}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (25)

دلال البزري دلال البزري 3 مارس 2024
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (25)
في أثناء انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019
تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ــ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد، أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ــ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ــ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!"، أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.

العودة إلى بيروت (2009 ـ 2020)
عدتُ لأستقر في لبنان وجوزيف سماحة غائب عنه. دعْ عنك العوالم الجديدة التي فتحها عليّ إثر عودته هو الآخر من باريس، بعد انتهاء الحرب. معه، اكتشفت أن الحرب أقامت سدًّا منيعًا بيني وبين العالم الخارجي. طوال خمس عشرة سنة، بين هروب وتهجير وغزو وقنابل... كان اهتمامي شبه محصور بما يحدث حولي، طلبًا للنجاة، أو الفهم، أو حتى التوقع. مع أنني رحت إلى باريس وعدت منها طوال سنوات إعدادي للدكتوراة، إلا أنني لم أكن مهتمة بما يحصل بها، أو بما حولها، إلا بما يفيد تنقلي، مثل عملة اليورو الجديدة، أو يلبي فضولي "الخاص"، الذي يتراوح بين الكتب والناس. ويأتي جوزيف بعد هذه السنوات ليقول لي أشياء لا أفهمها تمامًا بداية، لا أستوعب هول التغيرات التي ستحدثها في رأيه. مثل العولمة، وآلة الكمبيوتر، واستنساخ النعجة دولي. يوضح لي تفاصيل لم أفهمها، يستعين بالصور والمقالات الأجنبية، يجلسني أمام شاشة جهاز كمبيوتر ضخم يحتل مكتبه، يشرح لي "خاناته"، حركة الفأرة، شكل "التحرك" في داخله، كيفية السؤال عن معلومة، كيفية "إخراجها" وإعطاء الأمر بطباعتها...
مع أن جوزيف مولع بالحياة أيضًا. ينظم السهرات، يتعرف على البارمن حبيب في أحد بارات رأس بيروت التي تحيطها الخرابة من جهتها الشرقية، في نزلة مخفر حبيش. نصف مبناه مهدَّم وحيطانه مخرّمة بالرصاص.
ــ خرابة يا جوزيف...!
ــ هذه خرابة الحرب...!
ــ انتظروا حتى تدخلوا وتتعرفوا على حبيب، البارمن...
ليتبيّن أننا لمحنا حبيب، في السنوات الأولى للحرب، في النادي الليلي، "باك ستريت" في شارع المكحول في المنطقة نفسها. والمربع اشتهر عشية الحرب، لأن جورجينا رزق كانت من رواده؛ وهي ملكة جمال لبنان، التي توجت ملكة جمال الكون. والبارمن حبيب يمكنه أن يدير أطلالًا، إذا وضعته خلف البار، وأمنّتَ له الموسيقى الملائمة. لا يحسن الاستماع فقط، وتعابير وجهه كلها تشير إلى تعاطفه مع المتكلم، أحيانًا مع الثرثار إذا فاض الخمر عن عقله... ولكنه أيضًا، كنز من الخبريات عن أيامه في "الباك ستريت"، بحنين لا يشوبه حزن. وابتسامة متفهمة لقساوة الحياة، ومستمتعة بحلاوتها أيضًا.
ــ أين كنت أيام الحرب يا حبيب؟
فقصة من تلك التي يحفظها اللبنانيون في مدوناتهم الشخصية: من أنه هرب من لبنان تحت قصف المدافع، مع زوجته وابنه الذي لم يبلغ العام، إلى ساحل العاج، ثم مرسيليا، فبلجيكا... اشتغل كل شيء، بما فيه مهنته. ولكنه لم يحقق أي "إنجاز"، مرددًا ما يقوله معظم العائدين إلى لبنان بعد نهاية الحرب.
بقينا "نلاحق" حبيب أينما حلّ. يترك "الخرابة" لينتقل إلى ناد آخر، "روز أند كراون" ونصير نحن الرهط الساهر من أتباعه، ننتظر المطرب رامي عياش كل جمعة من أول الشهر لنرقص على أنغامه.




أخلص الصداقات جوزيف، أذكاها، أمتعها.
ما الذي يجذب النساء إلى جوزيف؟
حزن عيونه الملتمِعة، وقامته المديدة، وهالته كصحافي ناجح، يعرف كيف يكتشف الطاقات ويديرها في عمله. ولكن أيضًا حاجته هو إلى محيط من النساء يلفّه بأنوثة ليست بالضرورة إيروتيكية. أنوثة العذوبة والحنان والنفَس. متلهّف لوجودها بالقرب منه. يحب الحنان الأنثوي بقدر ما يحب دفء البيوت وروائح الطبخ فيها، ويخْنة الفاصولياء أقربها إلى قلبه... شيء يشبه الحضن الأنثوي العريض. وكم يحب جوزيف في النساء صوتهن المباشر الشخصي. صوتهن "لايف" إن أمكن. ثرثرة لا بأس، نميمة أيضًا، بل سجال أفكار وسياسة. لكن يستحسن غناءً، ولو نشازًا.
أقول حزنٌ شخصي على صديق كريم، يثريني عند كل لقاء، حتى ولو تخلّله الخلاف، الجذري أحيانًا. ولكن بعد هذا الحزن البعيد، ينكشف الوجه الآخر لخسارته لدى عودتي إلى لبنان: كان حضنه كالخيمة الرحبة، انحسرت بعد غيابه، حتى تلاشت... مثل الأبناء الذين يتفرقون بعد وفاة أمهم، أخذ الأصدقاء يتباعدون، وإن التقوا فبأقل كثافة، بكرم أقل، وبحسابات لا تفهمها إلا بعد حين، أو حول "مشروع مشترك"، يخرجون منه محبطين متخاصمين، ضمنًا، أو إصابات متفرقة بشظايا معنوية، هي استمرار للحرب، بأشكال أخرى.
وقد أصابتني هذه الشظايا. ربما بقدر مما فعلت بالباقين أمثالي. ألاحظ بأن هذه "البيئة القريبة" صارت بعيدة، بأكثر مما تخيّلت عند عودتي إلى لبنان. أشعر بالتكتلات المتشكّلة، وأدرك أنها تتجاهلني، كأنني غير موجودة، إلا بصفتي واحدة من جماهير الفعاليات الثقافية، المطلوب منها زيادة العدد.
تقول لي صديقتي مارلين نصر، وكأنها تواسيني على خيبتي:
ــ لا...! أنت غلطانة... الموضوع ليس شخصي... كل ما فيه أن هذه البيئة لا تنظر بارتياح إلى أية امرأة تعيش بمفردها. كلهم يجب أن يكونوا "كوبْلات"، يلتقون يسهرون يقيمون المآدب على أساس الزوج وزوجته... أنظري إليّ... أنا أعاني الشيء نفسه، بعد غياب زوجي سليم.
بقيت أشكّ في أقوال مارلين، وأراقب ما أسميه التجاهل، حتى اتصل بي أحد الأصدقاء يومًا وقال لي بأنه يستضيف أربعة "زِلم" (رجال)، وبأنه ارتأى أن يدعو "زَلَمي" (رجل) خامس، هو أنا. رأيت أن المزحة قديمة، ولبّيتُ الدعوة. فكان لقاء "رجاليًا" دافئًا تطير الكلمات فيه مثل الفراشات. وأنا في داخلي أنتظر الزوجات، وغالبيتهن صديقات من أيام كلية التربية. ساعة واثنتين... أسأل هؤلاء "الزلم" عن زوجاتهم. أين فلانة؟ اين علانة، فيجيب عنهم المضيف:
ــ عمن تسألين...؟ من زمااان لهن خروجات كل يوم أربعاء. يلعبن الورق حتى وقت متأخر من الليل، وينهين السهرة بعشاء تدعوهن إليه الرابحة بينهن...
ــ ألهذا دعوتني؟ لأنهن غائبات؟
ــ ....
جفاء آخر أتى من امتناعي عن العودة إلى التعليم في الجامعة اللبنانية. كنت عازمة على المضي في الكتابة. وكانت حملة ثرثرة بوجهي، وبعضها يتم من خلف ظهري أيضًا. من أنني نزقة، مزاجية، ألْبط النعمة على الأرض، لا أعرف مصلحتي.
ــ معقول؟ تتخلين عن هكذا راتب وإجازات وضمانات....؟ وتغامرين بما ليس لك يد فيه...؟!
ــ ماذا تعتقدين نفسك؟ شكسبير؟
ــ رايْحة إلى الحج والناس راجعة... الصحافة لم تعد كما كانت... ولا القلم... تعرفين ذلك...!

(يتبع...)

في الصورة (من اليمين): الكاتبة، حازم صاغية، شذى شرف الدين، ريم الجندي، يوسف بزي. ومن اليسار فاطمة حوحو

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.