}

عن بيروت، وشبابها، وسينماها الجديدة

نديم جرجوره نديم جرجوره 7 ديسمبر 2017
رغم المصائب الجمّة التي تُعانيها بيروت، منذ سنين عديدة، يتمكّن شبابٌ لبنانيون من اشتغالٍ سينمائيّ، يعكس بعضُه أحوالَ مدينةٍ وبلد، وحالاتِ أفرادٍ وجماعات، وحكاياتِ راهنٍ وماضٍ. هذه صُوَر حسّية، يصنعها شبابٌ لبنانيون، مستندين في تحقيقها إلى قصص شخصية، أو وقائع مُعاشة، أو أحاسيس يتوقون إلى اختبار التقاطها السينمائيّ، أو خبريات يرويها أهلٌ وأجداد، فتُثير في بعضهم انفعالاً أو تفكيراً. هذا نتاجٌ يقول شيئاً من غليان لحظة آنيّة، مليئة بعنفِ اليوميّ المتنوّع، أو ينفتح على ذاكرةٍ، يُراد لها النسيان المُطلق، فإذا ببعض هؤلاء يتصدّون للنسيان، ويخترقون المحرَّم، ويذهبون بعيداً في نبش ماضٍ لبنانيّ، تُشكِّل استعاداته البصرية المختلفة مدخلاً إلى مقارناتٍ تكشف منابع خراب، أو تؤرِّخ لحظات انتفاضٍ ومواجهة، أو تُبيِّن حجم الانهيارات الآنية، المتأتية من انصراف كثيرين، في الماضي كما في الحاضر، عن تنفيذ حلول جذرية لهذا الكمّ الهائل من المصائب.

 

ملامح تجديدية

النتاج السينمائي اللبناني الجديد يحمل، في ذاته، تجديداً بصرياً أيضاً. هذا أساسيّ في كلّ تعليق نقدي، لأنه حاضرٌ في كثيرٍ من هذا النتاج الحديث. فالجديد لن يكون إضافةَ عددٍ فقط، بل محاولة نوعيّة جدّية لتجديدٍ يطاول كيفية الاشتغال بالصورة، ويُبلور ـ أكثر فأكثر ـ مفهوم العلاقة بالصورة هذه، ويمنح الصورة نفسها حرية أكبر في التعبير، ويدفع السينمائيّ إلى اختباراتٍ تضعه على حوافي المخاطر الفنية والثقافية والإنسانية، لكنها تجعله أمتن وأعمق في استعادة ماضٍ، أو في التقاط لحظة، أو في سردِ حالة.


فالجديد تجديديّ أحياناً، وهذا مطلبٌ يُترجَم في أفلامٍ عديدة، كما في مشاريع يعمل أصحابها على تحقيقها قريباً. شبابٌ يأتون إلى إخراج الفيلم الأول أو الثاني من اختباراتٍ وأعمال ومهن سينمائية مختلفة، أو يُكمِلون مساراتهم بأفلامٍ تُضاف إلى لائحة سِيَرهم المهنية، كعناوين جديدة، وكممارسات تجديدية، تُصيب أحياناً، وتضلّ الطريق أحياناً أخرى (وهذا طبيعيّ للغاية)، لكنها تشترك كلّها معاً في الرغبة العميقة في الاختبار، بأنماطه كافةً.


إذاً، يحفل عام 2017 بتنويعٍ سينمائي لبناني، تتفاوت أحواله ومستوياته، لكنه يتضمّن تلك الرغبة في العمل، وفي الاختبار، وفي خوض مغامرة التجديد، بمتاهاتها والتباساتها وجمالياتها كلّها. لكن الأبرز فيه كامنٌ في أن بعضَ النتاج مبنيٌّ على مسألتين أساسيتين: التوغّل في راهنٍ يوميّ يُثقِل على أفرادٍ، واضعاً إياهم أمام تحدّياتِ عيشٍ وانفعالٍ وحبّ وعلاقات وحراكٍ؛ واعتماد لغة بصرية تنتفض على تقليدية السرد، وترتكز ـ أكثر فأكثر ـ على نبض الفرد، وارتباكاته ومواجعه وأحلامه الموءودة وهواجسه المتخبّطة بين عشقٍ مبتور، وحالة مضطربة، وانعدام كلّ أمل، وانسداد كلّ أفق.


هذا حاضرٌ في الروائي الطويل، من دون أن يغيب، كلّياً، عن الوثائقي المتخيّل (أو "الوثائقي الإبداعي"، كما يحلو للبعض وصفه باللغة العربية)، الذي تزداد جمالياته السينمائية براعةً وصوغاً وسرداً؛ علماً أن بعض الوثائقيات تلك يقف عند حدّ واهٍ وفاصلٍ بين وقائع جماعية وحالة ذاتية فردية بحتة، يريد السينمائيّ تعبيراً عنها، عبر وثائقيّ ينخرط في صناعة الروائي المتخيّل/ الإبداعي.

 

مواجهة الذات وثائقياً


صناعة الوثائقي، نفسها، غير مكتفية بالذاتيّ البحت، لأن بعض الوثائقيات مدخلٌ إلى تحويل الذاتيّ إلى مرايا، تعكس شيئاً كثيراً من أحوال جماعة.

"بانوبْتِك" لرنا عيد، مثلٌ أول: العلاقة الشخصية البحتة بين المخرجة ووالدها الراحل، وهو ضابط سابق في الجيش اللبناني، تتحوّل إلى ركيزةٍ درامية وإنسانية وأخلاقية متينة، لسرد مقتطفات من التحوّلات القاسية للبلد وناسه، خصوصاً في المرحلة اللاحقة للنهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990). وهذا متمثّلٌ، أيضاً، بمحاولة طرح أسئلة مُعلّقة من زمن الحرب، كثنائية "تحت الأرض/ فوق الأرض"، ومصير غائبين، ومعنى السجون والعلاقات اللبنانية والاضطرابات غير المنتهية، وغيرها.

"شعورٌ أكبر من الحبّ" لماري جرمانوس سابا، مثلٌ ثانٍ: من زراعة التبغ والعمالة اليومية في معمل غندور للمواد الغذائية والسكاكر، في النصف الأول من سبعينيات القرن الـ20 تحديداً، إلى الانتفاضات الشعبية المعطّلة منذ سنين بعيدة (مع عودةٍ إلى أزمنةٍ وتحوّلات لبنانية في القرن الـ19 أيضاً)، يرسم الوثائقي هذا ملامح تاريخ وواقع وعلاقات وقناعات والتزامات وحقائق "مُشوَّهة" أو "حقيقية"، مستعيداً اختبار العام 1860 (إحدى المجازر الطائفية اللبنانية)، كي يُلقي نظرةً، فاحصة وقاسية وسجالية، على راهنٍ، يتشكّل بين عامي 1975 و2015، ويتعمّق في تبدّلاته وانشقاقاته وتمزّقاته، وفقاً لتاريخ حافل من النضال الشعبي المعلّق والمغدور.



"الجنّة المفقودة" لرين متري، مثلٌ ثالثٌ: الذاتيّ طاغٍ كلّياً، في حكاية فردٍ يواجه ذاته وروحه وهواجسه، كمواجهته أشباحه التي تُلاحقه في الحبّ والعلاقات الملتبسة بالمدينة والآخر، كما بالجسد والروح والتفاصيل اليومية. والمواجهة حتمية، كأنّ الفعل السينمائيّ الوثائقيّ اغتسالٌ، أو محاولة اغتسال، عبر الصورة ونبضها، من هذا كلّه. أم أن الفعل نفسه تعرية للذات والروح أمام عين الكاميرا/ عين المخرجة أيضاً؟

3 أفلام وثائقية (يستحقّ كلُّ واحد منها قراءة نقدية مستقلّة، لما فيها من تساؤلات ومسارات ومصائر وأشكال بصرية تجديدية) تضع الذاتيّ أمام الجماعة، من دون تغييب الجماعة كلّياً؛ وتخترق الجماعة، من دون إلغاء الذاتيّ، عبر سرد الخاصّ بلغة الفرد. للتوثيق متطلباته، وهي حاضرة في فيلمي رنا عيد وماري جرمانوس سابا. لكن التوثيق أداةٌ لفهم مسائل متعلّقة بأحوالِ بلدٍ، عبر الذات والروح الخاصتين بالمخرجتين، الباحثتين ـ بشغفٍ سينمائيّ وهوسٍ جماليّ ـ في أهوالٍ مخبّأة هنا وهناك، وفي محتويات الأهوال وأقدار ناسها. والتوثيق نفسه غير قادر على حجب ما هو مهمّ أيضاً: سيرة المخرجة، عبر سيرة الوقائع.

فالتوثيق، في فيلمي عيد وسابا، نواة مفتوحة على إلغاء كلّ حدّ بين الذاتيّ والعام، أو بين رغبة الذاتيّ في القول، والقول نفسه. في المقابل، تكتفي رين متري بحكايتها الفردية الخاصّة جداً، كي تواجه مدينتها بصراعٍ صامت بينهما، ينبع من حبّ ملتبس، أو من غيرة معلّقة (غيرة حبّ غامض، أو يُشبه الغموض؛ أو غيرة علاقة معلّقة، أو علاقة أخرى)، أو من تساؤلات معقودة على مزيدٍ من التساؤلات (كأن هناك ما يحول دون بلوغ إجابات، مطلوبة أو غير مطلوبة)، أو من واقع عيش المخرجة في المدينة.



 

أزمنة محدَّدة.. أمكنة محدّدة

وإذْ تذهب رين متري، في "الجنّة المفقودة"، إلى فلسطين، ولو بخفرٍ وهدوء وصمت، عبر جنوب لبنان، الذي تضعه ماري جرمانوس سابا في واجهة المشهد السينمائيّ الخاص بـ"شعور أكبر من الحب"، من دون أن يتفرّد الجنوب بالصنيع الوثائقي برمّته؛ فإن فلسطين نفسها تحضر في "بيت البحر"، الروائي الطويل الأول لروي ديب، في كلامٍ تسرده إحدى الشخصيات، نقلاً عن والدٍ غائبٍ. لكن ديب معنيٌّ بنسيجٍ إنسانيّ أقوى وأعمق وأجمل من أن يُختَزَل بنظرة بعيدة إلى فلسطين، المقيمة في ذات المخرج وروحه. فالنسيج مشغولٌ  بهاجسِ التنقيب المُعمَّق في أحوال 4 شباب، يلتقون ذات ليلة في منزل إحداهنّ (شابان يزوران صديقتهما في منزلها، بحضور شقيقتها المقيمة، زمناً، في باريس)، ويتبادلون كلاماً يمتدّ من الذاتيّ الخاص، إلى محاولة التنبّه إلى معانٍ مختلفة للحياة والعلاقات والحبّ والمصائب والغربة والبقاء، في حواراتٍ مفتوحة على ذكرياتٍ قديمة، وعلى انفعالات آنية، وعلى هواجس مرتبكة.

وهذا، بشكلٍ ما، يلتقي والمناخ الإنساني العام لـ"يوم ببيروت"، أول روائي طويل (أيضاً) لنديم تابت (علماً أن "بانوبْتِك" هو الوثائقي الأول لرنا عيد، المتخصّصة بالصوت السينمائيّ؛ تماماً كما أن فيلم "شعورٌ أكبر من الحبّ" هو الوثائقي الأول لماري جرمانوس سابا؛ علماً أن لرين متري أفلاماً سابقة على "الجنّة المفقودة"، وثائقية وقصيرة). وإذْ يُشكِّل هذا مشتركاً أول بين فيلمي ديب وتابت، فإن المشترك الثاني قائمٌ في اختيار 4 شخصيات شبابية أساسية أيضاً (هناك شخصية خامسة في "يوم ببيروت"، تحتل موقعاً متقدّماً، لن يحجب أولوية الحضور المتعلّق بالشخصيات الـ4 الأساسية)، لقراءة حالة شبابية لبنانية مُسرفة في اضطراباتها وخرابها ومواجع ناسها. كما أن المشترك الثالث كامنٌ في اعتماد وقتٍ محدّد كمساحة زمنية للنصّ الدرامي: فـ"بيت البحر" منفلشٌ على ليلة واحدة؛ و"يوم ببيروت" يمتدّ على مدى يوم كامل.

تفاصيل كهذه لن تحجب الأهمّ في كلّ فيلم منهما على حدة، ولن تضع الفيلمين في خانة التشابه أو التكرار، اللذين لن يجمعا بينهما إطلاقاً. المشترك تفصيلٌ يطاول الشكل، في حين أن الاختلاف جذري في النص والسرد والحالات، كما في اختبار التجديد الدرامي في مقاربة حالات أولئك الأفراد، المُصابين بخيبات أو آلام أو هواجس أو رغبات، والساعين إلى خلاصٍ غير مكتمل، وإلى امتلاكٍ، ولو مؤقتاً، لتنفّس آمن. فاختيار الليل، في "بيت البحر"، كمساحة زمنية لسرد النصّ، لن يكون عابراً، بقدر ما يُشكِّل إضافة بصرية لمعنى التخبّط والنزاع الفرديين في مقاربة أحوال كل فردٍ، في علاقته بذاته، كما بالآخرين. أما تحديد المنطلق الزمني لـ"يوم ببيروت" بصباحٍ "مُشرق"، إيهامٌ بصريٌّ بما هو نقيض المسارات المختلفة للشخصيات كلّها، طوال ذاك اليوم المُشِّع بنور مخادع وصفاء كاذب، والمنتهي بصباح اليوم التالي. فالليل انكشافٌ لأحاسيس وارتهانات ودقائق مخبّأة هنا وهناك، واليوم حيّز أطول وأوسع لتنقيبٍ "هادئ" في ثنايا الغليان والتخبّط والمواجع، التي يعيشها شبابٌ يتوهون في شقاء اللحظة، ويبحثون عن منافذ تبدو أنها مغلقة، ويريدون عيشاً يظهر كأنه محجوبٌ عنهم.

 

عن أداء يليق بالحكايات


هذا كلّه مرسومٌ بشفافية وصدق وواقعية وحساسية فائقة، في فيلمي "بيت البحر" لروي ديب و"يوم ببيروت" لنديم تابت، كما في الأفلام الوثائقية الـ3. كأن جمالية الصورة معقودة على صدق كبير وعميق في ارتكاب فعلٍ سينمائيّ، ينبثق من ذواتٍ مفتوحة على حرية بحثها عن مفردات عيشٍ وقول، رغم انغلاق الأفق عليها. وهذا يُضاف إلى أداءٍ يأخذ من الممثلة/ الممثل حاجات كلّ شخصية في كيانها المستقلّ بحدّ ذاته، أو في ارتباطاتها المتنوّعة بالشخصيات الأخرى. حاجات متمثّلة بالتركيبة الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية والنفسية لكلّ شخصية، المتحوّلة ـ بفضل الممثلات/ الممثلين (رودريغ سليمان وساندي شمعون وجوليان فرحات ونسرين خضر في "بيت البحر"؛ ويمنى مروان ومنال عيسى ورين سلامة وبانوس أبراهاميان ونيكولا قرداحي في "يوم ببيروت") إلى كياناتٍ بشرية متفلّتة من وطأة المهنة، ومنفتحة على واقعية العيش والإحساس والسلوك، ومتلائمة وثقل المواجع والخيبات والرغبات المعطّلة.

والأداء ـ إذْ يليق بحكايات شخصيات موغلة في متاهات عيشها، وباحثة عن منافذ تأخذها إلى ما هو مختلفٌ عن خيباتها، وساعية إلى عيش لحظاتها كأن لحظاتها تلك حياة بكاملها ـ يستند إلى حساسية كلّ شخصية، وصدقها ونبضها وأحلامها ورؤاها ومتنفّسها وألمها وخيباتها. وهذا معقودٌ على سلاسة نصٍّ، وشفافية حكايات، وواقعية مصائب، تندغم كلّها بعضها بالبعض الآخر في إخضاع المونتاج إلى اضطراب الحالات، باستخدام هادئ لحركة الكاميرا، الذي (الاستخدام؟ الهدوء؟) يُتيح للنص ومتاهات شخصياته أن يصنعا جمالية الصورة في مقاربة أهوال الآنيّ.

 

ناقد سينمائيّ من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.