ما بعد عرسال..

ما بعد عرسال..

10 اغسطس 2014
+ الخط -


ربما تكون بلدة عرسال اللبنانية الحدودية مع سورية إحدى البؤر التي يراد منها إحراق المنطقة، بمباركة أطراف محلية وإقليمية ودولية. ولا يخفى أن قسماً من الأطراف المحلية والإقليمية يعمل وفق هذا المخطط. ما يدور في المنطقة ليس نظرية مؤامرة، بل مؤامرة، لكن المؤامرة ليست على الحكومات المستبدة، إنما على شعوب المنطقة العربية، ومستقبلها، والمستبدون أداة هذه المؤامرة، وجرائمهم وقودها.

احتضن أهل عرسال اللاجئين السوريين وثورتهم، حتى فاق عدد السوريين أبناء عرسال أضعافاً مضاعفة، ولم يتذمر أهل عرسال، أو يمتعضوا من هذا الوجود، كما حصل في مدن لبنانية كثيرة، بل على العكس، عبروا عن أصالتهم، وقدموا صورة مشرقة للعربي الأصيل الذي يتميز بإكرام الضيف وإغاثة الملهوف. واليوم، عرسال تقصف وتدك لا بطائرات الأسد، بل بمدفعية الجيش اللبناني، فما الجرم الذي ارتكبه أهلها!

أُريد لأهل عرسال أن يدفعوا فاتورة دعم الثورة السورية، ولمّا كان ذلك صعباً من النظام السوري وحلفائه، أُريد توريط الجيش اللبناني في معركة غير ملائمة، في زمن خاطئ، فما يحدث في عرسال أعد ورتب في ليل، وهو جزء من مخطط لإحراق المنطقة. وبما أن لبنان بلد هش، والمؤسسة العسكرية فيه باتت الضامن الأخير لبقائه بلداً متماسكاً، كان لا بدّ من ضرب هذه المؤسسة، بتوظيفها وتوريطها في معارك تخدم طائفة معينة، وتوجه رسائل سلبية لطائفة أخرى، ونتحدث مكرهين بهذه اللغة، لأن لبنان الدولة بني على هذا الأساس الطائفي المقيت.

استلهام الجيش اللبناني لتجربة الأسد بقصف المدنيين، بحجة محاربة الإرهاب، ومنعه المدنيين السوريين من الهروب من حمم النيران، يضع منظومة الجيش اللبناني الأخلاقية على المحك، وروّج الإعلام كذباً أن أهل عرسال خرجوا، وفعلياً لم يخرج عشر السكان. وربما تكون مبادرة هيئة علماء المسلمين التي نجحت بإطفاء فتيل الفتنة مؤقتاً، ستترك النار مشتعلة تحت الرماد، لأن النظام السوري وحلفاءه لا يريدون لها أن تنطفئ، ومشاركة حزب الله الفجة بقصف عرسال، ومشاركة الطيران السوري بقصف عرسال، واستحالة سحب السلاح من المسلحين اللبنانيين من أبناء عرسال، في إطار القوانين المزدوجة لتعامل الجيش اللبناني مع اللبنانيين، تمثل خير دلائل على ذلك.

ومما يؤسف له أنّ السياسيين اللبنانيين لم يسلكوا طريق الحكمة الذي سلكته هيئة علماء المسلمين في لبنان، فكلهم يتظاهرون بدعم الجيش، لكنهم يفككون الجيش، فالسماح للجيش بالقيام بمهامه الوطنية ضد طرف واحد، وهو السنة في هذه الحالة، وغض الطرف عن حزب الله، سيدفع لاحقاً إلى بدء مسلسل انشقاقات، والانشقاقات ستكون عمودية مدمرة، لا سيما إذا علمنا أن أهل السنة يشكلون 40 % من الجيش اللبناني، فالجيش الوطني الحقيقي ينبغي أن يعامل كل المسلحين بمسطرة واحدة.

وبدأت بذور الفتنة الطائفية تطل في الشارع اللبناني، على الرغم من كل تصريحات زعماء الطيف السياسي بدعم الجيش. ولعل مسلسل السيارات المفخخة والاغتيالات السياسية يعود في لبنان، وستحول المجموعات المسلحة عملها لحرب عصابات وكمائن للجيش اللبناني، هو غير مهيأ لها. وتسهم دول عربية بدفع لبنان نحو هذه الهاوية، بتأييد الجيش في قمع المسلحين في عرسال بالحديد والنار، ومن دون أية ضمانات باستقلال القرار الوطني للجيش اللبناني. من يدعم المؤسسة العسكرية اللبنانية، ويريد لها الخير، لا يوافقها على قصف المدنيين، فالإرهاب، إن وجد، لا يحارب بالقصف العشوائي، إنما بالحكمة والعدل، ثمّ بالعمليات العسكرية النوعية التي تحافظ على المدنيين، وتحترم أبسط حقوقهم، ينبغي للحريص على المؤسسة العسكرية مطالبتها الوقوف على مسافة واحدة من كل اللبنانيين.

يخطئ من يظن أن معركة عرسال انتهت، فما انتهى في البلدة الحدودية فصل من فصول فتنة كبيرة، تحاك للجيش اللبناني وللبنان.