبة في أن تركب ذاتها وتصنع لها أجنحة من عاج وزمرّد وياقوت؟ هذا السؤال طرحته قبل لمى بسنوات صديقتي مصممة الأزياء المغربية الشهيرة فضيلة الكادي. وهو سؤال يؤكد أن منبع الإبداع ليس عالميته المباشرة وإنما الانغراس عميقا في المحلي للقدرة على السموق عاليا جدا في سماء العالمية.... وحين تلتقي مباشرة بلمى، وتحادثها في عالمها الخاص، خارج أضواء الكاميرات تكتشف كم أن إصرارها وارف وكم هي مَدينة له باختراق حجب كانت ستغلفها لو أنها انصاعت للعبة التدرج من المحلية إلى العالمية...

سفينة نوح... وحكايات شهرزاد

جاء في التوراة أن نوحا هو مكتشف الخمر. وهو لم يكن له ليكتشف عصير العنب ولذته وخَدَره لو لم يكن ثمة طوفان... فالعنب لا يمكن أن يختمر في الشجرة، بل في الزمن.... فكرت في هذا وأنا أكتب عن لمى. فهي لو لم تثُر على دراستها للفن، وعاشت طوفان القطيعة مع الفنون المتداولة، واختارت أن تصنع لنفسها سفينتها الخاصة، ولو أنها لم تجمع فيها عالمها المأثور من الأحجار والأشياء العتيقة وما تلتقطه هنا وهناك، وما تقتنيه من أحجار كريمة، لما اكتشفت تحولات المادة وحلاوة العنب. فللحُلي حلاوة لا تعادلها حلاوة لا تعرفه إلا من تتقلد بها وتنظر لنفسها في المرآة أو في عين الرجل العاشق الراغب. 

هكذا في ورشتها الكبيرة بالأردن، تشتغل لمى حسب السلسلات (كولكشن)، تركز إبداعها على مواد معينة، تختلف كل مرة وتعيش معها وبها ومن خلالها تجربة التحليق والخيال والابتكار. والحقيقة أن الناظر لأعمال وتحف الفنانة يكتشف للتوّ أمرين: أنها تشتغل بشغف باهر وبوتيرة قلَّ أن نجدها لدى الفنانين من فصيلتها. وأنها من ناحية أخرى تشتغل بتجديد مستمر لنفسها بحيث لا تشبه "قطعة" أخرى حتى وهي تنتمي للسلسلة الإبداعية نفسها.  

يلاحظ الرائي أن لمى لا تعيش وجْدها trance إلا في رغبتها المشاكسة في تحويل المادة وصقلها كمنحوتة صغيرة، كي تحولها إلى مكون في "نص" بصري هو القلادة أو الخلخال أو السوار أو الخاتم. بيد أن هذا الوجْد يغدو نشوة طافحة مركبة ومستديمة حين يتعلق الأمر بالقلادة: فهي أشبه بحكايات شهرزاد نخرج فيها من حكاية لندخل أخرى متشابكة معها ومنفصلة عنها. بحيث لو قُدِّر لعائلة ما أن ترث قلادة يمكن لكل فرد منها أن يكتفي "بعقيقة" واحدة ويعتبرها مكتملة بذاتها. هذا الاكتمال للمفردة الفنية في الحُلية يجعل من أسلوب لمى في الاشتغال فوضويا ومنظما في آن واحد. إنه، فيما يبدو، قد ينطلق من المواد (الخامات) ليجعلها تبحث عن صورها وأشكالها، ثم يكتمل الأسلوب ليلاقي فكرته وعنوانه. وهو أحيانا ينطلق من الفكرة، الآتية من ضرورة جمالية، أو طلبية خارجية، ليؤقلمها مع الرغبة الإبداعية حتى لا تصبح المصممة عبدة الطلب، بل لتنفيه في توكيده بطريقة جديدة... هكذا تستثير لمى في داخلها لظى الإبداع وتحرر ممكناتها التشكيلية كي تؤقلمها مع ضرورات الاستعمال. وكأنها بذلك تعود إلى أصل الفن، أي أن الفن يتجسد في الجسد لا خارجه!

مدرسة العين واليد

أفترض أن كل الشباب الذين يشتغلون مع لمى، كل بمؤهلاته، يعيشون متعة مزدوجة: فهم يساهمون في خلق الحلية ويتحلون بحلاوتها ويسكرون بمتعتها، وهم من جهة ثانية يشتغلون في مجال مميز واستثنائي. إنه مجال يبدأ برسم القطعة الفنية، على الورق أو على الكمبيوتر بأبعاد ثلاثية لينتهي في الأخير كاملا مكتملا يمارس الدهشة على الرائي. وحتى النساء اللواتي يشتغلن في بيوتهن في تصفيف الحلية يجدن متعة مضاعفة. فهن يستعدن مهاراتهن التليدة من جهة، تلك التي تربط ذاكرتهن بحركات دقيقة وبلمسات تكاد تكون عاشقة، وهن من ناحية أخرى يتمتعن بالجديد الفريد في هذه الإبداعات.
 
فلمى حوراني وهي تسهر على هذا التسلسل الحي تغدو أشبه بمؤلف الموسيقى الذي يكون مايسترو نفسِه. إنها تعيش ولادة الحُلية وتسهر عليها حتى تستوي قلادة أو خاتما. وفي كل مرة تجد متعة مغايرة تبعا لمغايرة المنتَج المبدَع. أفترض مرة أخرى أن لمى وهي تنتقل من الخاتم إلى القلادة، كأنها تمارس مجموع الأنواع الإبداعية الممكنة. فالخاتم أو القرط أشبه بقصيدة الهايكو. ولمى تعشق الثقافة اليابانية حدّ الولع. هذه القصيدة القصيرة بمكوناتها القليلة (الدائرة وتاجها أو ما يتنزل منها) تتطلب تكثيفا واختزالا أشبه بالومضة الإبداعية. وحين تنتقل للسوار فكأنها تؤلف قصة قصيرة، تتطلب مقدارا أقل من التركيز والتكثيف. أما القلادة فهي الرواية أو القصيدة الملحمية التي تحكي فيها كشهرزاد مجمل حكاياتها قبل أن تخلُد لقلب ملكها أي لنشوتها الإبداعية. بيد أن القطع الفنية الصغيرة هي التي يكون ألم ولذة صنعها أعمق، وأعسر وربما يأخذ وقتا أكبر.

الأمر لا يتعلق بمدرسة بالمعنى المتداول. إنها مدرسة تبني مستقبل الفنون البصرية العربية لأنها ظلت منغلقة في تلافيف مكوناتها العتيقة (اللوحة)، غير أنها لا تبنيها بين جدران المؤسسات الغارقة في بيروقراطيتها التكوينية وإنما في الحضن الشاسع والدافئ للمجتمع. فهي من جهة مدرسة تاريخية تبني دخول المجتمع العربي لمجال الحلي والمجوهرات، وهي من ناحية أخرى مدرسة تقول للعرب بأن الفن ليس هو فقط اللوحة وما يعلق على حيطان البيت كي يجمله ويؤثثه. وهي مدرسة لأنها تعلم أبناء البلد أن الفن يوجد في تضاريس ذاكرة اليد والناس البسطاء الذي يحيكون تفاصيل الجسد الأنثوي في أبهته. وهي أخيرا مدرسة لأنها تعلم العالم والمواهب العربية أن الفن جسارة وإصرار على منح الأشياء اليومية الاعتيادية قيمة تجاوز الذات لتصل للآخر؛ ذلك الآخر الذي يعتبر أنه الوحيد القادر على أن يكتسح سوقنا بما لا يلائم مذاقات جسدنا.

*
لم يكن حدس لمى ليخطئ. فهي خلقت لمستها (griffe كما يقول الباريسيون). أخرجت أظفارها وغرستها في الإبداع وحفرت بها في بشرة العالم توقيعها وماركتها، التي تبدأ من الخامات العادية لتصل إلى أكثرها جوهرية وبهاء وقيمة. إن لمى حوراني تخلق بلاغتها الخاصة، تقلب منظورنا للحلي، تمارس فيها تداويرها وتنحت فيها رموزها. تنتقل بحرية راقصة بين رغباتها الدفينة وما تلتقطه هنا وهناك من جماليات صينية ويابانية وهندية. وكأنها تدعونا بذلك إلى أن نرتاد كافة ثنيات الحضارات، ونرتحل معها باستمرار في جذوة إبداعية يتحول فيها المحلي والذاتي الشخصي إلى موروث كوني، وهذا الأخير إلى مكون محلي، مفجرة حدود الحضارات بالإبداع ومتخيل يسيح على وجه الأرض كسيل بركان...    

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.