}

الفنان يونس رحمون؛ أريد منزلاً أسكنه ويسكنني

عمر يوسف سليمان 26 أكتوبر 2015
تشكيل الفنان يونس رحمون؛ أريد منزلاً أسكنه ويسكنني
منزل - لون، 2015. يونس رحمون. (غاليري إيمان فارس)
لا يحضر في أعمال الفنان المغربي يونس رحمون، إرث مدينة تطوان المعماري وحده، بل إرثها الصوفي أيضًا. سبع وسبعون قطعة مشغولة على شكل قلب الإنسان، يستعرض من خلالها رحمون آراءه الصوفية ورؤيته إلى المنازل والقلوب، حيث يرمز الرقم السبعة إلى اللانهاية بالنسبة إليه. 

ليونس رحمون، معرض حاليًا في غاليري "إيمان فارس" في باريس. ها هنا نشاهد تلك القطع الزجاجية التي لا تجذبنا جمالياً بقدر ما تثير فينا التساؤلات. ذلك لأن أعمال الفنّان تندرج في خانة المنشأة الفنية سليلة الفن المفاهيمي الحديث.

تقدّم منى مقوار، القيّمة على المعرض، مفتاحًا للاقتراب من أعمال رحمون: "تأخذ أعمال يونس رحمون أبعادها كلّها ما إن تتنزّل في مفهوم عالم قائم على فلسفة التصوّف. فهو ينشد من خلال مسيرته المصالحة ما بين الممارسة الفنية والممارسة الروحية، ما يتطلب تنويعًا على مفهوم التناغم، أي مبدأ اندماج البشر في محيطهم".

وتبدو القطع الزجاجية للوهلة الأولى شبه متماثلة، لكن ما إن نقترب منها حتى نرى أضواءً بألوان عدة تنبع من داخلها، ويغلب عليها اللون الأخضر. كان يونس، كما قال لـ"ملحق الثقافة"، قد نحت هذه القطع نتيجة لقاء بينه وبين صديقه القديم "كمال السوسي"، الذي درس وإياه في مدارس تطوان، ثم دخلا معاً كلية الفنون الجميلة: "كنت محظوظاً، إذ كانت الكلية الوحيدة التي تدرِّس الفنون الجميلة في المغرب"، يفيد يونس. وبعد سنوات من الافتراق، وتفرغِ كل منهما لعمله، عادا إلى اللقاء من جديد. ولأن كثيراً من اللقاءات بين المبدعين تُنتج إبداعاً فريداً، فقد أنجزا هذا العمل الضخم خلال ثلاثة أشهر فقط، وذلك بعد أن صمّم يونس القطع من مادة الصابون، ليعيد كمال إنتاجها من مادة "الريزين" الصناعية، ما منحها شفافية منسجمة مع "خلق شكل لما لا شكل له"، وفقًا لتعبير القيّمة مقوار.

اقرأ أيضًا : وليد رعد خدش السياسي ومشاكسته بالفن

في الطابق الأرضي من الغاليري، تعتلي هذه القطعُ ثلاثَ طاولات تمثّل بالنسبة إلى يونس، الشعوب الدافئة، أو القبائل التي ما زالت تحيا بعيداً عن التكنولوجيا. أما القطع، فإنها شخوص، ثمة اختلاف بسيط في الشكل بين كلٍ منها، هذا الاختلاف يمنحها الخصوصية، تماماً كما الإنسان، لكن ما يجمعها، هي تلك المساحات الفراغية؛ فالسلالم التي تحويها بعض القطع تحوطها جدران من جهتين، لتبقى الجهة الثالثة مشغولة بالفراغ، ذلك الفراغ المليء بالتأمّل، الذي يشبه مرايا تعكس الداخل اللامحدود من النفس البشرية. كما أن لكل قطعة ألوانها الخاصة التي لم يحتج رحمون إلى جهد كبير لإنجازها، فقد مزجها من أصباغ طبيعية، وهي تبدو للناظر داخلها شبيهة بمتاهة من الأضواء. هذا الانتباه إلى القبائل التي تعيش عالمها الخاص من جهة، واستعمال التقنيات الحديثة من جهة أخرى، بخبّران معًا عمّا يبتغيه رحمون: "أبحث عن شكل لأشياء غير مرئية، وغير محسوسة، مثل الإيمان والروح والذهن".

ليست المرة الأولى التي يعرض فيها يونس أعماله في باريس، فقد سبق له أن أقام معرضاً شبيهاً في معهد العالم العربي، وآخر بعنوان "ذرَّة" في غاليري إيمان فارس عام 2012، إلا أن خصوصية هذا المعرض تجيء من أنه يدور في فلك موضوع واحد، وفي أنه عمل واحد متكامل. ولعل هذا ما حدا برحمون للقول: "العمل الفني ليس سوى امتدادٍ لأرواحنا التي نتشاركها مع الآخرين، لذلك لا يحق لأحد أن يمتلكه".

وإلى جانب القطع، يضمّ المعرض منزلاً طينياً ضيقاً لا يتسع إلا لشخص واحد، نراه في الطابق السفلي من الغاليري، وهو كوخ مغلق شديد الظلمة، لا نستطيع أن نتحرّك داخله، ما إن ندخله حتى تتوجه أعيننا نحو فتحة صغيرة لدخول الضوء، فنحن كما يحدِّثنا يونس: "
ا"، ويضيف شارحًا: "كما أننا نسكن في المنزل، فإنه يسكننا. المنزل هو الداخل والخارج في الوقت ذاته".

تطغى في أعمال رحمون، معالم البيئة الريفية التي نشأ فيها، حيث يعلو سحر الألوان بيوتَ الطين في أرياف تطوان التي يلتقي فيها البحر بالجبل، ولهذا سمّى المعرض بـ"المنزل" الذي يأخذ حيّزه من كافة أعماله، فقد سبق له أن أقام معارض "غرفة"، و"مقبرة" و" جبل ـ حجر ـ تراب" في عواصم عالمية مختلفة. وتشي تلك العناوين، كما لا يخفى، بأن المكان هو الهاجس الأوضح لدى رحمون.

لكن المكان بحد ذاته لا يكفي لسبر العوالم المشعة، إذ إن الرموز الصوفية تشكّل جزءاً مهمًا من عمله، فمدينته تطوان كما يراها، مبرِرًا خياره الفني: "ملتقى الحضارات والثقافات منذ عصر الهجرات العربية، وإليها رحل كثير من علماء الأندلس".

في هذه المدينة تعلّم رحمون الفنون الجميلة، كما أتقن علوم الكونيات على أيدي أساتذته، فالفن بالنسبة إليه: "وسيلة للوصول إلى الحكمة". لكن ما ترك أثره الأعمق في نفسه، احترام والديه لفنّه، منذ أن كان طفلاً يمزج بين الألوان وينحت القطع الخشبية ويشكل كتَل الورق.

لم يجد يونس ضرورة للخروج من هذه المدينة الصغيرة كي يصل إلى العالمية، ليعلّق قائلًا: "حتى ولو كنا نعيش في قرية أفريقية منسيَّة، نصل إلى حيث نريد إن كان فننا إنسانياً". هكذا أقام رحمون معارضه في الرباط وستوكهولم وإسبانيا والكاميرون والدنمارك وغيرها، إلا أن تطوان وحدها تمنحه الخلوة التي لا يستطيع الإنجاز من دونها، تلك الخلوة الصوفية التي دفعته إلى نحت قطعة طينية على شكل بطن أم متكور، نراها في القسم الثاني من المعرض، وتمثل الرحم "منزلنا الأول والأكثر دفئاً وأماناً"، كما يقول يونس.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.