}

فكتور سحّاب والسينما الغنائية: معطيات وتناقضات

نديم جرجوره نديم جرجوره 4 يناير 2018
سينما فكتور سحّاب والسينما الغنائية: معطيات وتناقضات
أم كلثوم

 

يميل البحث الأكاديمي ـ المختصّ بقراءة مختصرة عن السينما الغنائية المصرية ـ للّبناني فكتور سحّاب (1942)، إلى تشريحٍ مقتضب لأنماطٍ موسيقية مختلفة، تتضمّنها أفلامٌ سينمائية غنائية مصرية، مُنتجة بين عامي 1932 و1960. والميل هذا منبثقٌ من اشتغالٍ طويلٍ لسحّاب في شؤون الموسيقى العربية (تغلب عليها، بشدّة، الأعمال المصرية)، ومن اعترافٍ يؤكّد ـ في أكثر من موضعٍ ـ عدم معرفة عميقة بأحوال السينما عامة (الغنائية وغير الغنائية خارج مصر)، والأفلام الغنائية المُنجَزة خارج مصر.

وإذْ يؤدّي ميلٌ كهذا إلى تنبّه علميّ تاريخي مختَزَل للعلاقة القائمة بين الموسيقى والسينما، فهو يبقى أنجع في قراءته الموسيقى، وأبعد عن تناوله السينما، كفنٍ قائمٍ بحدّ ذاته (له نوعٌ أساسيّ هو "السينما الغنائية")، لاهتمامٍ أكبر بالفن الأول، وإنْ يكن للفن الثاني ارتباطٌ بالأول، في تاريخ السينما عامة، وفي بحث سحّاب أيضاً.

 

اختلافات

أما البحث المذكور، فيحمل عنوان "أضواء على السينما الغنائية العربية (1932 ـ 1960)"، وهو صادر في "كتيّب" عن "دار نلسن" (بيروت، الطبعة الأولى، 2018). أما العنوان، فيوهم بانشغالٍ يتناول الجغرافيا العربية برمّتها، بينما يشير الباحث نفسه إلى أن إنجازه هذا مكتفٍ بإنتاجات مصر في مجال السينما الغنائية، وبأن تحديد الفترة التاريخية بين العامين المذكورين نابعٌ من ارتكازٍ على بحثٍ للمصري جلال الشرقاوي (1934)، بعنوان "رسالة في تاريخ السينما العربية" (1970).

وإذْ يبدو التناقض بين عنوان الكتيّب (مفردة "كتيّب" مذكورة في "إشارة" لفكتور سحّاب، ص. 5) ومضمونه واضحاً، فإن الارتكاز على بحثٍ آخر لتحديد فترة زمنية، غير مفهوم وغير مُبرَّر، باستثناء الركون إلى توثيقٍ، يؤكّد وجود 420 فيلماً غنائياً (فكتور سحّاب نفسه غير معنيّ بتوضيح سبب ارتكازه على رسالة الشرقاوي فقط، في بحثه هذا). والتناقض واردٌ في سياقٍ آخر، إذْ يعترف سحّاب أنه غير مُطّلع على أفلامٍ غنائية مُنجزة خارج مصر، "إلاّ ما ندر"، لكنه يؤكّد، سريعاً، "أن أكثر ما تطوّر من غناء سينمائيّ عربي تعبيري وتصويري وتمثيلي سينمائي، كان في الأفلام المصرية الغنائية، بلا أي منازع" (ص. 5). والتناقض موجودٌ، أيضاً، في موضعٍ متعلّق بـ "مكانة السينما في الموسيقى العربيّة" (ص. 10)، إذْ يُشير إلى عدم خبرته في تاريخ السينما الغربيّة والعربية، كي يُقارن بينهما (ص. 11)، بعد "تحليلٍ" يهدف إلى إثبات اختلافٍ جذريّ يكمن في أن زمن نشوء السينما الغنائية العربية (المقصود المصرية) مترافقٌ ووجود "كوكبة من أعظم موسيقيي العرب (أي المصريين، بحسب البحث، وإن يكن بينهم فريد الأطرش مثلاً) على الإطلاق"، بينما زمن نشوء السينما نفسها في الغرب غير مترافق و"أعظم الموسيقيين الغربيين".



تأكيداتٌ ـ متأتية من اعترافٍ بعدم معرفة ـ تُثير شكوكاً في نصٍّ ينتقل، لاحقاً، إلى المساحة الأقرب إلى الوعي المعرفيّ لفكتور سحّاب. تأكيداتٌ نابعةٌ من تناقضاتٍ، لن يُخفِّف الاعترافُ بها ـ في بحثٍ يُفترض به أن يكون "علميّاً"، ولو قليلاً ـ وطأتَها السلبيّة. وهذا مُضاف إلى "خطأ" آخر، فالدراسة هذه مكتوبة لندوة "السينما العربية: تاريخها ومستقبلها ودورها النهضوي"، يتولّى تنظيمها "مركز دراسات الوحدة العربية" (بيروت) بالتعاون مع "المعهد السويدي بالإسكندرية"، وهي مُقامة في المدينة التونسية "الحمامات"، بين 18 و20 ديسمبر/ كانون الأول 2013، لا كما هو وارد في كتيّب سحّاب: القاهرة (مصر)، بين 30 سبتمبر/ أيلول و2 أكتوبر/ تشرين الأول 2013 (البحوث والمناقشات كلّها ـ بما فيها بحث فكتور سحّاب، طبعاً ـ صادرة في كتابٍ واحد، عن المركز نفسه، في سبتمبر/ أيلول 2014).

مع هذا، فإن فكتور سحّاب يُشير إلى مسألتين أساسيتين: أولى تتعلّق بمتابعة الكتيّب "المحطات الكبرى في السينما الغنائية المصرية"، وثانية تقول إن الغائب الأكبر هو السينما الغنائية اللبنانية، المتضمّنة أفلاماً لصباح وفيروز ووديع الصافي وغيرهم، لكنها، بالنسبة إليه، "لم تُضف تغييراً وتطويراً في أساليب التعبير الموسيقي، على الرغم من قيمة عدد منها" (ص. 7).

 

موسيقى أكثر... سينما أقلّ

بعيداً عن ملاحظاتٍ كهذه، يبقى البحث غنيّاً بمعلومات علمية، متداولة في بحوثٍ تتعلّق بأنواع موسيقية/ غنائية، وبمغزى الاستعانة بها في أفلامٍ سينمائية. الميل إلى تحليل الموسيقى وسرد مساراتها، وإلى تبيان إنجازات موسيقيين عربٍ تُصبح (الإنجازات) تطويراً وتفعيلاً للأنواع في الإنتاج السينمائيّ، كما خارجه؛ يُبعِد (الميل) البحثَ عن السينما الغنائية، وعن أسباب نشوئها وانغماس موسيقيين ومغنين فيها؛ رغم أن لسحّاب ملاحظاتٍ، وإنْ تكن قليلة، حول انعدام فن الأداء التمثيلي لدى بعض هؤلاء.

في العناوين الفرعية القليلة، في البحث/ الكتيّب، يُعيد فكتور سحّاب رسم صورة تاريخية، مُطعَّمة بشيء من التحليل النقدي الذي يسلِّط أضواء على مفاهيم موسيقية، وعلى اشتغالاتٍ عديدة لموسيقيين مصريين مختلفين، يتمكّنون من إضافاتٍ تجديدية في أعمالٍ موسيقية، يُفترض بها أن تتوافق ومطالب صناعة الفيلم السينمائيّ. أيّ أن البحث مصنوعٌ لاختزالِ تاريخٍ ومعلومات في صفحات قليلة، لن يُقدِّم (الاختزال) أموراً جديدة كثيرة، بقدر ما يُذكِّر بالمعروف، خصوصاً بالنسبة إلى المُطَّلع.

وإذْ يُمكن التغاضي عن استخدام مفردات وتعابير "تفخيمية"، كـ "عبقري" و"متفوّق" و"ممتاز" و"أعظم"، التي يتضمّنها البحث/ الكتيّب؛ إلاّ أن هذا الأخير يختار أفلاماً من دون سواها، وملحّنين/ موسيقيين/ مغنّين من دون سواهم، كي يرسم مساراً تاريخياً لتلك الأنماط الموسيقية، خصوصاً المونولوغ والمحاورة والأوبريت؛ وكي يُشير إلى تطوّراتها الفنية والتقنية، وإلى تأثيراتها الإيجابية على السينما الغنائية، وإلى "الخدمات" المبطّنة للسينما الغنائية نفسها على تلك الأنماط.



المقارنة بين الأنماط الموسيقية في المسرح وتلك التي في السينما، مثيرة للتنبّه إلى الإضافات التجديدية الممنوحة للأنماط من قِبَل السينما، إذْ تحتاج السينما الغنائية إلى أصنافٍ لن يقدر المسرح، أو أي فنّ آخر، على صُنعها. فبينما يبقى المونولوغ كما هو في المسرح والسينما، إلاّ أن المحاورة، مثلاً، غير موجودة في الغناء العربي قبل المسرح الغنائيّ العربيّ (ص. 27 ـ 28). بحسب فكتور سحّاب، فإن الرواية، في المسرحية كما في الفيلم، تقتضي "أن تدور محاورات بين الممثلين"، لذا، يُصبح للغناء العربيّ، لاحقاً، "محاورة مغنّاة". وهذا مسحوبٌ على الأوبريت أيضاً، إذْ يقول سحّاب إن الفضل في دخول هذا الفنّ إلى الموسيقى العربية عائدٌ إلى المسرح والسينما، مؤكّداً على عدم وجوده في الموسيقى العربية قبلهما، ومُشيراً إلى أن أول أوبريت في السينما الغنائية العربية تحمل عنوان "أوبريت قيس وليلى" في "يوم سعيد" (1939) لمحمد كريم (ص. 33).

في هذا كلّه، يختار فكتور سحّاب أفلاماً وشخصيات موسيقية عديدة كأمثلةٍ على تحليلٍ يعتمده في تقديم صورة ما عن سينما غنائية مصرية، ينفي عنها أفلاماً مهمّة وتجديدية بعد عام 1960، رغم أنه يذكر بعض إنتاجات السينما الغنائية العربية، كأفلام الأخوين الرحباني مثلاً. لكنه، في أمثلته المتعلّقة بالأفلام، يُركّز على الموسيقيّ لا على السينمائيّ، تحليلاً ودراسة ومعلومة، معتمداً على لوائح منشورة في نهاية الكتيّب (بين الصفحتين 47 و99)، تضمّ أسماء المخرجين والملحنين والمخرجين والمنتجين للأفلام المعنية بالمسألة.

لوائح كثيرة، وصفحات عديدة تحتوي على صُوَر مغنين وملحنين (101 ـ 139)، كما على ملصقات أفلام غنائية عربية (معظمها من مكتبة عبّودي أبو جودة). لكن هذا لن يحول دون قولٍ أخير، في كتيّبٍ يمكن الاستناد إليه كاختزالٍ يمزج بعض العلم والمعرفة ببعض التحليل، المستند إلى العلم والمعرفة الموسيقيين أساساً؛ لكنه اختزالٌ يناقش أحوال الموسيقى والغناء في النتاج السينمائيّ، أكثر من مناقشة السينما كفن بصري غنائيّ، رغم تلميحاتٍ قليلة، تكون، غالباً، في خدمة التحليل الموسيقي ـ الغنائيّ.

 

ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.