}

عطيات الأبنودي.. وأبطال حكايتها

هشام أصلان 11 أكتوبر 2018
 

مشهد أول:

سيدة ريفية ترتدي السواد، تتكلم إلى الكاميرا بصوت مُشوّش:

"من طلعته راجل، طلع معايا راجل، وبيتكلم كلام ناس كبيرة، ما حسيتش إنه طفل أو صبي، كان بيقرا كتب أبوه وكتب الناس الكبيرة، البلد كلها كانت عارفة إنه هيبقى شاعر".

مشهد ثان:

نفس السيدة تزور المقابر، تتوجه إلى أحد الشواهد، تجلس أمامه باكية بحرقة، تقترب الكاميرا من الشاهد، لتظهر الكتابة المخطوطة عليه بالأسود: "قبر المرحوم أمل دنقل، توفي يوم السبت 21/5/ 1983، كل من عليها فان".

مشهد ثالث:

أمل يرقد على السرير، يتحدث إليه طبيب محاولًا تخفيف الأمور. بجوار السرير يجلس رجل أربعيني هو عبدالرحمن الأبنودي، وشابة عشرينية هي عبلة الرويني، وفتاة صغيرة هي أسماء يحيى الطاهر عبدالله. يخرج الطبيب، تقوم عبلة وتعطي الدواء لزوجها بينما يضبط له الأبنودي الوسادة، ثم باقي مشاهد فيلم "حديث الغرفة رقم 8"، إخراج عطيات الأبنودي. مشاهد يتحدث فيها أمل عن رحلته من الصعيد إلى القاهرة، وأول تعارف مع العاصمة، وصدمات البدايات، وبداية التجربة الأشهر في تاريخ الأدب العربي، تجربة جيل الستينيات.

في العام 2009، لم يكن قد تم تداول الفيلم على يوتيوب. غير أن حضور احتفالية مكتبة الإسكندرية، في الذكرى السبعين لميلاد أمل دنقل، حصل كل منهم على نسخة إلكترونية منه. يومها، رأيت المخرجة عطيات الأبنودي لأول مرة، وأوحت ملامحها بشيء من الحدة أو ربما الصرامة.

ليس أكيدًا إن كان من سوء الحظ أو حسنه ارتباط اسم المبدع في قصة تاريخية باسم مبدع آخر، بحيث يصعب أن تتحدث عنه مستقلًا. الباحثون والنقّاد والصحافيون، لم يستطيعوا، أبدًا، الحديث عن سيمون دي بوفوار منفصلة عن سارتر.

والراحلة الكبيرة عطيات لم تكن فقط زوجة أولى للشاعر عبد الرحمن الأبنودي، بل وصل الرباط بين قصتيهما حد احتفاظها باسمه لقبًا لها حتى بعد انفصالهما المصحوب بخلافات معقدة. ولمّا سألت في حوار قديم عن الندم حيال رفع اسم والدها عن سجلاتها الإبداعية، قالت:

"إنها الخيانة حقًا، أنا ارتكبتها في حق أبي، وأهديته كتاب (أيام السفر) لأن كثيرين لا يعرفون اسمه. أرجو أن يغفر لي هذا رحمه الله، في الوقت الذي كان من الطبيعي أن أحمل اسمه، عرفني الجميع بلقب رجل آخر حققت معه شهرتي وأولى خطوات مشواري الفني، ولم يعد مجديًا تغيير اللقب". الحوار أعاد موقع "أصوات أونلاين" نشره كاملًا.

أيضًا، صارت المخرجة الكبيرة واحدة من أبطال قصة كبيرة تداولتها الأجيال الثقافية في مصر سنوات. قصة شخوصها، بجانب الأبنودي، الكاتب الكبير يحيى الطاهر عبد الله وابنته أسماء، حيث رحل يحيى شابًا في حادث شهير، واختارت عطيات أن تأخذ أسماء ابنة لها ولزوجها عبد الرحمن، رفيق يحيى الأقرب، حتى انفصالهما.

هكذا يصعُب الكلام عن عطيات الأبنودي من دون الانسحاب للكلام عن أبطال حكايتها، وهي التي عرفها المهتمون أحد أهم صُنّاع الأفلام التسجيلية في مصر، ذلك أن اسمها يعني أفلاما مثل: "حصان الطين، الأحلام الممكنة، نساء مسؤولات، مناظر من لندن، حديث الغرفة 8، القتلة يحاكمون الشهيد، أحلام البنات، وأيام الديمقراطية"، وجوائز دولية معروفة في هذا المجال، ليس من بينها أي من جوائز الدولة المصرية: "جائزة أحسن إنتاج مشترك من مهرجان فالنسيا في إسبانيا عن فيلم (إيقاع الحياة)، الميدالية الذهبية في مهرجان قليبية التونسي عن فيلم (حصان الطين)، الجائزة الكبرى من مهرجان غرونوبل الفرنسي، والميدالية الذهبية من مهرجان مانهايم الألماني عن الفيلم نفسه"، فضلًا عن مؤلفات مهمة في السيرة والسينما التسجيلية والنقد الثقافي، أشهرها "أيام لم تكن معه"، وهو عبارة عن يوميّاتها أثناء سجن زوجها عبد الرحمن الأبنودي سياسيًا، والذي يتناقل الناس حكاية تقول إن الأبنودي كان وراء إيقاف نشرها صحافيًا في أكثر من مطبوعة، فضلًا عن صعوبة نشرها في كتاب. يحكي الكاتب الصحافي محمد بغدادي:

طلبت مني أن أطبع الكتاب في دار النشر التي كنت أملكها، وحين رفضت قالت لي مداعبة: خايف على زعل صديقك... قلت لها: أنا صديق مشترك عرفتكما معًا، وأقف على مسافة واحدة منكما، وأحافظ دائمًا عليها، فلماذا تصرين على أن أخسركما أنتما الاثنين. دعيني صديقًا مشتركًا حتى أستطيع أن أفض الاشتباكات العالقة بينكما... اقتنعت واحترمت رغبتي ولم تحدثني في الأمر مرة أخرى".

منذ سنوات، وهن جسد عطيات الأبنودي بعدما أنجزت مشروعًا كبيرًا. والمتابع لأجواء الرحيل، سيلاحظ درجة عالية من الاحتفاء بحالة من الفقد الإنساني صرت أفهم مبررها، بعدما التقيتها عن قرب في سياق علاقة قوية مع أسرتها الصغيرة. وعرفت أن الحدة التي تركتها ملامحها لدى انطباعي في العام 2009، لم تكن حقيقية بالمرّة. هنا ضحكة تتسع للعالم، وصوت يخرج بصعوبة شديدة حنونًا يحب الجميع، ونظرة مبتهجة رغم قسوة المرض. ربما كانت صرامة الانطباع الأول آثارًا بديهية لنحت سنوات صعبة، ومشوار لم يكن سهلًا، سواء على المستوى الإنساني أو الفني، حيث الإصرار على الانحياز إلى الأبسط في ظروف اجتماعية ومجتمعية لا تسُّهل هذا، وإنجاز المشروع الكبير متكئة على ذراعها وحده.

رحلت منذ أيام قليلة. وفي سرادق العزاء، أمس الأول، لم يعرف أحدنا شخصا يتوجه إليه للتعزية في عطيات الأبنودي، غير أسماء يحيى الطاهر عبد الله، التي، قبل أن يعرفها الجميع واقعيًا أستاذة في المسرح، عرفها طفلة مُلهمة لشاعرين كبيرين في اثنتين من أشهر قصائد الرثاء في تاريخ الشعر المصري.

أمل دنقل:

"ليت أسماء تعرف أن أباها صعد لم يمُت.

هل يموت الذي كان يحيا كأن الحياة أبد، وكأن الشراب نفد...".

عبد الرحمن الأبنودي:

"حرّة كطير البراري، أسماء وعاش المُسمى،

دلوقت بتنام جواري، في فرشتك يابن عمي...".

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.