}

أسطورة الأندلس: رفض التوازنات التاريخية ضروري لتقييم التراث العربي

ترجمات أسطورة الأندلس: رفض التوازنات التاريخية ضروري لتقييم التراث العربي
لوحة عن قصر الحمراء

يحدث من وقت لآخر، لهذا السبب أو ذاك، أن تتحول الأندلس إلى خبر يتصدر مانشيتات الصحف. أحيانًا بفعل متحدثي المنظمات الإسلاموية مثل القاعدة أو داعش حين يؤكدون أن هجماتهم الإرهابية في إسبانيا ستستعيد الأندلس المفقود الذي يعتبرونه لهم؛ وأحيانًا بفعل أصوات دعائية وساسة محافظين يعلنون أن علينا، كما في القرون الوسطى، مواجهة هذه التطلعات لنحافظ على أصولنا الغربية والأوروبية؛ وأحيانًا بفعل أحد ضيوف البرامج التلفزيونية الذي يناكف مستعربًا (أو العكس) فيصر على برهنة أن الإرهاب الإسلاموي نتاج لثقافة كانت دائمًا عنيفة وإقصائية. وفي هذا الالتباس لا يبقى إلا مَن، بنوايا حسنة، يدافعون عن المجتمع الأندلسي كنموذج للتعايش بين ثلاثة أديان توحيدية، مجتمع أنتج الفن والأدب والعلم بلمعان مبهر قلما ظهر في التاريخ. ثمة أشخاص آخرون طموحون يضعون الخاتمة بتصنع التعارض والمخالفة، وإذ يفعلون ذلك يبعثون أفكار الكتيبة. في سنوات الستينيات، نشر إغناثيو أولاجوي كتابًا ضعيفًا أكد فيه- دون تقديم أدلة إلا تصوراته الخاصة- أن العرب لم يغزوا شبه الجزيرة الآيبيرية وأن الأندلس ما هو إلا نتاج تثاقف حافظ على الجوهر الإسباني تحت قشرة سطحية عربية وإسلامية.

 ورغم التناقض، إلا أن ثمة شيئًا يجمع هذه الرؤى: أنها كلها تبحث في الماضي الأندلسي عن انعكاسات وتوازنات تاريخية لمواقف راهنة. منذ زمن والوحشية الإسلاموية تطالب بالأندلس كجزء من برنامج يحاول استعادة مبادئ وأشكال حكم يفترض أنها كانت مهيمنة خلال القرنين السابع والعاشر، وأنها تقدم نفسها كحل لتحديات يواجهها مسلمو اليوم. ورغم الألم الكبير الذي تثيره هذه الوحشية، وربما ستظل تثيره، إلا أن فشلها متوقع على المدى البعيد لأسباب منها رفض القطاع الأكبر من المسلمين لها- وهو شيء مدلل عليه بأدلة كافية- ولإصرار الإسلامويين الخاطئ على إنكار ثراء الدين الإسلامي البعيد تمامًا عن الانغلاق والإقصائية، صفتان يتمتع بهما منظرو الوحشية الجديدة كما يتمتع بهما أعداؤهما من الجانب الآخر.

 إن الدعوة إلى البحث عن توازنات تاريخية مزيفة تشمل ساسة ومثقفين غير مسؤولين ينادون باستنهاض روح "الاسترداد المسيحي" التي سعت في القرون الوسطى لمحو أي أثر جسدي أو ثقافي للإسلام من مجتمعات شبه الجزيرة الآيبيرية. ولسنا في حاجة لنذكر أبناء بيلايو وكوبادونيا ] مؤرخي القومية الإسبانية[ أن المواطنين المسلمين في بلدنا يتمتعون بنفس حقوق وواجبات الجميع، ولا يمكن تحت أي مفهوم أن تصنع ديمقراطية متقدمة برامج أيديولوجية بمقاييس البيئات الكهنوتية في القرون الوسطى. نفس الرفض يسري على البراهين الطيبة التي تريد أن تصنع من قرطبة خلافة القرن العاشر أركاديا للتسامح، ولنذكّرهم بقانون الجزية المفروض على اليهود والمسيحيين، أو وجود العبودية في ذاك المجتمع، حتى لا نتكلم عن أوضاع المرأة المقصاة عامةً من الفضاء العمومي. إن البحث في مجتمع القرون الوسطى عن نماذج سياسية واجتماعية أو هويات ثقافية من أجل المجتمع الحديث لا يعدو أن يكون رجعية بلا منطق، أيًا كان مصدرها.

لماذا الأندلس؟

 بعيدًا عن التصاقات الحاضر، فالأندلس فترة تاريخية ينبغي على مجتمعاتنا متعددة الثقافات أن تستعيدها بنفس الشغف المكرس للإرث الإغريقي والروماني. أحد أكبر مستعربينا، بدرو مارتينيث مونتابيث، يتحدث عن دراسته كحقل "إنسانيات القرن الواحد والعشرين"، ومثلما استعاد عصر النهضة الإرث الحضاري القديم، فدراسة الثقافة العربية تسمح بفهم وإضافة مساهمات مختلفة عما تجلى في "الكانون" الغربي التقليدي. بفعل ذلك، سنثري هذا "الكانون"، وإن كان ذلك غريبًا في أزمنة أخرى، فاليوم قد تجلى المحتوى الثقافي لأناس يمكن أن يكونوا جيراننا وشركاءنا وأصدقاءنا في عالم تزداد فيه عوامل التداخل.

هنا تحديدًا تكتسب معرفة الأندلس أهمية، فإرثه الهائل نافذة أغلقناها لزمن طويل بآراء نمطية، لكننا نادرًا ما استخدمناها لنتطلع منها على تاريخ وثقافة لا يمكن معالجة ثقلهما الهائل وتأثيرهما من منطلق أنهما ازدهار مفقود.

 ربما حانت اللحظة التي فيها يُدرّس في حصص الأدب بجانب قصيدة "سيدي" ومغامرات "لاثارييو دي تورمس"، مؤلفون أندلسيون مثل القرطبي ابن حزم، الذي توفي عام 1064، ومعالجته للعشق في كتابه "طوق الحمامة" الذي ظهرت له ترجمة جديدة ومبهرة قام بها خايمي سانتشيث راتيا. نفس الشيء نقوله عن شعراء عظام مثل ابن زيدون وحبيبته ولادة بنت المستكفي، التي توفيت عام 1094 (وتقول: أنا والله أصلح للمعالي/ وأمشي مشيتي وأتوه تيهًا)، وكذلك الإرث السردي الشرقي الهائل مثل "ألف ليلة وليلة"، المتاحة بفضل ترجمات حديثة مثل ترجمة سلبادور بينيا.

 إن المساجد بملامحها الأثرية مثل جامع قرطبة، وكذلك البنايات المتواضعة المعروفة التي عثرت عليها لجان الحفر الأثرية، لابد أنها تسمح لأي أحد بمعرفة ما القِبلة وما فائدة المحراب وكيفية الصلوات اليومية في هذه البيوت. ولسنا في حاجة إلى أي مستنير يعطينا دروسًا عن الخلافة، إذ لم تكن الخلافة إلا مؤسسة لم يكن أهل الأندلس، إلا في لحظات محددة جدًا، يعطونها أهمية كبيرة، وكانوا يقتصرون على اعتراف رسمي لم يكن حتى يجبرهم على الكثير.   

 هذه النماذج ونماذج أخرى، يمكن أيضًا الإشارة إليها، توضح كيف يساهم تاريخ الأندلس بمعرفة ضرورية لتعزيز رؤية نقدية للماضي ولأنفسنا، كذلك لنزع القناع عن مزيفين كثيرين ملفوفين بأعلام متنوعة ويحاولون أن يقدموا أنفسهم كحراس للذاكرة بدورهم.

ماذا كان الأندلس؟

 كان الأندلس مجتمعًا عربيًا وإسلاميًا، ترجع أصوله إلى غارة الخلافة الدمشقية عام 711 على مملكة القوطيين الغربيين. عشرات الآلاف من الجنود العرب والبرابرة استقروا في شبه الجزيرة الآيبيرية وبدؤوا يتواصلون مع السكان الأصليين، كما حدث في أراض أخرى. ولا يزال محفوظًا مئات العملات الذهبية والفضية والنحاسية المسكوكة في تلك الفترة، كذلك الأختام الرصاصية والكتابات العربية التي تكشف المراسلات المتبادلة بين الحكام الأوائل. إن المقابر التي اكتشفوها في ميدان كاستييو في مدينة بامبلونا أو في المسرح الروماني في نيم، جنوب فرنسا، تسمح لنا بأن نتحقق من توسع الغزو بل والتعرف على الغزاة ونسلهم، إذ ضمت المقابر موتى مسلمين يرجع تاريخ وفاتهم للقرن الثامن، وتثبت تحاليل الـ"دي إن إيه" أنهم من أصول شمال أفريقية.

 وبمجرد استقرار الغزاة النهائي، دارت عجلة التعريب والأسلمة. كانت عملية تدريجية لكنها راسخة، وجزء كبير من السكان الأصليين اعتنقوا الإسلام، كما تدل على ذلك التوسعات التي لحقت بجامع قرطبة بين القرنين الثامن والعاشر، واستهدفت استيعاب عدد المؤمنين المتنامي. ورغم اضطرار المتحولين إلى الإسلام إلى تحمل وقاحة عرب أصليين كانوا يسخروا منهم لأنهم، مثلًا، يتحدثون لغتهم بلكنة غريبة، إلا أن عملية التعريب تقدمت في إيقاع لا يمكن إيقافه. وفي عز القرن التاسع لم يكن أحد في "ميريدا" يستطيع قراءة الكتابات اللاتينية التي كانت لا تزال موجودة في أطلال المدينة الرومانية القديمة.

 مع ذلك، لم يعتنق كل الإسبان الإسلام. ثمة من بقي مسيحيًا، رغم أنهم تعلموا العربية سريعًا بعد أن تحولت ليس فقط إلى اللغة الإدارية، بل إلى لغة الثقافة. وفي القرن التاسع، كان ألبارو دي قرطبة يشكو من أن شبابه المسيحيين كانوا "يجيدون العربية بتفوق" وكانوا يقرؤون كتبًا بهذه اللغة أكثر من الكتابات اللاتينية. وبعد مئة عام، كان الشاعر اليهودي دوناش بن لبرط ينصح صديقًا بأن يدمج دينه بالثقافة العربية الباهرة: "فلتجعل حديقتك كتب الأتقياء، وجنتك مخطوطات العرب". 

هذه الثمار التي ازدهرت في الأندلس المُعرّب والمؤسلم كانت نتيجة سلاسل طويلة من المعرفة تغذت على العلاقات الوطيدة مع مراكز الإسلام الثقافية الرئيسية. وكان أحد المشروعات البحثية الطموحة التي تطورت في مدرسة الدراسات العربية في غرناطة عمل إحصائية بـ 12 ألف عالم برزوا في كل المجالات العلمية والدينية والأدبية على طول ثمانية قرون من الوجود العربي في الأندلس. كل هؤلاء شيدوا موزاييك ثقافيًا ضخمًا كان فيه المدرسون يشكّلون الطلبة الذين يتحولون بعد ذلك إلى مدرسين بدورهم لطلبة آخرين، لتنتقل بهذه الطريقة علوم التراث الإسلامي والثقافة العربية، أو مبتدعين علومًا أخرى. كثير من هؤلاء العلماء كانوا يسافرون لمسافات طويلة ليبلغوا القيروان أو الإسكندرية، دمشق أو بغداد، مكة أو المدينة، بحثًا عن المعرفة التي كانوا ينشرونها بعد ذلك في المدن الأندلسية، مثل قرطبة وإشبيلية وألميريا وطليطلية وتوديلا وويسكا. كان هذا نظامًا لم يعمل فقط في فترة ازدهار الدولة الأموية في قرطبة، إنما كذلك في فترة ملوك الطوائف- وانحدارها السياسي لا ينبغي أن يداري حقيقة أن لحظاتها الاجتماعية والثقافية تصدرت المشهد وتعتبر أكثر لحظات القرون الوسطى ازدهارًا- كذلك تحت هيمنة المرابطين والموحدين، ولم يكونوا حركات متعصبة كما تقول الصورة النمطية، بل محاولات للإصلاح السياسي والاجتماعي أضيئت بتفسيرات دينية مبتكرة.

 وعلى عكس ما يقال دون تمحيص، ففي الأندلس لم يحدث اختلاط عرقي كأيديولوجيا مهيمنة. فلا واحدة من الديانات التوحيدية الثلاث غيّرت معتقدها الرسمي لوجود الديانات الأخرى، وخاصة الإسلام الذي تمتع بهيمنة اجتماعية وثقافية. لقد أدان الفقهاء الأندلسيون احتفال المسلمين مع المسيحيين بأعياد الميلاد ومشاركتهم الموائد وتبادل الهدايا معهم، وكانوا يعتبرون ذلك بدعة خطيرة. وحرّم بعضهم شراء الصنادل المصنوعة بأيدي مسيحيين، كذلك الوضوء بمياه لمسوها فلربما نقلوا دنسهم للوضوء. هذه الكتابات، بالطبع، ننظر إليها في سياقها الزماني والمكاني، لكنها تنفع كدليل، مبدئيًا، على أن الأورثذكسية المسلمة كانت تقاوم السماح بتلويث معتقدها.

 ما حدث فعلًا في الأندلس هو التأثير المتبادل للثقافات بتقاليدها المختلفة جدًا. ونتج ذلك، جزئيًا، عن احتكاك الناس ببعضهم وتجاهلهم لتحريمات الكهنة من دين أو من آخر. "قبّلتُ حبيبي أمام شيخ وتجرعت كؤوس نبيذ فداه"، يقول الشاعر الرمادي الكندي (المتوفى عام 1012) متحديًا بجرأة. تمتد آثار هذا الاحتكاك لمدارات كثيرة مثل اللغة، ودرسها المستعرب فيدريكو كورّينتي الذي كرّس دراسته للهجة العربية الأندلسية. وفي مجالات مثل العلوم، سمح التعدد الثقافي الأندلسي بتلقي وترجمة أعمال علمية من مصادر متعددة.     

إن معرفتنا بهذه العمليات الثقافية حدثت بفضل مجهود بحثي استثنائي في بلدنا في العقود الأخيرة، ما سمح باسترجاع الأندلس بسياقه التاريخي في صورة أكثر وضوحًا ودقة. ما من دواء ناجع أفضل من ذلك لتقويض الصورة النمطية والمبسطة والتشويهات والتصورات الأسطورية. ولقد حانت لحظة تكاتف الساسة والمثقفين ووسائل الإعلام والمجتمع من أجل ذلك.

___________________

*إدواردو مانثانو مورينو، أستاذ البحث العلمي في مركز التاريخ، ومؤلف العديد من الكتب منها "الغزاة والأمراء والخلفاء. بنو أمية وتكوين الأندلس". والترجمة عن مقال بنفس العنوان منشور في جريدة "الباييس" الإسبانية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.