}

أسئلة التجديد في السينما الشبابية المصرية

نديم جرجوره نديم جرجوره 26 يناير 2018
سينما أسئلة التجديد في السينما الشبابية المصرية
دارين الجندي وياسمين رئيس ومحمد مهران في "بلاش تبوسني"

مرة جديدة، تؤكّد أفلامٌ عديدة حيويةَ اشتغالٍ شبابيّ في صناعة سينما مصرية مختلفة.
هذا واقعٌ متداول منذ أعوام، إذْ يُحقِّق مخرجون شباب أفلاماً أولى أو ثانية، تمتلك حساسية جمالية وبصرية وفنية ودرامية، تختلف عن كمٍّ هائل من الأعمال المُسطَّحة أو الاستهلاكية. أفلامٌ تُنتَج إما بميزانياتٍ قليلة للغاية، وإما بالتعاون مع شركات إنتاجية، تمتلك خطط عمل مغايرة للإنتاج المصري الطاغي؛ فتكتسب الأولى (أفلام الميزانيات القليلة) حقّ الانتساب إلى "سينما مصرية مستقلّة"، لها ـ بالإضافة إلى ذلك ـ نواحٍ جمالية، تنخرط في القواعد الإبداعية لتلك السينما، كاللغة المختارة في التصوير وإدارة التمثيل والأداء وأساليب المعالجة وأنماط المواضيع المنتقاة؛ وتجمع الثانية بين متطلّبات السوق السينمائية، والإنتاج المستقلّ أيضاً.

 

تجربة جديدة

فيلمان جديدان، لمخرِجَين شابين يُنجز كلّ واحد منهما "أول روائي طويل له"، يساهمان في تفعيل هذا النوع المتجدِّد في صناعة السينما المصرية. ذلك أن اختيار الموضوع، وطريقة المعالجة، وإدارة الممثلين، والبناء الدرامي للحبكة وتفاصيلها ومساراتها ومصائر شخصياتها، أمورٌ تعكس جوانب من اشتغالٍ بصريّ، يقول شيئاً من حيوية مطلوبة في تطوير لغة القول السينمائي، المغاير لسائدٍ بدأ يهتزّ بفضل هذا النوع المتجدِّد نفسه.

والفيلمان هما: "علي معزة وإبراهيم" (2016) لشريف البنداري، و"بلاش تبوسني" (2017) لأحمد عامر، المشاركان في الدورة الأولى (17 ـ 22 يناير/ كانون الثاني 2018)، لـ"مهرجان جونية السينمائي الدولي" (لبنان). لكن المشترك بينهما غير مكتفٍ بانتمائهما إلى صناعة شبابية مختلفة، إذْ هناك تعاون بين المخرِجَين في كتابة الفيلم الأول، المرتكزة على قصّة للمصري إبراهيم البطوط، مخرج "الشتا اللي فات" (2013)، الذي شارك عامر نفسه، مع البطوط، في كتابته أيضاً. والتعاون جزءٌ من مسار سينمائيّ، يصنعه هؤلاء وغيرهم، في محاولة لتفعيل مضمون ثقافي وجمالي، يستند إلى حكاياتِ أفراد، أو التقاط حالات، أو معاينة تفاصيل هامشية، أو مقاربة أحوالٍ عامّة عبر روايات الأفراد أنفسهم.

وإبراهيم البطوط يُعتبر أحد سينمائيي الجيل الجديد في مصر، بتحقيقه أفلاماً منتمية إلى "السينما المستقلّة"، والمنخرطة في تفكيك أحوال الاجتماع المصري، قبل "ثورة 25 يناير" (2011) وبعدها. فهو، إلى جانب أحمد العبد الله مثلاً، يبقى أحد أبرز الوجوه التجديدية في ابتكار صُوَر سينمائية، تجتهد في تفعيل صناعة قائمة بين التزام أحوال بيئة وأفرادٍ وذاكرة وحكايات، وواقعية يومياتٍ إنسانية، مفتوحة على أسئلة الراهن والتاريخ والعلاقات والهواجس والتفاصيل. وإذْ ينفصل شريف البنداري وأحمد عامر، في فيلميهما الأولين هذين، عن مسار إبراهيم البطوط وأحمد عبد الله، لانشغالهما في همومٍ تمزج بعض الفانتازيا بواقعية مضطربة وقلقة، وبعض المخبّأ في كواليس صناعة السينما بكثيرٍ من التهكّم والسخرية، فإن إبراهيم البطوط نفسه متوارٍ كلّياً عن الأنظار السينمائية، في ما يُشبه العزلة الكاملة، منذ وقتٍ، على نقيض أحمد عبد الله، المثابر في اشتغالاته السينمائية المختلفة.

والتجديد السينمائيّ معقودٌ، أيضاً، على سينمائيين شباب آخرين، لكل واحد منهم خصوصية تحويل قصصه إلى متتاليات تمتلك جماليات البوح الذاتيّ، المعقود على لغة الصورة، كهالة لطفي وكريم حنفي ونادين خان ومحمد حمّاد، وغيرهم.

 

كواليس الفانتازيا

وإذْ يميل "علي معزة وإبراهيم" إلى حالة فانتازية/ غريبة، تتمثّل بعلاقة حسّية، عميقة ومتينة وانفعالية، بين شابٍ ومعزة تدعى ندى، فإن "بلاش تبوسني" يغوص في كواليس صناعة السينما، حيث يصطدم مخرج شاب، يُصوِّر أول روائي طويل له، بعنجهية ممثلة معروفة، وبتشاوفها وارتباكاتها ورفضها الظهور في لقطات حميمة، رغم ماضٍ سينمائيّ لها يتضمّن لقطات كهذه، بل أكثر حميمية. فهل تُشبه "غرائبية" المسالك المتعلّقة بـ"نجومٍ"، في كواليس البلاتوهات/ الاستديوهات، فانتازية علي (علي صبحي)، ومُصيبة صديقه إبراهيم (أحمد مجدي)، العاجز عن التخلّص من أصواتٍ حادّة، تخترق رأسه، وتضعه في حالة جسدية ونفسية متعبة وقلقة وتائهة؟ ربما.

أما "سيرة" المخرج الشاب، تيمور (محمد مهران)، فتلتقي ـ بشكلٍ أو بآخر ـ بسير مخرجين شباب، أمثال شريف البنداري وأحمد عامر، يواجهون مصاعب شتّى في بدايات اشتغالاتهم، ويتصدّون دائماً لحالاتٍ، يلتقطها عامر في "بلاش تبوسني"، كمن يعكس شيئاً من حكايته، أو كمن يتناول وقائع متداولة، يضعها في إطار النكتة المثيرة للضحك، أو بالأحرى في إطار "المحاكاة التهكّمية الساخرة"، كي "يفضح" بعض المخبّأ في تلك الكواليس، ويُعرّي بعض "المسكوت عنه" (إنّ يكن هناك ما هو مسكوتٌ عنه)، ليس بغرض الفضح المُسطّح، بل بهدف بلوغ لحظة سينمائية، تتمثّل بمقارنة بصرية بين ماضٍ وحاضرٍ، لن تبقى أسيرة القبلة ومعناها ومصيرها في السينما المصرية، لأنها تُصيب تبدّلات اجتماعية وتربوية ومسلكية، في المجتمع والفنون والحياة.

فانتازية علي وإبراهيم مدخلٌ إلى مناحٍ عديدة في الاجتماع المصري. والرحلة التي يقومان بها من القاهرة إلى الإسكندرية وسيناء، تأخذ الحكاية إلى أنواعٍ سينمائية، كالغرائبية والتشويق، ومفردات "أفلام الطريق"، والبحث عن مخارج من مصائب محتاجة إلى صدمات "واقعية"، تحرّرهما من خرابهما الذاتيّ. وواقعية تيمور وكواليس السينما دعوةٌ إلى التعمّق في مصائب صناعة، مبنية أصلاً على مصاعب كهذه، فإذْ بأحمد عامر يُضفي على نصّه البصريّ ما يُحرِّض على كثيرٍ من المتع البصرية. كأن الفانتازيا صنو الواقع، أو كأن الواقع معقودٌ على فانتازيا اليوميّ في مقارعة عيشٍ مُقيِّدٍ بتحدّيات قاسية، ومَوَاجع لن تضمحلّ بسهولة، وآلام لن يُشفى منها أحدٌ، قبل اغتسالٍ روحيّ دونه صعوبات جمّة.

صحيحٌ أن فصولاً عديدة في "علي معزة وإبراهيم" تضيع في شيء من التكرار الدرامي، ينبثق من فراغٍ حكائيّ في سرد الحكاية، وصحيحٌ أن فصولاً عديدة في "بلاش تبوسني" تقع في فخّ مشابهٍ، وإنْ يتقلّص حجم التكرار فيها عن تلك الموجودة في فيلم البنداري، لكن المناخات المتنوّعة في الفيلمين كفيلة في تبديد شيءٍ كثيرٍ من الفراغات، إذْ تذهب الحكايتان إلى مناحٍ مثيرة لتساؤلات عن الحبّ والعلاقات، وعن آليات المواجهة المطلوبة في عالمٍ يزداد تمزّقاً وقهراً.

 

تفاصيل

يُشكِّل الاستسلام إلى العوالم الفانتازية في "علي معزة وإبراهيم" ـ منذ اللحظة الأولى لانكشاف تلك العلاقة الغريبة بين علي و"معزته"، ووقوع إبراهيم في آلام الأصوات الحادّة، التي لن يسمعها أحدٌ غيره ـ مدخلاً إلى مناحٍ إنسانية، تعكس عيشاً متأثّراً بالفقر والتهميش والخيبات والمواجع، وسعياً إلى خلاصٍ يكون السحر والشعوذة سببها، لكن عمق الصداقة وأجواء الرحلة سيكونان سبباً أساسياً لتطهّر يحتاج إليه علي وإبراهيم معاً.

وهذا مختلفٌ عن "بلاش تبوسني"، الباحث في مفردات صناعة السينما، وفي اضمحلال زمن أجمل وحكاية أروع وعيشٍ أفضل، في مجتمع يزداد، اليوم، انغلاقاً وقسوة، رغم إمكانية سينما شبابية، مثلاً، على مواجهة التردّي الحاصل بإنجاز أفلامٍ تستعيد جماليات الصورة من أقبية الجهل والتسطيح، وبتحقيق نتاجات تخرج على حصارها المزمن.

مع شريف البنداري، ستكون الرحلة أكبر من ثنائي شاب يبحث عن مصالحة مطلوبة مع الذات. إذْ تبدو الجغرافيا مدخلاً إلى الروح، والرغبة في تصفية الحسابات مدخلاً إلى استعادة توازنٍ ما داخل الفرد نفسه أولاً. ومع أحمد عامر، ستكون الرحلة مختلفة تماماً، إذْ تكشف ـ بسلاسة وهدوء وسخرية وتهكّم ـ مكامن الخلل الآنيّ، في السينما والإعلام والاجتماع والعلاقات، بصُور متأنية في قول الأشياء بصراحة. مع البنداري، يتحرّر علي من علاقته بالمعزة، بعد نزوله إلى أقصى الجحيم الأرضيّ، واستعادته شيئاً كثيراً من ذاته المفقودة في حبّ قديم، ووجع دائم. ويتخلّص إبراهيم من ضجيج الأصوات وحدّتها، بعد مواجهته مخاوفه وأشباح ماضيه، واختراق سدودٍ تصنعها تلك المخاوف والأشباح، بهدف تحطيمها. ومع عامر، يبقى التهكّم بوّابة أساسية لمقارنةٍ بين ماضٍ وحاضر، ولتبيان خلل الآنيّ ورحابة زمن فائت، ولتفعيل معنى النكتة وجمالياتها في مقاربة حكايات إنسانية متفرّقة.

ورغم نواقص درامية وجمالية قليلة، خصوصاً في مسألة الفراغات داخل السياق الدرامي ـ الحكائيّ ـ السردي، فإن "علي معزة وإبراهيم" و"بلاش تبوسني" ينتميان إلى سينما شبابية مصرية، تصنع صُوَرها من وقائع العيش اليومي في مواجهة تحدّيات الأقدار والمصائر.

وإذْ يمتلك علي صبحي عفوية كبيرة في تأدية دور شخصية منبثقة من العالم الشعبيّ، فإن أحمد مجدي يبدو خارج المناخ الاجتماعي للبيئة، وخارج الأداء المطلوب لتفعيل شخصية كهذه. أما ياسمين رئيس، في "بلاش تبوسني"، فتبقى الأجمل في تأديتها دور ممثلة متعالية ورافضة أشكال القبل والعلاقات الحميمة، رغم ماضيها المعروف في هذا المجال.

مع هذا، فإن "علي معزة وإبراهيم" و"بلاش تبوسني" فيلمان منبثقان من هواجس سينمائية، لمخرِجَين شابين يمتلكان قدراً كبيراً من الحساسية السينمائية الجميلة.

 

ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.