}

"فوبياراما": مسرحية هولندية عن صناعة الخوف والإرهاب

صالح حسن فارس 21 أغسطس 2017
 

كنتُ واقفًا بانتظار العرض المسرحي الهولندي Phobiarama "فوبياراما" أتأمل فولدر العرض: "فوبياراما تعالج مسرح الخوف، الذي يقدمه لنا الإرهابيون، السياسيون، ووسائل الإعلام، نجلسُ باستمرار مشدودين أمام شاشات التلفزيون، نتفرج على نهايتنا المعلنة مسبقا، نريد أن نُشيح بأنظارنا لكننا لا نستطيع، هل علينا أن نقلل من شأن الرعب القادم من حولنا؟ هل نتمسك برباطة الجأش؟ أم على العكس، علينا أن نخاف أكثر مما نحن خائفون الآن"؟

ثمة أسئلة كثيرة يثيرها هذا العرض المثير للمخرج الهولندي الشاب المعروف دريس فرهوفن الذي قُدم ضمن فعاليات مهرجان هولندا العالمي للفنون، وسبق لهذه المسرحية أن عُرضت في مهرجان أثينا المسرحي، وسوف تعرض في مدن هولندية ومهرجانات عالمية.

غسيل دماع متواصل

يحيلنا عنوان المسرحية (فوبياراما) إلى الخوف ومصدره ومسبباته، وكيف يتعطل العقل بفعل غسيل الدماغ المتواصل، الذي تمارسه علينا السلطات ووسائل الإعلام. يصبح الخوف وهما مرضيًا ملازما لنا ويعمل على تعطيل حواسنا. يحذرك أحدهم من الخطر ليخيفك، ثم يأتي الثاني ليحذرك من الأول، والثالث يحذرك من الثاني، وهكذا تستمر سلسلة من المخاوف التي تلاحقنا وترعب حياتنا حتى تصبح فوبيا.

يؤثث المخرج فرهوفن مكانًا هو عبارة عن منزل على شكل خيمة كبيرة، أو قفص أسود، طوله 25 مترًا وعرضه 15 مترًا في ساحة عامة (مركاتور بلاين) غربي مدينة أمستردام، وهي ساحة حي شعبي، أغلبية سكانه من ذوي الأصول المهاجرة، وشارك فيه عدد من الممثلين المهاجرين في مدينة أمستردام (عشرون ممثلا من الرجال) وعشر سيارات، وكل عرض لعشرين شخصا، لمدة تسعة أيام، وكل يوم تقدم سبعة عروض.

بداية الرحلة

"تفضل سيدي إلى الداخل، اذهب إلى الأمام، ثم استدر إلى اليسار، ستجد غرفتك رقم 4"- هكذا أخبرني المرشد المسرحي، مشيتُ بحذر وخوف، في ممر مظلم ومخيف، يُشبه عوالم كافكا، نرى من بعيد ضوءًا خفيفًا في باحة البيت، ثمة سيارة صغيرة فارغة واقفة على سكة حديدية بانتظارنا، من نوع سيارات التصادم في مدينة الألعاب. جلستُ في السيارة مع امرأة هولندية لا أعرفها، لتشاركني الخوف، أو ربما تخفف الخوف، أو تكسر مفهوم الوحدة والعزلة. انطلقت بنا السيارة بشكل أوتوماتيكي وبطيء، خائفان نحن، هي تنظرُ لي وأنا أبدد خوفي بابتسامة مصطنعة، لا نعرف ما الذي يحدث هنا، هل سيحدث بعد قليل اشتباك مع الإرهابيين؟ هل سـتمتد أيد خفية وتخطفنا؟ هل يظهر لنا خفاش الليل بشكل مفاجئ ويرعبنا، أو هياكل عظمية تمتد إلينا من النوافذ، أو من الأبواب كما كان يحدث في بيت الأشباح، في مدينة الألعاب التي كنا نزورها حينما كنا أطفالًا.

تمشي السيارة بنا، نمسك بها بقوة، أمامنا أجهزة تلفزيونات صغيرة معلقة في زوايا البيت، تبث لنا أخبارًا مخيفة عن الحرب، الانفجارات، الإرهاب والإرهابيين، الأزمة المالية، الخطاب السياسي الذي يُنذر بالخطر، أسماء السياسيين: الرئيس الأميركي ترامب، اليميني المتطرف الهولندي فيلدرز، والبلجيكي يان تيرليون، الحركات الإسلامية المتطرف، الشعبوية، صواريخ كوريا الشمالية، القوى اليمينية المتطرفة، الأمن العالمي، الغرق، الحرائق، معاناة اللجوء ومشاكل اللاجئين.

بداية العرض صادمة، تزخر بمعالم مخيفة وغامضة، في جو متوتر يقطع الأنفاس، تشعر وكأنك تمشي على حائط عال، أو حبل يكاد ينقطع بك في أي لحظة وتسقط في البحر. ما زالت السيارة تمشي في طريق مظلم، متعرج ومثير، بعد لحظات يظهر لنا من زوايا البيت المظلمة، وبشكل مفاجئ، أشخاص كأنهم أشباح يرتدون ملابس دببة كبيرة الحجم، بنية اللون، كأنها خارجه من الغابة، تبحث عن فريستها، تريد أن تقبض على أرواحنا، تقترب منا، تكاد تلامسنا، يقوم الرجال الدببة بحركات جسدية تغيظنا وهم يتمتعون بخوفنا بحركات سادية.

أقنعة الخوف

تقف السيارات، ينزع الرجل - الدبّ رأسه، أي القناع، ثم لباسه، يظهر لنا المهرج المتواري خلف قناعه، يخرج من جيبه بالوناً ينفخه ثم يفجره. استخدم المخرج الخوف على شكل طبقات يرتديها الممثل، وكأنما الخوف مغلف بأكثر من قناع. بعد لحظات ترجع السيارة إلى الخلف بشكل مفاجئ وبسرعة مخيفة، بعد أن نسمع تحذيرًا من التلفزيون، علينا أن نغادر القاعة بأسرع وقت ممكن، يرتفع التوتر الدرامي، يزداد الخوف، المهرجون يلاحقوننا.

تأخذ المسرحية طابعًا غير متوقع، يتصاعد إيقاع العرض والدراما معًا، كأننا في مغامرات سباق السيارات، أو مشهد في فيلم بوليسي مرعب، شاشة التلفزيون لم تتوقف عن بث الأخبار المخيفة بكل لغات العالم دون توقف، تأتينا من كل صوب وتحاصرنا، للتأكيد أن الإعلام هو سبب نشر الخوف والذعر في أنفسنا. ثم نشاهد صورنا في شاشات التلفزيونات، كأننا رهائن أو مختطفون، يا له من رعب حقيقي، يزداد الخوف فينا، يأتينا صوت تهديد من قبل الإرهابيين يقول: هذا المكان خطر، ومفخخ. يا لها من رحلة مخيفة، شعرتُ حينها بالخوف فعلًا، قشعريرة تدب في جسدي، رعب وذعر، كأنني دخلتُ في متاهة أو بيت مسكون بالأرواح الشريرة.

نهاية الرحلة

بتقنية عالية، وبأسلوب مغاير للمألوف والسائد، يأخذنا المخرج فرهوفن في رحلته المحفوفة بالمخاطر، إلى عالم غامض، لا أفق له، رحلته التي تُشبه إلى حد ما رحلة مهاجر ترك وطنه مرغما، من أجل العبور إلى الضفة الأخرى، عله يصل إلى الجنة الباردة ويظفر بامرأة شقراء، ويحقق حلمه أو وهمه، أو يصبح ضحية لهذه الرحلة العجيبة والغريبة التي قد يدفع حياته ثمنا لها، دون جدوى. يكسر المخرج كل التوقعات، حيث تقف السيارة مرة أخرى في منتصف الطريق، نسمع أصواتا، صراخ أطفال، نساء وشيوخ عجائز، كلاب تعوي، تختلط الأصوات مع بعضها البعض، طالبة النجدة بلغات مختلفة. يحاول المهرج إماطة اللثام عن الوجه الآخر، ويتجرد من ملابسه، باعتبار أن التعري رمز التوق للحرية، أو إشارة لتغير المكان، يقترب الممثل منا ويصعد السيارة معنا ويجلس في الخلف، ثم يلامس أكتافنا، ونصبح أصدقاء.

كما في أعماله المسرحية السابقة، يتناول المخرج موضوعات مثل الهجرة اللجوء، الجنس، والقضايا السياسية الراهنة، التي يختار تقديمها في الأماكن العامة والساحات الشعبية، كما يغيب الحوار لدى الممثلين، بل يعتمد العرض على صوت واحد في جهاز التسجيل، واختار المخرج أن يكتسي ممثلوه ملابس دببة، ثم ملابس مهرجين، بعدها يتعرون من ملابسهم. الممثلون جميعهم أبطال، لا يوجد بطل وحيد في العرض، إنهم متشابهون في كل شيء، بأجسادهم الضخمة، ملابسهم، إيماءاتهم، تعبيراتهم الحركية والجسدية. وكان من اللافت غياب العنصر الأنثوي تمامًا في العرض، حيث كان جميع الممثلين من الرجال، في إشارة إلى الطابع الذكوري للعنف السائد في العالم.

يحرص المخرج فرهوفن في أغلب أعماله على أن يشرك المتلقي في العرض المسرحي وجعله فاعلا ومشاركا في العملية التفاعلية والإبداعية، وأن لا يكون بعيدًا عن الممثل، بل قريبا منه ويتفاعل معه.

اعتمد العرض على اللعب مع الضوء والظلام، وإضاءة التلفزيون، كما اعتمد على الوسائط المتعددة (ملتي ميديا)، حيث استخدم عددا من الأفلام الوثائقية التي عُرضت على شاشة التلفزيون.

في نهاية المطاف لرحلتنا يُهدينا المخرج فرهوفن أغنية أوبرالية للموسيقار الألماني باخ باللغة الألمانية مما دفع بالعرض إلى مستوى راق، حيث تقول الأغنية:

"تعال أيها الموت الجميل

تعال.. خذني إلى الحرية

لأنني تعبتُ من هذا العالم

أنا بانتظارك

تعال بسرعة"

إضاءة عامة، تقف السيارات، نسمع صوتا يقول: نحن الذين نعيش هنا، لا بد من أن نواجه الأخطار، نحن سنعيش معا وإلى الأبد.

رؤية إخراجية مغايرة

في أسلوب مكثف ومشوق يتسم بالعمق والجرأة، تطرح مسرحية "فوبياراما" السؤال عن حقيقة مخاوفنا، وهل هناك خطر واقعي أم أننا نعيش في متاهة من التصورات؟ كما تناقش المسرحية نبذ الكراهية، ومحاربة الإرهاب، ونشر المحبة والتسامح، وبث روح الأمل في نفوسنا.

اختار المخرج ثيمة راهنة تحاكي الواقع وتقترب منه وتحاكيه في كثير من المحطات، وقدم رؤية إخراجية مغايرة، في مناخ مثير وعالم يتسم بالغرابة، يترك نافذته المسرحية مفتوحة على كل الاحتمالات التأويلية والقراءات المتعددة.

غادرنا سيارتنا، ولا تزال أصوات الحرب وصياح الغرقى والقتلى ترن في آذاننا. تأتي النهاية بعد سلسلة طويلة من الرحلة المثيرة والغريبة. انتهت الرحلة، لكن متى ينتهي الخوف؟

المخرج المسرحي الهولندي دريس فرهوفن واحد من أبرز الاصوات الفاعلة في المشهد المسرحي الهولندي المعاصر، يعتمد كثيرًا في عمله على "المسرح التفاعلي"، أي يؤكد على تفاعل الجمهور مع الممثل والعرض المسرحي بشكل مباشر، كما يعتمد على المشاريع المسرحية الكبيرة والمثيرة للجدل، التي تقدم في الأحياء الشعبية متعددة الثقافات، ويطرح مواضيع مثل التجربة الشخصية للمهاجر، الهجرة، الاندماج، والخوف من الأجنبي. حقق نجاحًا سريعًا وتألق بين المخرجين المعروفين في هولندا وخارجها، حيث حظيت أعماله المسرحية المثيرة للجدل باهتمام النقاد في هولندا وخارجها. ومن أعماله السابقة نذكر: الكاميرا المظلمة، الجنازة، الأيدي الفارغة، أريد اللعب، أرض اللاأحد، وغيرها.

 *فنان مسرحي عراقي يقيم في أمستردام 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.