}

هاروكي موراكامي والتعاقد الضمني مع القارئ

صونيا خضر 5 أكتوبر 2017

 

حسب مدرسة كولريدج، فإن الروايات التي تحقق رواجاً عالياً هي التي يجيد مؤلفوها عقد اتفاقات ضمنية مع القراء على "تعطيل الإحساس بالارتياب"، إلا أن هذا لا ينطبق على روايات هاروكي موراكامي، الذي يحافظ على هذا الإحساس ويستخدمه لـ"تعطيل المنطق وتفعيل التخيل" لكي يضمن قارئاً مطيعاً مستعداً لكسر قوالب المنطقيّ والممكن، مقابل الالتحاق بواحدة من الجولات السردية التي يقودها هاروكي.

وبما أنه بإمكان القارئ الالتحاق في جولات الاكتشاف تلك دون هدف محدد، أو ربما لأجل التمتّع فحسب، فهو يستطيع القيام بتأملات استدلالية خلال التباطؤ السرديّ الذي يعتمده موراكامي كواحد من تقنيات التهدئة بعد تسارع مرهق للتشويق، ففي الوقت الذي يشعر فيه  القارئ بأنه تورط في متاهة السرد، ولم يعد يقوى على الخروج، تمتد إليه يد المؤلف السحرية لتقوده إلى باب آخر، يستريح فيه ويسترجع صوابه، فهو ينهي كل مشهد من مشاهد رواياته بشكل مباغت وحاسم وفي التوقيت الذي يضمن فيه الإبقاء على شغف القارئ وفضوله دون أن ينتابه الملل ودون أن يتورط بالتفضيل لمشهد دون آخر.

يعتمد هاروكي في غالبية أعماله على توظيف أحداث وظواهر متخيّلة، متشبثاً بالاستعارات وتمكين الاستحالات، لتهيئة القارئ لدخول عالمه السحريّ متسلحاً بشرعيّة التخيّل، فهو يحرص على التنبيه إلى غرائبية ذوات شخصيات رواياته قبل أن يعمد إلى تحريكها، ففي "كافكا على الشاطئ"، مثلاً، وخلال رحلة السرد المتوازية بين الفتى الهارب والعجوز الباحث عن ظلّه، والمتقاطعة في مركز المعنى المتمثّل بالحب والحياة والموت، يمهّد لغرائبية السرد التي ستأتي في ما بعد وتعتمد بالأساس على غرابة الشخصيات، مثل أن يجعل العجوز يحاكي القطط، وأن يدفع الطفل لرفض قدره المحتوم من طريق الهرب من لعنة أبيه السوداء، التي ستلاحقه رغم ذلك .

عدا عن غرابة شخصيات عالم هاروكي السردي فإن عالمه هذا يعجّ بالأحداث الغريبة أيضاً، فهو يجيد ابتكار حوادث غرائبية وخلطها بأحداث واقعية عادية، لإقناع القارئ، بل وربما، لكسر كل القوالب المنطقية في رأسه واستبدالها بقوالب جديدة، فكيف لقارئ أن يكمل قراءة رواية تعتمد أحداثها على وجود قمرين وشرنقة هوائية مثلاً دون ارتياب؟ 

لكي يتفادى ارتباك القارئ، والإبقاء على ارتيابه، في عالم يعتمد بالدرجة الأولى على التجربة والشواهد البصرية، يؤلف هاروكي حدثين غير صالحين للحدوث بشكل عام الا إنهما قريبان جداً من الفكرة التي يريد الإشارة إليها، وللخروج من مأزق استحالة حدوث تلك الأحداث، يجعل حدوث واحد منهما معتمداً على حدوث الآخر، مقدماً دليلاً دامغاً على استحالة حدوثهما بالمطلق.

ففي وصف مزعج ودقيق لخيالات طفلة محبوسة مع الماعز الميتة في الكتاب الثاني من Q841، ابتكر الشرنقة الهوائية التي تحتوي على نسخة من الذات، أو البديل لتلك الذات، في مكان آخر وزمن آخر، كون الزمن واحداً من أهم مواضيعه الاستكشافية، ولطمأنة القارئ وكسبه، عمد إلى ربط وجود الشرنقة الهوائية بوجود قمرين، لن يوجدا بطبيعة الحال.

 

الكتاب الثاني من 1Q84

 

من استراتيجيات هاروكي السردية أيضاً أنه يجعل من الفاجعة أمراً متحمّلاً، فهو لا يتوانى عن زجّ بطلة روايته (الكتاب الثاني من Q841) في نفق يقودها إلى حتفها لتنشيط مجسّات الاستكشاف لدى القارئ، هو لا يجزم بشيء ولا ينبئ القارئ بطبيعة الرحلة التي سوف يقوده خلالها، إلا أنه لا يخفي عنه أن أمرأ خطيراً يتربّص به على الدوام.

لا يهمل هاروكي ولو خيطاً بسيطاً واحداً في نسيج السرد، ويحكم حياكته بحرفية وإتقان، وبنظرة تحليلية نحو كتابات هاروكي موراكامي وبشكل عام، توصف استراتيجية سرده على شكل متاهة حلزونية تضيق باضطراد في عملية تقشير قاسية للخارجيّ والخروج بجسد رواية مجرّد من كل ما هو سطحيّ ومألوف لتصب نهاية الأمر في المركز، العمق، والمعنى.

هبوط اضطراري

موراكامي يملك رخصة عامة في القيادة السردية، فهو السائق الهادئ الذي يأخذ القارئ في رحلة بطيئة في الطبيعة ويمنحه أن يتأمل في أدق تفاصيلها، وهو السائق المتهور الذي لا يتورّع عن السقوط في الحفر دون أي نيّة للخروج منها، ولا يهتم لأمر الشاحنة الكبيرة التي قد تحول مركبته حطاماً طالما هو من يقود المركبة، وهو ذاته سائق المركبات العمومية التي قد تقلُّ أيا كان من الشارع وتأخذه في طريقها، وهو ذاته القبطان الذي يقتحم البحر، وذاته كابتن الطائرة الجمبو التي تقتحم السماء، وذاته رائد الفضاء الذي يتحدى الأجرام السماوية والثقوب السوداء دون أن يردعه رادع للتوقف، لكن الميزة التي تميزه عن جميع من يحاولون ذلك هي سرعة الإقلاع، أياً كانت المركبة التي يقودها فهو لا يمنح للمسافر، على متن رواياته، الفرصة لربط الحزام أو للتراجع عن الرحلة، ولا يهبط الا هبوطاً اضطرارياً.

 

قد يكون من السهل البدء في قراءة كتاب لهاروكي موراكامي، لكن من الصعب جداً الخروج بسلام من هذه القراءة. لكل منا نحن البشر العاديين، هواجس تتعلق بالموت والحياة والحب والروح والجسد، لكننا نحاول إخفاء ذلك، أو التلهي عن ذلك باجترار صفحات حيواتنا وجرّها جرّاً يكاد يخلو من المعنى.

نأكل، نشرب، نتكاثر، نكبر ونشيخ ونحن نتجنب الوقوف وجهاً لوجه أمام ذواتنا المضطربة، ولا نتمهّل لأجل التذوّق أو التأمل، لا نترك ولو فرصة واحدة للهرب وندّعي أننا نرغب بالنجاة، نتسوّل تفاهات الحياة لنتسلّى بها ونحن نعرف أنها حياة واحدة، من المرعب هدرها ومن المستحيل الإبقاء عليها، لكن هذا الكاتب ومن خلال كل ما يكتبه يحاول التنبيه إلى ذلك، يحاول توريط القارئ بعقله، يحثّه ويوجهه إلى استعمال أكثر من الـ3% المستعملة من العقل، يفتح باب الخيال على اتساعه الممكن لمجرد ملاحظة بسيطة، يتوقّع ويرسم ويجيد ويقنع، يتجاوز المستوى العادي للمنطق، وينطلق إلى أبعد من الحدود العادية للإدراك. فكرة الشرنقة الهوائية مثلاً هي فكرة أبعد من تخيّل عادي لكاتب عاديّ، بل هي تحليل دقيق لسيكولوجية الباحثين في أمر الحياة وجدوى الوجود.

 الكتاب الثاني من 1Q84 هو اقتراب موجع من الذات وتشريح قاس لجسد العاطفة، عاشقاً كان أو قاتلاً مأجوراً العابر في هذه الحياة هو سبب فيها وجزء منها.

الخير والشر والتوازن بينهما، الفراغ المتروك خلف الراحلين، الحب الحقيقي، الأرواح المتوائمة، السيادة، الانصياع، القتل، الخيال، العوالم الموازية، الزمان، المكان، التيه، لم يترك شيئاً من هذا إلا كتب عنه، ليترك خلفه سؤالاً عاصفاً: 
ما الذي يريد أن يقوله هاروكي موراكامي؟

 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.