}

"عساه يحيا ويشم العبق"..الجسد الشيعي في مشهدية غرائبية

عادل عبد الوهاب 24 ديسمبر 2017

"عساه يحيا ويشم العبق" هو العرض الأخير من ثلاثية الراقص والكيروغراف (مصمم الرقص) علي شحرور، وقد شهده مهرجان أيام الرقص في مدينة بوتسدام الألمانية، على مسرح

.Fabrik potsdam 

هل هناك جسد شيعي وجسد سني وجسد مسيحي وجسد يهودي؟ هل الجسد الشيعي حاضر طوال الوقت؟ هل هو حاضر فقط في الطقوس والشعائر؟ وهل حضور الجسد الشيعي يستدعي صراعاً مع الجسد السني؟ 

سنبدأ بهذا التساؤل كمفتتح لتناول هذا العرض المميز لعلي شحرور، ولكن بعد أن نسرد

بعض المعلومات الأساسية عن الجماليات وبناء العرض.


الرقص المعاصر بين الأساسيات الغربية والتمرد العربي

العرض الراقص "عساه يحيا ويشم العبق" ينتمي إلى عروض الرقص المعاصر التي تطورت من نمط آخر من الرقص يسمى الرقص الحديث، ويرى بعضهم أنها تختلف كلياً عن الرقص الحديث. نوعية عروض الرقص المعاصر غالباً ما تحمل موقفاً أو فكرة أو حركة وقليلاً ما تحمل قصة ذات بناء درامي تصاعدي كرقص الباليه أو الرقص الحديث. إنه أكثر تحرراً من القواعد والتقنيات في فنون الرقص الغربية، كفن الباليه والرقص المسرحي الحديث، الذي عدّ، في وقت ظهوره، ثورة على الرقص الكلاسيكي، ويميزها على مستوى الشكل أيضاً أنها مثل مقطوعة موسيقية طويلة. عنوان العرض "عساه يحيا ويشم العبق" هو بالطبع مفتاح لفهم العرض، ففي عروض المسرح المعاصر، والرقص المعاصر، يشكل العنوان مفتاحاً رئيسياً للتعامل مع العرض وفهمه وخلق صلة مع العرض جمالياً ومعرفياً. إن طبيعة هذه العروض مبنية درامياً بشكل مليء بالتجريد وخصوصية الرموز والإحالات. ربما تتقاطع الرموز والبنية الدرامية مع ثقافة الجمهور وربما لا، وهذا تحديداً ما أراده صناع العرض من اختيار العنوان.
لقد أرادوا تسريب شيء من  الحالة التي يرغبون في أن نشاركهم إياها. إنها حالة طقسية مقدسة، هي حالة القيام والبعث وما يصاحبها من هالة ماورائية. وهذه الفكرة قديمة قدم الحضارة، وتعد ركيزة مهمة في الأديان السماوية الإبراهيمية (اليهودية - المسيحية - الإسلام) وتتفاوت أهميتها من دين لآخر ومن طائفة لأخرى، أما بالنسبة للأديان والحضارات السابقة على الأديان الإبراهيمية فهي من أهم الركائز وتحمل دوماً عناصر متقاربة. وفي الحضارات السابقة على اليهودية الإلهة الأنثى دوماً مسؤولة عن عملية البعث والقيامة، وهذا ما يظهر أيضاً في أحد الخطوط الدرامية في هذا العرض.

إذاً، فالعنوان يسرب لنا الحالة والمفاهيم أيضاً. إنه عرض عن الموت وفكرة القيامة والخلود، بعث من نحبهم أحياء مرة أخرى كما فعلت إيزيس وعشتار في ميثولوجيا العالم القديم، الآن كيف نبعث أحباءنا، نحن نبعثهم بالعويل والعديد والنواح. 

يبدأ العرض بصوت تلاوة قرآن، صوت عذب به فخامة القراءة المعتادة في إذاعة القرآن الكريم المصرية، صوت التلاوة التي يعرفها الناس بالمدرسة المصرية في القراءة، ولكنه صوت أنثوي قريب لصوت أم كلثوم فقط نسمع صوت القرآن، المسرح فارغ، إضاءة خافتة مصدر الصوت من أمامنا قوي ورخيم وجميل لم يكن صادماً لي، لكن وقع التلاوة على المتلقي الأوروبي هو ما كان يشغلني والأسئلة المثارة في عقل أحدهم في لحظة القراءة ودلالة هذه الآيات تحديداً من سورة القيامة في المجتمعات المسلمة المختلفة:

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.

تستمر تلاوة القرآن، وبعد ذلك يرتفع صوت ضجيج غير مميز في البداية ويعلو جداً ويصبح واضحاً أنه هدير هليكوبتر وأصوات طائرات أخرى ويخفت صوت القراءة تدريجياً. وبالطبع هذا المشهد الصوتي يحمل كثيراً من الدلالات والمشاعر ويمكن لكل شخص أن يفسرها بطريقته ويمكن أن تثير مشاعر متباينة. شخصياً تذكرت 11 سبتمبر، وبعدها قفزت لذاكرتي مشاهد من فيلم أميركي عن قصف العراق، وهذا يعد تلقياً ذاتياً جداً مجرداً من أي تحليل الدلالات والعلامات (السيميولوجي).

وسأورد الآن وصف افتتاحية العرض كما رأيتها:

- صوت قراءة القرآن، سورة القيامة حتى الآية 4 (صوت نسائي). المسرح فارغ. هناك  الدخان الثقيل (كالضباب) وإضاءة بيضاء باردة. الصوت معدٌّ ليأتي في مواجهة المتفرج.

- صوت ضجيج طائرة، أو قطار، يعلو الصوت تدريجياً ويتضح أنه صوت هدير مروحيات (هليكوبتر) وطائرات أخرى. يتصاعد الصوت. يذوب صوت التلاوة في هذا الضجيج إلى أن يختفي، كأنه كان صوت في رؤوسنا نحن، كما لو أننا نعبر لعالم آخر.

- تتغير الإضاءة. يقوم ثلاثة مؤدين/ ممثلين كانوا يجلسون بالصف الأول للجمهور، يستديرون ويواجهون الجمهور، ينظرون يميناً ويساراً ببطء. يتضح أنه صوت طائرة. يجلسون. بعد دقيقتين تقريباً تظهر الممثلة من فراغ المسرح مطأطئة الرأس قليلاً، تنظر للجمهور وتبتسم. 

- تواجه الجمهور وتتلو مقولة الإمام علي ابن أبي طالب وتؤديها مسرحياً وهو عائد من معركة صفين:

يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ (1) وَالْمَحَالِّ الْمُقْفِرَةِ (2) وَالْقُبُورِ الْمُظْلِمَةِ، يَا أَهْلَ التُّرْبَةِ، يَا أَهْلَ الْغُرْبَةِ، يَا أَهْلَ الْوَحْدَةِ، يَا أَهْلَ الْوَحْشَةِ، أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ (3) سَابِقٌ، وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ (4) لاَحِقٌ.

أَمَّا الدُّورُ فَقَدْ سُكِنَتْ، وَأَمَّا الْأَزْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ، وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ.

هذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا، فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ؟

ثم يبدأ بلعب الموسيقى اثنان من المؤدين الثلاثة، والأوسط يتحرك معهم كأنهم يقودونه بموسيقى آلة الرق والصاجات ويدخلون المسرح وظهورهم للجمهور.

وتبدأ مرحلة ثانية من العرض بهذا الشكل بعد عبورهم الخشبة كأنهم انتقلوا إلى عالم آخر مذ كانوا على مقاعد المتفرجين. ربما دلالة ذلك انتقالهم من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، أو العكس أو هذه المساحة المقدسة للشهداء، فهم دائماً أحياء بشكل ما. 

عند عبور خشبة المسرح يتوزع الانتباه بين تكوينين/ كتلتين مسرحيين/ ثلاثة أجساد رجال في مقابل جسد أنثى.

الرجال/ الممثلون/ اثنان يعزفان وفي المنتصف، معظم الأحيان، الراقص، ودوما الأنثى/الممثلة في وضع أقوى. مسرحياً تكوين الرجال موسيقى ورقص. وتكوين الأنثى عبارة عن أداء صوتي وحركة، يمكن أن نطلق عليها حركات طقسية، أو شعائرية مستمدة من الجنازة، من الفرح، من حركات الصلاة.

 

https://www.youtube.com/watch?v=dy0sdTfmnJY

 

تصميم الرقص الطقس الديني كمصدر لا ينضب

بني رسم الرقص في هذا العرض على تكثيف جملة حركية في كل مشهد، إما من الطقوس الشيعية الحسينية، أو رقصة الدبكة، أو رقص الصوفيين، أو الحركات المصاحبة للحداد وتكرارها وتوظيفها مع البيئة الصوتية. الأغاني أو الأناشيد أو الأداء التمثيلي المنغم للممثلة تولد معنى ما من خلال خلق مشهد به كلمة والرقصة تكون مكملة للمعنى. أحد المشاهد التي كانت تغني بها الممثلة تهويدة - (أغنية قبل النوم للأطفال) - سومرية قديمة ولكنها ما زلت موجودة في ثقافة بلاد العراق والشام حتى الآن، تحديداً في التراث الشيعي العربي.

الممثلة عارية الصدر تقف على مكعب مرتفع يواجه ميكروفون وتغني (دللول .. دللول يامه الولا دللول … نام نام يا يمه). الولد أثناء الرقص نائم. مستلقٍ على الأرض ينتفض بإيقاع جسدي مستوحى من الرقص التراثي الشرقي.

والتكوين المسرحي ككل في هذا المشهد بصرياً بوجود الممثلين يكوِّن صليباً، كأنه مشهد البعث بعد الصلب، كأنها عشتار تبعث تموز من الموت.

هكذا يمكننا أن نرى بوضوح جماليات تصميم الرقص في هذا العرض المعتمد على الرقص  التراثي (الدبكة) والطقس الديني الشيعي متمثلاً في (اللطم وضرب الصدور) وطقوس الحداد،  لأننا لا ننتبه كثيراً أنها تشكل هويتنا ولا ننتبه أحياناً أنها تشكل جسدنا السياسي والهوياتي،  وعندما يقوم الفنان بفكها وإعادة ترتيبها يمكن أن ننتج جماليات فنية جديدة وتحتفي أيضاً بالموروث وتبرز موقعه في الوعي والخيال الجمعي. لكن هنا أيضاً تكمن إشكالية هذا العرض، لأنه بدا احتفاء بحالة طقسية معينة أقرب إلى المزاج الشيعي المتعلق بالجسد الشيعي وبالموت والبعث والشهادة على الطريقة الشيعية، في حين أن هذا الجسد في مكان آخر ليس ببعيد (سورية وبعض مناطق لبنان) يعتبر جسداً قاهراً، سلطوياً، لأن كل طقوسه موظفة في الصراع الدائر في سورية الآن.

الجسد الذاتي في مواجهة الجسد السياسي:

 في عرض "عساه يحيا ويشم العبق" نجد هذا الخط الدرامي. يبدو أحياناً كأنه صلب البناء الدرامي ولكنه للعين المتمرسة مسرحياً، في رأيي، لم يتم التأكيد عليه بالأدوات المسرحية. جسد الممثل والراقص نفسه وصراعه يبدو حاضراً. وهو صراع الراقص والمخرج علي شحرور مع كل هذا التراث الحركي لثقافته ونشأته وموقع الأنثى القادرة على بعثه. ربما يتوق الراقص/ الممثل إلى إلهة أنثى. وهذا ظاهر من اختيار صورة الملصق "تمثال الإلهة عشتار". ومن مواقع الممثلة على خشبة المسرح في مواجهة موقعه. فهي دوماً في موقع أقوى. هي جسد في مواجهة ثلاثة أجساد: هو والعازفون.

التراث المقدس 

الدراماتورجيا للعرض قائمة على الاستفادة من جلال النص المقدس. البدء بالآية الكريمة، وبعدها قول الإمام علي الذي يشبه، في عالم المسرح الغربي، ما يسمى بالمونولوج وذلك عندما يقوم البطل التراجيدي بالتحدث إلى الجمهور أو إلى شخصيات غير مرئية كحديث هاملت إلى شبح أبيه الملك المغدور. معالجة باقي القطع الموسيقية بموسيقى شرقية تعتمد على البزق أو الطبلة والمزمار لخلق هالة من القداسة على الأغاني. "عساه يحيا ويشم العبق" عرض مسرحي بدا كطيف مقدس ولكنه نخبوي يحتفي بجماليات جسدنا الشرقي ويجنّب نفسه التساؤلات السياسية والشعبوية، ربما يمكن اعتباره عرضاً غرائبياً "excotic" طقسياً عن الجسد الشرقي للمتلقي الغربي، أو عرضاً جميلاً عن الرقص لن تشاهده إلا في بيروت لو كنت مشاهداً عربياً.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.