}

ستأتي الريح

هيلدا دومين 29 أكتوبر 2017

طبيعةٌ متنقّلة

 

يَجِبُ أن يقدرَ المرءُ على المضيِّ بعيداً ويكونَ مثلَما الأشجارُ

هكذا كأنَّ جذورهُ عميقة في الأرض؛

هكذا كأنَّ الطبيعة تتنقّل بينما يظلُّ ثابتاً.

 

عليه أن يحبسَ أنفاسَه،

إلى أن تهدأ الريحُ ويبدأ الهواءُ الغريبُ بالطوافِ حوله،

أن يحبسَ أنفاسَه حتى تظهر، ثانيةً، الصّورُ القديمةُ المألوفةُ بعدَ لهو الظلالِ والنّور، لعبِ الخضارِ والزُّرقةِ،

ويصير، أينما كانَ، داخلَ مأواهِ الحميم،

فيجلسُ في راحةٍ

كما لو أنَّه يستندُ إلى قبرِ أمّه.

 

**

 

أينَ شجرةُ لوزِنا

 

أيُّها الحبيبُ،

إنَّني مستلقيةٌ بين ذراعيكَ

مثلما تستلقي النّواةُ في جوفِ اللوزةِ.

لكن، أخبرني،

أين هي شجرتُنا؟

 

إنَّني مستلقيةٌ بين ذراعيكَ

كما لو أنّني ممدَّدة في سفينةٍ لا تعرفُ طريقاً أو مرسىً،

وعلى قوسِها الأماميِّ دلافينٌ.

 

تحت ظهرِنا أسرَّةٌ كثيرةٌ،

أسرَّتنا التي في البلدانِ العديدةِ،

أسرَّتنا التي في اللامكان من الليلِ

حين تغرقُ غرفةٌ غريبةٌ من حولِنا.

 

إلى أينَ أتينا، أيُّها الحبيب؟

إلى أينَ نمضي؟

فكلُّ شيءٍ مختلفٌ

وكلُّ شيءٍ متشابهٌ.

 

في كلِّ مكانٍ

يُكوَّمُ العشبُ بطريقةٍ مختلفةٍ

ليجفَّ تحت الشمس ذاتِها.

 

**

 

ابنِ لي بيتاً

 

ستأتي الريحُ.

 

الريحُ التي تشذِّب الورودَ وتصنعُ من الزهورِ فراشاتٍ

وتجعلُ من الأوراقِ القديمةِ حماماتٍ تعلو فَوْقَ وديانِ مانهاتن

حتى تصلَ الطابق العاشرَ، الريحُ التي تُصدِم الطيورَ المهاجرة

بناطحاتِ السّحاب، فتسحقها.

 

ستأتي الريحُ ،أيُّها الحبيب، الريحُ المالحةُ،

التي ستطفو بنا على البحرِ وتقذفنا فوق أحدِ الشطآن

مثلَ ينابيع تطوفُ ثانيةً نحوَ البرِّ. 

 

ستأتي الريحُ،

تشبَّث بي.

 

آهٍ يا جسدي الترابيّ اللامع، المكوَّن لأجلِ الأبدِية،

إنَّكَ من الرمال وحسب.

 

الريحُ تصلُ وتأخذُ مني إصبعاً، تصلُ وتحرِّر القلبَ - هذا العصفور الأحمر المُزقزق خلفَ القفصِ الصدري -،

الريحُ تصلُ وتحرقُ غشاءَ قلبي بأنفاسِها المالحةِ؛

المياهُ تأتي وتفتحُ فيَّ أخاديدَ.

 

آهٍ يا جسدي الترابيّ.

 

آهٍ، تشبَّث بي،

تشبَّث بجسدي الترابيِّ،

ودعنا نمضي في جهةِ اليابسةِ،

حيثُ تغطّي الأعشابُ الصغيرة الأرضَ.

 

إنني أريدُ أرضاً ثابتةً، خضراءَ،

منسوجةً بالجذورِ مثل سجّادٍ.

 

اقطعْ الشجرةَ أيها الحبيب،

اجلبْ الأحجارَ وابنِ لي بيتاً؛

 

بيتاً صغيراً،

له جدارٌ أبيض يعكسُ شمسَ الغروبِ

وبئرٌ يتجلَّى فيه القمر دون أن يتبدَّد مثلما في البحرِ؛

ابن لي بيتاً بجانبِ شجرةِ تفاحٍ أو زيتون

تمرُّ به الريحُ

كصيادٍ لا يطالُنا.

 

**

 


* شاعرة ألمانيّة وُلِدَت عام 1909 في مدينة كولن، وهاجَرت من البلادَ عام 1932، أي قبل أن يصل هتلر إلى السلطة بسنةٍ واحدة، لكنَّها عادت ثانية عام 1954 بعد أن قضت اثنين وعشرين سنةً في المنفى، بعيداً عن ألمانيا، وأمضت حياتَها بعدئذٍ في مدينة هايدلبيرغ الرّائعة. درست القانون والاقتصاد الدولي وعلم الاجتماع والفلسفة وحصلت على درجة الدكتوراه سنة 1935 في مدينة فلورنس الإيطالية، كما أنّها درَّسَت في جمهورية الدومينيكان أثناءَ إقامتها هناك علوم اللغات والترجمة.

وفاةُ والديها في المنفى دفعتها بصورةٍ قوية إلى كتابة الشِّعر واختارت لقب دومين، نسبةً إلى جمهورية الدومينيكان حيث بدأت بالكتابةِ. ظهر أول دواوينها "وحسبُ وردة واحدة كسَنَد" عام 1959، وبعدها بسنوات تسع صدرت روايتها الأولى "الجنة الثانية" التي تدورُ حول تجربة المنفى ولاقت نجاحاً كبيراً. توفيت الشاعرةُ سنة 2006 عن عمر يناهز السادسة والتسعين.

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
29 أكتوبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.