}

آخر شعراء "جيل الخمسينات" في هولندا: الشعر يأتي دائماً

16 سبتمبر 2019
ترجمات آخر شعراء "جيل الخمسينات" في هولندا: الشعر يأتي دائماً
ريمكو كامبرت: كتبت قصائد عن الحرب البشعة بسورية

أجرت صحيفة "فولكس كرانت" الهولندية قبل أيام حواراً مطولاً مع الشّاعر الهولندي ريمكو كامبرت بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاده التّسعين. وقامت بإجراء الحوار الكاتبة الهولندية ميريام فان هينجل، والتي أصدرت العام الماضي السيرة الذاتية للشاعر.
ويعد كامبرت اليوم آخر شعراء "جيل الخمسينات"، الذي ترك أثراً لا يمحى في تجديد الشِّعر الهولندي المعاصر.
هنا ترجمة للحوار:

لا يزال شاعر هولندا الكبير ريمكو كامبرت نشيطاً في الكتابة رغم وصوله سن التسعين، يقول: "أنا في التسعين، ورغم هذا أحافظ على كتابة ثلاثة أعمدة صحافية أسبوعياً، أعتقد سيكون أفضل لو اكتفيت بواحد فقط في الأسبوع".
قبل فترة خرجت العديد من الصحف الهولندية بعنوان عريض: "كامبرت يتوقّف عن الكتابة"، ما أثار دهشة كامبرت نفسه حينها وتساءل: "وهل هذه هي نوعية الأخبار التي تنشرها الصحف اليوم"؟ لكنه عاد بعد أسبوع ليقول: "حسناً، ربما كانوا محقّين".
نعم، "حسناً". هكذا يتقبّل كامبرت اليوم الأشياء كما هي، كما كان دوماً، فإن لاحظ أن كتابته لثلاثة أعمدة أسبوعية (اثنان لصحيفة فولكس كرانت وثالث للسفير) كثير، فسوف يتوقّف. وعندما خرجت الصحف معلنة توقّفه عن الكتابة، رفع كتفيه أمامي باستسلام دون أن يقول شيئاً، هو الذي إذا مرض لعدة أسابيع، فسوف يؤقلم نشاطاته بحسب راحته. تقول زوجته ديبورا: "في غرفته لا يفعل أي شيء، فقط على قيد الحياة ويقرأ الصحيفة كل يوم". وعندما كان يأتي ذكر الاستعداد للاحتفال بعيد ميلاده التسعين، كان يقول: "أرى ذلك يوماً عادياً. أتشوّق لعيشه كما هي الحال في معظم الأيام".
ليس فقط اندهاشه من حدوث الأشياء على هذا النحو هو ما جعل كامبرت مضطرباً، بل مجرد حضوري لأجري معه هذا الحوار، في خضم الاستعدادات الكبيرة للاحتفال بعيد ميلاده، وهو ما وجده غريباً: "نعم، غريب، لأنّنا منذ عامين نلتقي بشكل أسبوعي ونتحدّث مطولاً لتكتبي سيرتي الذاتية"، وغمز لي بعينه.

على المائدة ذاتها نجلس الآن، أمام نافذته العريضة المطلّة على شجرة الأكاسيا الضخمة في الشارع، كان الأمر بالنسبة له غريباً وغير معتاداً: "فأنت تعرفين كل شيء الآن".
أنا أيضاً وجدت الأمر غريباً، منذ أن صدرت السيرة الذاتية التي كتبتها عن كامبرت قبل عام، لا زلت أواظب على المجيء إليه كل أسبوع: النبيذ، التدخين، الأحاديث المتبادلة على مائدة الطعام مع زوجته ديبورا، فيما هو على الجانب الآخر من الطاولة، الفارق الوحيد هو اختفاء دفتر الملاحظات الذي كان دوماً بجواري وأنا أكتب سيرته، عرفت مجدداً أن كامبرت يفضّل ألا يفعل شيئاً، كان يفرح حين يبدأ أحدهم في حكي قصص مضحكة، أو التّحدّث عن أي شيء، إلّا أن يجلس مجبراً لأجل حوار أو مقابلة صحافية، هذا ما كان كامبرت يكرهه بشدّة.
كنّا نستمع إلى تسجيل صوتي من سبعينيات القرن الماضي، حيث سجلت عليه مقابلة بين كامبرت وناشره خيرت لوبرهايزن، الذي كان يتحدّث طيلة الوقت تقريباً فيما نحن لا نكاد نسمع صوت كامبرت أثناء الحوار إلا نادراً، فقط نسمع أصوات أكواب نبيذ تُرفع من وقت إلى آخر، وهي عادة كامبرت الأثيرة لجعل أي حوار يمرّ سريعاً، وبعد ستّ دقائق وتسع ثوان، يقول لوبرهايزن: "حسناً، هذا كلّ شيء، أليس كذلك"؟
مثال آخر: زار رجل الإذاعة جان دونكرز صديقه كامبرت في منزله الفرنسي ذات مرّة لإجراء مقابلة ماراثونية معه لمدّة ساعتين. كان دونكرز رجلاً خجولاً. وكامبرت أكثر منه خجلاً. كيف سيكون مثل هذا الحوار إذاً؟!  مؤكّد تساءل دونكرز بينه وبين نفسه بتردّد. كان شريط التسجيل مليئاً بالوقفات الطويلة، إلا من أصوات أجراس الكنائس البافارية التي كانت تُسمع من وقت إلى آخر، إلى جوار صوت إخراج علب المثلّجات، أو تغيير وضع كرسي على العشب، أو سعال شخص، ومن وقت إلى آخر صوت أحدهم ينفث دخان سيجارته.
وبالرغم من هذا كله، وعلى عكس تلك الظهيرة التي كتبت عنها فقط في دفتر ملاحظاتي، أخذت جهاز التسجيل الخاص بي هذه المرّة واعتزمت إبقاء فمي مغلقاً قدر الإمكان. إن توجيه الأسئلة إلى ريمكو حول حياة والده جان كامبرت، وصداقته مع جيل الخمسينات، وشعبيته كواحد من الكُتّاب الهولنديين القلائل بنبرته الشِّعرية الرّصينة، وحبّه للجاز والسينما، كلّها أسئلة خطيرة، وأعرف: لقد أجاب عنها على مدى سنوات طويلة الإجابات ذاتها التي لا تتغيّر، فماذا لو أعدتها عليه اليوم من جديد؟

 

كل شيء يحدث في رأسي
(*) هل تريد البقاء في هذه الغرفة؟
نعم، أحبّ أن نبقى هنا، أم تفضّلين الصّعود إلى الطّابق العلوي؟


(*) لا، لكن في الغالب تفضّل أن تكون في مكتبك.
هذه هي الغرفة التي يمكنني أن أفعل فيها كل ما أريد. كل ما له علاقة بالكتابة، لكنني أشعر أيضاً بالراحة في جو عائلي. الآن، على سبيل المثال، توجد ديبي (زوجته ديبورا) في الغرفة الخلفية، على مسافة آمنة، وإلا فقد تشاركنا حوارنا، لكنني أحب أن تكون هناك. أحب دائماً أن أعرف أن هناك شخصاً ما في المنزل. ما زلت قادراً على الخروج من البيت، لكن لا أفعل هذا كثيراً. كما أنني لا أفتقد الخروج من البيت عادة، فكل شيء يحدث في رأسي، أليس كذلك؟ يمكنني أن أتحرّك بسهولة في رأسي. أعرف كل شبر هناك، لذلك لا توجد لديّ مشكلة.

(*) نحتفل اليوم بوصولك إلى سن الـ 90. وقد قال الكاتب والنّاقد الهولندي إيلي ده وارد مؤخّراً: "كامبرت هو الشخص الذي كان دائماً هناك". وهو تقريباً ما قاله يان بلوكر ذات مرّة: "معجزة ريمكو هي أنه يبدو كما لو كان دائماً هناك". هل تفهم لماذا يقولون ذلك؟
في الحقيقة لا، ولكن ربما أفهم قولهما هذا أكثر الآن، حيث صرت طاعناً قليلاً في السن.

(*) لديّ رسالة هنا من الأرشيف الخاص بك، وجهتها إلى والدتك الممثلة جوكي بروديليت بتاريخ 13 تموز/يوليو 1937، قبل بضعة أسابيع من عيد ميلادك الثامن، تسألها فيها إذا كنت ستحصل على شيء "من الهنود" لعيد ميلادك.
(ضاحكاً وهو يتأمّل الرسالة) هذا لطيف. انظري كيف كنت أكتب الحروف الكبيرة بدقّة، كان خطّي جميلاً، حسناً، هذا ما تعلّمته في المدرسة، علّمونا أن نكتب أولاً بخطّ جيّد، ثم تأتي الكتابة.


(*) ماذا كنت تريد حينها من الهنود؟

لا أذكر الآن. لكنني كنت أحب القصص الهندية، وحينها ذهبت أمي في رحلة إلى سورينام، لذلك وجدت أن الأمر مشوّق للغاية. ومن هناك أحضرت لي العديد من الدمى الجميلة، والتي لا تزال لديّ حتى يومنا هذا. كانت دمى منحوتة من الخشب لشخصين أحدهما يلعب على الدرامز وآخر على الغيتار.
(كانت المنحوتتان موجودتين في مكتبه، بين صورتي أمه وأبيه، وسط العديد من الأعمال الفنية، ومقابل اللوح الخشبي المعلّقة عليه العديد من الصور لمجموعة كاملة من الأصدقاء الذين لم يعودوا موجودين، والقلّة منهم التي لا تزال موجودة. محاطاً بكل تلك الكتب التي أصدرها طوال حياته: مجموعتاه الشّعريتان "هوراي هوراي" و"نور حياتي"، وروايتاه: "فتاة العصابات" و"حبّ في باريس"، والتّل الكبير لكتبه التي جمعت مقالاته الكاملة، كان هناك الكثير من هدايا أعياد ميلاده في غرفته، ومجسّد صغير لميكي ماوس مصنوع من الحديد الزّهر، كان قد حصل عليه من زوجته ديبورا. وغيرها من الكتب القديمة التي تعود إلى عقود وعقود).
إنه لأمر مجنون أن تصبح في هذا العمر! عندما تكون في العشرين لا تفكر أبداً في العمر الذي ستبلغه، فهذه الفكرة لا وجود لها في ذلك العمر الصغير، الآن أفكر أحياناً: يا إلهي، تسعون؟ صحيح عتيق بعض الشيء. لكنني أفكّر فوراً في المعمّرة البلجيكية التي بلغت 114 عاماً مؤخراً، وبالتالي أشعر أنه لا يزال أمامي الكثير من الوقت، أريد أن أفوقها عمراً لأحسّن من النتيجة التي حققتها.

(*) لماذا؟
حسناً، ما زلت أرى الحياة ممتعة، وأريد أن أحيا لفترة من الوقت.
(لم يواجه كامبرت أيّ صعوبة في الجمع بين نظرته المتفائلة للحياة، وتلك التي تخبّئ الموت بين طيّاتها: "الحياة قاتلة، لكنّي لم ألحظ أي شيء من هذا حتى الآن". يزاوج كامبرت في كلمته بين الحزن المتسلل بخفّة لحياته، وصداع الكحول المستمر، والميل إلى التراجع أمام الفخاخ العديدة التي نُصبت تحت قدميه. يغلق كامبرت الباب على نفسه، متعباً ومتفائلاً في الآن ذاته، وكانت حدّته هذه تتوازى مع روح الدعابة التي تمتّع بها طيلة عمره، والتي تسير جنباً إلى جنب مع إتقانه التّام لضبط النّفس. ومع ذلك، فقد أجرى مقابلات لا حصر لها خلال حياته).
عادةً ما كنت أقبل بإجراء الحوارات الصحافية معي، لكني دائماً ما كنت أقوم بها مرغماً، أبدؤها مع بعض التردد. أجدها دائماً مهمة صعبة. كأنّ من يحاورني يقول لي: هيا بسرعة، أجب الإجابة الصحيحة! وما يصحّ بالنسبة لي ربّما لا يصحّ لمن يجري الحوار معي، فكلّ شيء يتّخذ شكله وحدوده في ذكرياتي، ولم أعد أعرف إذا ما كان ما أقوله صحيحاً أم خطأ، خيالاتنا يجب أن تلعب دورها أيضاً، بغضّ النظر عن الحقيقة من عدمها.



(*) يحق لك أيضاً أن تكذب، فعلها قبلك هوغو كلاوس مراراً، وأغلب حواراته مليئة بالتخيلات التي لم تحدث أبداً.
(يضحك مثل طفل) نعم، كان ذلك رائعاً! كلاوس كان جيّداً جداً في ذلك، لقد صنع قصة مختلفة لكل حدث، ولم يكن يهتم بآراء الآخرين أو بأي شيء، أنا لا أستطيع أن أفعل مثله، لا أستطيع تحريف الأحداث بهذا الشكل اللئيم. لأني ما زلت أرغب في الاقتراب من الواقع قدر الإمكان. لكن في النهاية ليس صحيحاً أيضاً أنني أوافق على كثير مما تم تدوينه على لساني، لأنني لن أتمكن من التحقّق من صحته أبداً أو حتى تبديله.

(*) بسبب من إيشا ماير رفضت لسنوات طويلة إجراء الحوارات الصحافية معك، لماذا؟
كنت أخاف من إجراء الحوارات مع إيشا. وليس منه كشخص، أعتقد أنه كان رجلاً رائعاً. لكنني كنت أفكر في كل مرّة يطلب مني فيها محاورتي قائلاً: سوف يعصرني بأسئلته فيما يتعلّق بالحرب. لقد كانت تلك مشكلة كبيرة بالنسبة لي، وبالطبع بسبب مقتل والدي على يد الألمان كان ماير يولي اهتماماً كبيراً بالتحدث معي حول هذه النقطة، ولم أكن أريد أن أتحدث عن أي شيء له علاقة بالحرب، كان موضوع قتل اليهود في معسكرات النازيين مثيراً له، وهو من نجا مع أسرته من محارق الألمان لليهود، فكان يحرك الموضوع على الفور معي، فكرهت الحوارات الصحافية بسببه وتجنبتها لفترة طويلة. ما زلت أعتقد أنه أمر فظيع. أفكر في أبي كل يوم. واليوم أدرك أنه كان هناك على الدوام.


(*) وبيب؟ لقد أجرت معك العديد من المقابلات وأخرجت منك الكثير من الأسرار، كانت أكثر من كشفت للقراء انزعاجك وعدم رغبتك في التحدث و"إحراجك الذي لا يقاوم". لكن في النهاية أخبرتها الكثير جداً؟
كان لدى بيب سرّ ما، أليس كذلك؟ كانت تعرف كيف تجعلني أتحدث، كانت بارعة في استنطاقي. وكانت لا تنسى شيئاً، وإذا أرادت الوصول إلى معلومة كانت ترجع على الدوام إلى من تحاوره لتستنطقه، عادة ما كانت تأتي إليّ لتستوضح نقاطاً تراها مهمّة. ومعها بدأت أشعر بالراحة، ولست مسجوناً كما هي الحال معك الآن (يضحك). ربما كان الأمر سهلاً أيضاً لأننا نشأنا في البيئة ذاتها، فكنت أقول لها كل شيء بسهولة.

الكاتب لديه طريقته الخاصة في النظر إلى الأمور
(*) في وقت مبكر من عام 1966 كتبت: "أحياناً أعيد قراءة المقابلات التي أُجريت معي، لمعرفة آرائي حول الأمور التي أدليت فيها برأيي"، كيف ترى العالم والأحداث التي تجري فيه اليوم، وهل تغيّرت هذه الآراء وأنت في الـ90 من عمرك؟


(*) في الضّجة التي ثارت مؤخّراً حول الشّاعر الهولندي لوسيبرت، والذي كشفت وثائق جديدة أنه كان يعمل في صفوف النازيين أثناء الحرب، دافعت عنه بقوة وقلت إنه لا يزال صديقك وسيبقى شاعراً عظيماً، كيف تبرّر ذلك؟
مؤكّد تغيّرت نظرتي إلى العالم عمّا قبل، لكني ما زلت أقرأ جميع الصحف وأشاهد الأخبار يومياً، وأعرف جيداً ما يحدث. لكني لم أكن أبداً هذا الشخص الذي يتمتع بآراء صريحة فيما يحدث حوله، وأعتقد أن الكاتب لديه طريقته الخاصة في النظر إلى الأمور. أنت تكتب من المنطقة التي تنظر من خلالها إلى العالم؛ ما جعلني أتفاعل مثلاً مع الأحداث المؤلمة في سورية مؤخراً، فكتبت بعض القصائد القصيرة عن الحرب البشعة الدائرة منذ سنوات هناك، وأعتقد أن هذا هو دور كل شاعر، أن يكتب رؤيته لما يحدث حوله من أهوال، بالطبع أحاول ألا أكون متورّطاً بقوة في هذه الأحداث، لأن التورّط العاطفي يفسد عفوية الشِّعر، فمهمّة الشِّعر أن يلحظ الأمور لا أن يحكم عليها، فأسوأ الأشياء في الأدب هو أن تحوّل الأمور إلى أبيض وأسود، وهذا ما أدركته لدينا في أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، خاصة أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. كل المشاعر المتناقضة كانت تعترينا في اللحظة ذاتها، تعلّمت ألّا يجب خلط الأمور بعضها ببعض، ومن ثمّ فعلى الشّاعر ألا يحاكم الأوضاع على الإطلاق باعتبارها أبيض أو أسود.


نعم، وما زلت أومن بأنه كان شاعراً كبيراً. كان هذا الحرص على الكتمان جزءاً من شخصيته، والتي كانت متأثّرة للأسف بتاريخه السري في العمل مع الألمان، لكن الأوغاد استغلّوا هذا التاريخ المشين للنيل منه، في الحقيقة لا يمكنك إلقاء اللوم على أي شخص تعاون مع الألمان آنذاك، ففي هذا الزمن أغلبهم كانوا مجبرين على العمل مع النازيين، كانت تلك الأوقات هي ذروة الارتباك. ولم يكن هو الوحيد في ذلك، فقد حارب هانز أندريوس هو الآخر على سبيل المثال مع الألمان على الجبهة الشرقية، وعاد من هناك ووجهه مملوء بأثر لم يمح من شظايا القنابل اليدوية. تلك البقع الزرقاء ظلّت عالقة في وجهه مثل ندوب أبدية. لقد أدركنا جميعاً أنّنا لا نملك أن نحاسب أحداً. نعم "المغفرة" كلمة كبيرة، لكن رغم هذا فقد تفهّمنا أنهم كانوا مجبرين على العمل مع الألمان.

(*) ألم تضع قواعد وآراء صارمة فيما بعد حيال هؤلاء؟
أعتقد أنه يجب علينا أن نكون أشخاصاً جيّدين، ولكن هذا فقط إن كنت تستطيع أن تفعل هذا.

(*) لكن بلوغ المزيد من العمر يتيح للمرء أن ينظر إلى الأمور بشكل مختلف، ماذا ترى الآن حين تنظر إلى الوراء، كيف ترى اللحظات الحاسمة في حياتك؟
لا أعرف. ربما عندما وصلت إلى الخمسين؟ حينها شعرت أن حياتي امتلكت نوعاً ما من التغيير. كأنني عشت عمري وبدأت أخطو قليلاً نحو الموت، لكنني لا أعتقد أن هذا يبدو بالضبط بالطريقة التي أعنيها الآن. لأنني اعتقدت دائماً أن كل يوم هو مستقبل جديد، وما زلت أعتقد ذلك حتى اليوم.


(*) هل تجد أشياء تخجل منها اليوم حين تنظر إلى حياتك المديدة؟
من ماذا سأخجل؟ ما فعلته خلال حياتي يبقى خلف ظهري لأنه ماض، لا أخجل من شيء. إذا كان عليك أن تخجل من حياتك، فأعتقد أن هذا أمر بعيد عن الحكمة.

(*) وماذا عن الندم؟
أبداً، لفترة طويلة من حياتي كنت هادئاً، أفكر يائساً الآن أحياناً: عماذا يجب عليّ أن أكون نادماً، لكني لا أجد شيئاً يلوح أمامي. حتى الأشياء التي قد تندم عليها في حياتك غالباً ما تكون أشياء صغيرة تشكّل جزءاً من تلك الحياة. (يفكر بعمق صامتاً وهو يشعل سيجارة جديدة) لقد نسيت الكثير من هذه الأشياء، كي أنقذ روحي من الشعور بالندم.

عن التذكّر والنسيان
(*) قالت ديبورا ذات مرّة هنا على الطاولة إن لديك موهبة كبيرة في نسيان الأشياء غير السارة.
(يصمت طويلاً) بعض الأشياء كان عليّ ألا أفعلها، ولكن بعد ذلك كنت سأفتقد الكثير مما عايشته في حياتي، كالخبرات والزيجات.

(*) كم مرّة تزوجت؟
أربع مرّات.

(*) وكم حبيبة سابقة لديك؟ ربما يكون سؤالاً لطيفاً لمعرفة كم علاقة مررت بها في حياتك؟

حسناً، ثلاث إذاً، على ما أعتقد. النساء الثلاث اللاتي تزوجتهنّ قبل ديبورا. بالطبع هناك علاقات أخرى، وهو ما فاجأني دائماً بعض الشيء، خاصة عندما كنت شاباً. فكيف تعجب بي امرأة رغم أني كنت أحيا فيما يشبه الشرنقة. كان انطوائي يجعلني غير مهتم إلا إذا استطاعت إحداهنّ إخراجي من عزلتي، وأوّل من نجحت في ذلك كانت زوجتي الأولى فريدي.
(وصف كامبرت زوجته الأولى فريدي روتجرز في إحدى قصصه بعباراته ذات السخرية اللاذعة قائلاً: "كنت شاعراً شاباً، لكني لم أكن وسيماً. من الوارد أن تكون الصداقة التي تجمع شابة جميلة بشاعر وسيم أمراً معتاداً. ولكن العلاقة التي جمعت بين الشاعر الدميم والصديقة الجميلة كانت أكثر إقناعاً. في مثل هذه الحالة كان على قصائد هذا الشاعر الدميم أن تكون جيدة بما يكفي، وإلا فكيف له أن يُبقي هذه الشابة الجميلة بجواره على الدوام"؟! بمجرد أن يبدأ الحديث عن زوجته الأولى يقول كامبرت بثبات: "مثل هذه المرأة الرائعة"! وهي ذات الجملة التي يردّدها عن زوجاته السابقات: فريدي، فريتزي (هارمسن فان بيك)، لوسيا والدة ابنتيه مانويلا وكليو).
ولماذا سأقول عنهن شيئاً آخر؟ إنّهن نساء رائعات، وكنّ على الدوام أركاناً أساسية في حياتي، فكرة أن انفصالنا لم يمنع استمرار علاقاتنا كان دليلاً على هذه الأهمية التي يملكنها لديّ. شخصية مثل فريتزي كانت ساحرة. وكانت أقوى مني بكثير. ولم يوصلني العيش معها طويلاً إلى شيء. كانت فريتزي ظاهرة استثنائية؛ قوية جداً وتطالب من معها ببذل كامل اهتمامه لها. ولن تعرف أبداً إذا كنت "تمتلكها" أم لا، وأضع كلمة "تمتلكها" بين قوسين لأن الجميع رأوها على الدوام زوجة رائعة. لكني شعرت وكأنني فريسة سقطت في أحد فخاخها. تبدو كلمة "امتلاك" مصطلحاً غريباً هنا، كما لو كان شريكك شيئاً تعود ملكيته إليك.. أي هراء هذا؟ يمكنك أن تستخدم فعل الملكية مع دراجة هوائية، ولكن ليس مع امرأة، خاصة مع امرأة مثل فريتزي تصبح المحاولة مجرد هراء كبير. كانت فريتزي مِلْكاً لنفسها. وكان عليّ أنا الآخر أن أكون مِلْكاً لنفسي.

(*) في النهاية تزوجت ديبورا. لكنكما انفصلتما 15 عاماً متواصلة خلال علاقتكما التي استمرت إلى 50 عاماً. أي أنها هي الأخرى كانت في لحظة ما حبيبة سابقة.
لم أعتبر ديبي حبيبة سابقة أبداً.

(*) هل سبق لك أن صدّقت أنكما انفصلتما هذه السنوات حقاً؟
لا، أبداً. كنّا نمتلك سوياً منزلاً في فرنسا، وهناك كنّا نقضي شهور الصيف كل عام مع أطفال كلٍّ منّا. وظل الشعور بأننا سنجتمع مرة أخرى رغم انفصالنا حيّاً بداخلي، لم أعد أذكر في الحقيقة السبب الذي جعلنا ننفصل هذه الأعوام الخمسة عشر، هل تعرفين أنت؟

(*) دعنا نقول: ربما بسبب جنون سنوات السبعينيات؟
نعم، بالتأكيد. مع كل الارتباك والاكتشافات الجديدة التي أحاطت بنا خلال هذه الفترة. كانت سنوات فوضى. لم تكن فترات جميلة في الواقع.
(خلال هذه الفترة، نادراً ما كتب كامبرت شيئاً من الشِّعر، رغم أنه حينها كان شاعراً مشهوراً ويملك شعبية لدى قراء جدد اعتبروه كاتباً من جيلهم، الجيل الذي حطّم أقفال الأبواب الموصدة بحثاً عن حريات جديدة، من المخدرات إلى الكحول وصولاً إلى التشرد الحرّ. شارك كامبرت منجرفاً كُتَّاب جيله هذه الأفكار مبتعداً لفترة عن الكتابة الشّعرية ومكتفياً بكتابة المقالات، والتي يقول في إحداها منشورة في صحيفة "هاجسه بوست" الهولندية: "أريد فقط أن أقول إن الدماغ مستنزف إلى حد كبير، وهناك مجال لأفكار جديدة، ليست الكتابة إحداها. بعد 27 عاماً من انشغالي بالكتابة الإبداعية، أشعر الآن أن الوقت حان لشيء آخر").

(*) هكذا كتبت منذ 45 عاماً. لكنك لا تزال تكتب حتى يومنا هذا.
أكتب لكن ليس كثيراً، نادراً ما أكتب. لكن عدم الكتابة على الإطلاق غير ممكن. لقد انتهيت للتوّ من مجموعة شعرية جديدة، قصائد قصيرة جداً. الشِّعر يأتي دائماً ومن جديد، وهذا هو الشيء الأهم بالنسبة لي. أود حقاً كتابة رواية. لكن على أية حال أنا اليوم في التسعين، لا ينال المرء كل شيء. وأيضاً لا يمكنني التوقف عن الكتابة مجدداً.
(كنّا نتحدث عمّا يحلم كامبرت بكتابته، وعن الكُتّاب الذين يحبهم: "أوه، نابوكوف! كان يكتب فقط". وكيف يبدأ عملاً جديداً: "أنا فقط أبدأ". يبحث طويلاً أحياناً عن صيغة لقول ما يريد، حتى أسأله ما إذا كان يدرك فعلياً كيف يراه الآخرون، فيقول بحزم: "لا، لا أعرف كيف يراني الآخرون. ليس لديّ فكرة حتى. ما رأيك أنت؟ من الصعب أن تنظر إلى نفسك أو معرفة رأيك في شخصك. ما يعتقده الآخرون عني؟ ليس لدي أيّة فكرة". بعد بضع دقائق يقول فجأة في منتصف حديثه: "هل يمكننا التوقّف؟ أنا متعب جداً". وتوقفنا).
-       سأنادي ديبورا.
منحتنا زوجته زجاجة نبيذ. لم يعد هناك شيء يجب علينا القيام به، وبدأت طاقة كامبرت تعود سريعاً، كان يسمع ويضحك ويتحدّث. "هل تعلمين أنهم اكتشفوا الأعشاب المخدّرة في الصين قبل ميلاد المسيح بخمسمئة عام"؟ وتقول ديبورا: "الأسبوع الماضي سمعته يرقن في الظهيرة على آلته الكاتبة". "ليس هذا بغريب بالنسبة لكاتب"، يتذمّر كامبرت": "الكاتب يرقن". وضع كأسه، خبط ظهر يده على رأسه، وقال: "وهناك ما لم يرقن بعد"، ثم غلب يأسه وداعته فقال: "حسناً، يمكن للكاتب أن يبدأ من جديد".
- نعم، ولكن قل لي ماذا كنت ترقن! سألته زوجته ديبورا.
- عمودي بصحيفة "كامو"، لقد سألوني يومها عمّا إذا كنت أرغب في كتابة عمود إضافي آخر، فجلست وأنهيته، والآن أفكّر: هل أقوم لأكتب قطعة أخرى؟

ترجمه عن الهولندية: عماد فؤاد

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.