Skip to main content
مياه راكدة: بطل أبيض يتجوّل في مارسيليا
عبد الكريم قادري
لم يبذل المخرج جهداً كافياً في بناء شخصية وتطويرها (Imdb)

أعاد المخرج توم مكارثي، القالب الجاهز الذي اعتمدته معظم شركات الإنتاج الأميركية الكبرى منذ تأسيسها، وألبسه للممثل مات دايمون من جديد، في شخصية بِلْ، في "مياه راكدة" (2021، 139 دقيقة). يتميّز هذا القالب الهوليوودي بالرجل المُنقذ، الذي يواجه المخاطر بصدر عار من أجل وطنه أميركا، وحمايته من الأعداء والمخاطر المحدقة، أو لإسعاد أسرته والتضحية من أجلها، أو لإنقاذ البشرية من الهلاك والدمار اللذين تسبّب بهما الإنسان أو الطبيعة.
مع توم مكارثي (المُشارك في كتابة السيناريو، مع الفرنسيّين توما بيدوغان ونُوِي دُبري والأميركي ماركوس هِنْشي)، البطل أقلّ حدّة، لكنّه لم يخرج من تلك الصورة النمطية، ما جعل الفيلم عادياً، لا يُثير شغف المُشاهد المتخصّص ولا حماسته، بسبب الأحداث المتوقَّعة والمَشاهد المُكرّرة التي لا تُقدّم جديداً في الخلق السينمائي، إذْ يُمكن توقّع تفاصيل القصّة بسهولة، ما ساهم في طمس معالم التأويل، رغم أنّ مكارثي السيناريست فاز بجائزة "أوسكار" أفضل سيناريو أصلي عن "سبوتلايت" (2015)، الذي أخرجه أيضاً. مُشاهد الفيلمين يُلاحظ الفرق الجمالي الشاسع بينهما، كأنّ لكلّ واحدٍ منهما مُخرجاً مختلفاً، يملك رؤى واتجاهاً معيّناً غير اللذين يمتلكهما الآخر، مع أنّهما للمخرج ـ السيناريست نفسه.
تتمحور قصّة "مياه راكدة" (Stillwater)، المعروض خارج مسابقة الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي، حول الأب بِلْ بايكر (مات دايمون)، الذي لا يتّفق كثيراً مع ابنته أليسون (أبِغل بْرَسلِن). الأخيرة عاشت مع جدّتها، قبل أنْ تتابع دراستها في فرنسا، حيث دخلت السجن بتهمة ارتكابها جريمة قتل. بعد أربعة أعوام، يُقرّر والدها زيارتها في السجن، ثمّ يطّلع على معطيات كثيرة عن القضية، فيبدأ التحقيق فيها، واكتشاف ما لم يتناوله الإعلام، المُركّز عند حصول الجريمة وبشكل رهيب على إدانة أليسون. كما أنّ الشرطة تناست معطيات عدّة في تقريرها، بالإضافة إلى اعتذار المحامية عن فتح الملف مجدّداً، لأنْ لا قرائن جديدة يُعتَمد عليها. كما كان عاجزاً عن دفع مبالغ مالية كبيرة للمحقّقين الخاصين.

في خضم هذه التفاصيل، مدّد بِلْ إقامته في فرنسا، وعمل في ورشات بناء للبقاء قريباً من أليسون. ولحُسن حظّه، تعرّف على أسرة جديدة في مارسيليا، مؤلّفة من فرجيني (كاميل كوتّان)، التي تُصبح مُترجمة له، وابنتها الصغيرة مايا (ليلو سيوفو)، التي ينسج معها علاقة تواصلية قوية، اقتربت من إحساس الأبوّة، فترك الفندق وأقام معهما في منزلهما.
عَكس الشكل الخارجي لبِلْ بايكر صورة الأميركي الأبيض القوي، مفتول العضلات، رغم أنّه في منتصف العمر، ذو شعر يميل إلى الشقرة، ولحية صغيرة يصعب معها قراءة ملامحه وتحديدها بسهولة. يواجه شدائد في تحقيقه المبتغى الإنساني، وإرساء مبادئ التضحية الأسرية. يوازيها في المقابل العامل النفسي، الذي يعكسه الغموض وقلّة الكلام والتفكير في الاتجاهات كلّها، كما الذكاء وسرعة تنفيذ المهمات وكشف الحقائق، وتحرّكه برقّة دفينة، والتفكير في الآخرين، والحبّ الذي يتجدّد مع وجود فضاء مناسب له.
هذه شخصية بِلْ بايكر، النموذجية والمُكرّرة، التي قدّمها توم مكارثي، من دون أنْ يتعب في تجديد معالمها واتجاهها، مكتفياً بإخراجها من أحد أدراج هوليوود، ومُقدّماً إياها كما هي، مع توظيف اختلافات بسيطة في القَصّ وتشكيل الأحداث. انعكست الاختلافات، وإن كانت مُتوقّعة، في أنّ أليسون مذنبة في جريمة القتل، لكنّها تقول عكس ذلك، ووالدها صدقها، لكنّه اكتشف بعد تحقيقاته ضلوعها فيها، فغطّى عليها وأخرجها من السجن، وعاد بها إلى أميركا، على حساب الأخلاق والعدالة والنظم الإنسانية، انطلاقاً من فكرة تعويض دوره كأب، الذي لم يمارسه، بعد تنصّله من مسؤولياته الأسرية بسبب عمله، الذي يُجبره على التنقّل الدائم.
حددّ "مياه راكدة" المعالم التي صنعت شخصياته، بدءاً من بِلْ، الذي لم يؤدِّ دوره الأبوي، الذي يُفترض بكلّ أب أنْ يؤدّيه، ما حرم ابنته من أشياء كثيرة، وقطع التواصل بينهما، وحطّم أسرته وفكّكها بعد انتحار الأم. أليسون مثلية الجنس، ومساهمتها في قتل فتاة عربية جاءت من منطلق جنسي. بحسب علم النفس، هناك عوامل عدّة تؤثّر في مسألة المثلية الجنسية، لكنْ لا تأكيدات ثابتة إلى الآن عمّا إذا كان التأثير بسبب البيئة والتربية، أو أنّ هناك عاملاً بيولوجياً. ورغم هذا، هناك اتفاق بين كافة المدارس يقول إنّ غياب صورة أحد الوالدين، سواء كان الغياب مادياً أو معنوياً، أحد العوامل، مع التشديد على عدم وجود مُسبِّب رئيسي واحد، بل عوامل عدّة. هناك احتمالات، منها العلاقة السيئة بين الابنة ووالديها، أو فقدان الطفل أحد والديه، ما يؤدّي إلى البحث عن جنسٍ مُشابه، تعويضاً عن هذا الفقدان.
رغم هذا كلّه، لا إجابات حاسمة في علم النفس. لكنْ، بالنسبة إلى أليسون، هذه مرجعيات مرضية، فالأب بِلْ سببٌ في تلك الحالة. لذا، وجب عليه عدم الاحتجاج (هذا ما حدث)، والمضي قدماً في إنقاذ ابنته من جريمةٍ، تشكّلت عندها انطلاقاً من العوامل الأسرية. ورغم أنّ هذه الخطوة الذكية تُحسب لتوم مكارثي، لا يُعفيه هذا المعطى من المسؤولية الفنية، التي دفعته إلى عدم خلق لغة سينمائية، أو على الأقل توليد مبدأ سردي مختلف ومغاير للسائد.

تجاوزت مدّة "مياه راكدة" الساعتين. لكنّ مكارثي حافظ على تماسك القالب السردي، الذي استعان له ببناء كلاسيكي، قَسَم السيناريو إلى بداية وعرض ونهاية، مع تزويد القصّة الرئيسية بأخرى ثانوية مُعينة لها، تضمن كسر الرتابة، كالعلاقة العاطفية التي تطوّرت بين بِلْ وفرجيني، الممثلة المسرحية، التي أدخلته إلى عالم الفن الذي يجهله تماماً. ساهمت هذه القصّة الثانوية بدفع القصّة الرئيسية، المتمحورة حول تساؤل عمّا إذا شاركت أليسون في جريمة القتل أو لا. بالإضافة إلى قصص أخرى ساهمت في مطّ الفيلم وإطالة مدّته.
رغم هذا، حافظ "مياه راكدة" على الإثارة والترقّب اللذين يسمان أفلام الجريمة عادةً، ما يفسّر لجوء المخرج السيناريست إلى هذا القالب السردي الكلاسيكي، الذي يضمن الحدّ الأدنى من تعاطي الجمهور مع القصّة. كما حافظ مات دايمون على توهّجه في مفاصل الفيلم، مؤدّياً دوره بمعطيات النجاح التمثيلي التي اعتمدها في مساره المهني، مع أنّ توم مكارثي أغرقه في "المياه الراكدة" للفيلم، بتأديته شخصية مُكرّرة في قصّة تجري وقائعها في فرنسا، وبدرجة أقلّ في أميركا.

لكنْ، لو أجرى المُشاهد لعبة بسيطة، متخيّلاً أنّ أحداث القصّة جرت في مدينة أميركية فقط، لما أحسّ بهذا الفرق، بل يُحتمل أنْ تكون القصّة أقوى وأعمق، وربما تُقلّل من الأعباء المالية، لأن الفضاء الفرنسي غير مُبرّر درامياً، ولم يُقدّم أيّ هوية أو بصمة فرنسية تجعل الاختيار مقبولاً، وإنْ كانت أليسون تدرس في مرسيليا، لكنّ هذا لا يُفسّر المعطى بطريقة تقنع الجمهور والمُشاهد المتخصّص.