}

"الاغتصاب": ليس في احتلال الأراضي أي عدل

عزيز تبسي 9 فبراير 2024
استعادات "الاغتصاب": ليس في احتلال الأراضي أي عدل
سعد الله ونوس
"لقد وهب لنا الأمل بسبب هؤلاء الذين لا أمل لهم لا أكثر"

فالتر بنيامين

حملت قضية الشعب الفلسطيني معنى تناقضيًا، ما انفك متشبثًا في تضاعيفها، بين الذوبان فيها مع بواكير قوافل المجاهدين العرب في ثورة 1936، مرورًا بالمبادرة الشعبية القاعدية التي حملها جيش الإنقاذ 1948، الى مئات الشبان الذين التحقوا بفصائلها المقاتلة من الأردن إلى لبنان الى المنافي. من الذين واللاتي حملوا أرواحهم وقناعاتهم الى أرض الصراع، لإضرام ما اعتبروه جذوة التحرر من الاستعمار مقدمة لبناء المجتمعات العربية المتحررة والعادلة. ونجد على الطرف الآخر الخونة والمساومين والمتاجرين بها، وقد انحطوا بها إلى الدرك الأسفل، بعد أن حملوا أفرع المخابرات اسم فلسطين، وميليشيات اللصوص وقطاع الطرق اسم القدس.
لا تحتاج الكتابة عن القضية الفلسطينية، كحركة تحرر وطني، إلى مقدمات طويلة تحمل معنى لتبرير الكتابة.
والمسرحي الراحل سعد الله ونوس لم يرتدِ قضية الشعب الفلسطيني كعباءة تخفي تحتها قناعات أخرى، بل عاشت معه كوشم، ورسمت سحنته وعززت قناعاته الوطنية، هو من حاول الانتحار بعد هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967. طبب ونوس نفسه للتحرر من آثارها بنص مسرحي هو "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، حلل فيه الهزيمة ونقد النظام السياسي الذي تسبب فيها وتستر على نتائجها، واستثمرها بتعزيز قوانين الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم الميدانية. منع نشر النص المسرحي، والعرض على الخشبة لسنوات، لكنه عاد بعد مرور ربع قرن ليقارب القضية الفلسطينية من جديد، لا بأثر الهزيمة على الشعب السوري والشعوب العربية، بل لينتقل الى الداخل الفلسطيني، حيث عاد ليكون مركز الفاعلية الوطنية، بعد هزيمة المقاومة الفلسطينية في لبنان 1982، وتشتت قواها على الدول العربية، التي استكملت أنظمتها نزع ما تبقى من فعاليتها بحصارها ومراقبتها، وبيروقراطية منظمة التحرير التي تتمسح بالوطنية والثورية، رافلة بامتيازات تحاكي امتيازات الطغم الحاكمة للأنظمة العربية.
نشر نصه المسرحي "الاغتصاب" عام 1990، أي بعد ثلاثة أعوام على الانتفاضة الفلسطينية 1987، التي حملت اسم الانتفاضة الأولى (تبعتها انتفاضة فلسطينية ثانية عام 2000).
بذل سعد الله ونوس جهدًا عاليًا لتجاوز امتحانات عسيرة وكمائن منصوبة بخبرات سلطوية متوارثة، أساسها الغوغائية الشعبوية المتسترة على هزائمها العسكرية، والمزاودات السياسية من أتباعها ومخبريها المتسربلين بأزياء إعلاميين وصحافيين.
لم يحل ذلك دون توجهه كسهم إلى هدفه، يعاين القضية ويشرحها، محاولًا في النهاية الاقتراب من حلول ظهرت كإلماعة برق تضيء الطريق المعتم، لم تخل من نزعة إرادوية وخطاب تفاؤلي، هما زوادة لا غنى عنها لمبدع سلاحه الضمير الإنساني، وحقل زراعته الفكر والخيال. لم ينطلق من انتصارات يبحث عن بيعها، أو مقايضتها بالمبادئ، بل من هزائم مستدامة وجراح نازفة تكاد تجهز على الأجساد، وتودعها القبور.
كما دفع ونوس في مسرحيته "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" فلاحي القرى المحتلة وباعة جائلين وجنودًا إلى خشبة المسرح، دفع في مسرحية "الاغتصاب" أبناء الشعب الفلسطيني، وطبيب أمراض نفسي، وأمًا، وزوجة، وجنود الجيش الإسرائيلي، ومحققي جهاز الأمن الإسرائيلي، إلى المكان ذاته، في تقطيع لمنصة المسرح، لكونه لا مكان للقائهم وحواراتهم إلا في سوق العمل، وغرف التحقيق، وأقبية التعذيب، ليشكل بذلك مقاطع عرضية للمجتمع في كسوره العربية والإسرائيلية، ومقاربة أحوال الشعبين، كل في موقع معيشته وعمله، ملتقطًا مخاوفهما وقلقهما وتصورهما عن المستقبل. يفتتح الدكتور أبراهام منوحين (طبيب الأمراض العصبية والنفسية) المسرحية وكأنه يتلو شهادة عن حال المجتمع الإسرائيلي: "هذه مملكة العصاب والجنون، الرأس كله مريض، والقلب بجملته سقيم، من أخمص القدم إلى الرأس لا صحة فيه، بل كلوم وحَبَط وجراح طرية لم تعصب ولم تلين بدهن". وينطلق بعدها لرصد عالمين متضادين، العالم الفلسطيني التي حملته الفارعة (الأم التي فقدت زوجها الأول الذي أجهز عليه مرض السل، وسافر زوجها الثاني إلى لبنان ومات في بلدة المطلة)، وتوزع ثلاثة من أبنائها الأربعة في المهاجر، وابنها الرابع محمد الذي آثر العمل في المشاريع الإسرائيلية (العالم الإسرائيلي)، التي هي وفق تجربته أقل إجحافًا بحقوق العمال من المشاريع التي يديرها مستثمرون فلسطينيون. "يامّه... اتركي الخطابات وكلام الإذاعات، الاحتلال معزّز، ولن نقاومه بالجوع والجيب الفاضي".




جارتها دلال المرأة الشابة التي تخلت عن أسرتها الثرية، وتزوجت من إسماعيل الصفدي المعلم والمعتقل، الذي تعده الفارعة ابنها الخامس. عالم مشغول بالاحتجاج على الحقوق المهدورة، وإرادة الكفاح لانتزاع الحق بالمساواة والعدالة. تحضر فيه أصوات المتظاهرين وتفجير بيوت المناضلين وزمامير سيارات الشرطة الإسرائيلية، والأصوات المتعالية لأوامر الضباط والجنود.
يظهر على الطرف الآخر عالم الأسرة اليهودية: الأم سارة بنحاس، وابنها إسحق وزوجته راحيل وابنهما داوود، الأم التي تآمرت مع مائير الشاب البارز في الكيبوتس المنتمي لمنظمة الأرغون الصهيونية المتطرفة على قتل زوجها جوزيف بنحاس، معلم الموسيقى وعازف الكمان، وادعت أنه مات بالتلّيف الكبدي. لم تعد تحتمل عداءه العلني للصهيونية، الذي اعتبرها "وكالة للرأسمالية اليهودية والعالمية".
هذا يفضي بنا إلى عالم جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي- "الشاباك"، حيث يعمل إسحق، ومجموعة من المحققين الشبان (جدعون وموشي ودافيد)، تحت إدارة صديق العائلة مائير، الذي يخاطبه الجميع بـ"بابا"، كأن بها تمثيل للأبوة الشرعية للدولة الصهيونية، مع إسماعيل الصفدي، الذي لم تجد معه وسائلهم على البوح بالمعلومات. المكان الوحيد الذي أبقته الدولة الصهيونية للقاء بين عالم انتزع موقعه من إلغاء العالم الآخر، وبتجاهل متعمد للشعب الذين لم يتمكنوا من تهجيره. يلتقي مائير بإسماعيل بين جولات التعذيب، كتمثيل رمزي للقاء بين العالمين.
ــ "مائير: من هم الفلسطينيون؟ لا يوجد فلسطينيون.
ــ إسماعيل: ومع هذا فإن الفلسطينيين يشحذون خيالهم كي يتصوروا دولة كريمة تتسع لي ولك. دولة حقوقنا فيها متساوية، وحرياتنا مكفولة".
وبعد أن يستنزفوا قواهم في انتزاع المعلومات، يحضرون زوجته دلال ويغتصبونها أمامه، قبل أن يقتلوه تحت التعذيب.
وضعت جرائم الاغتصاب إسحق في أزمة نفسية حادة تسببت في عطب قدراته الجنسية، ويقرر زيارة عيادة الدكتور أبراهام منوحين، رغم أنه لم يشارك في الاغتصاب الأخير، لكنه شطب عانتها وقطع حلمة ثديها بالشفرة، من دون أي شعور بالندم، وفق ما قاله للدكتور: "ليس هنالك ما أندم عليه، أو أتقزز منه، كانت حادثة عرضية مما يقع لنا كل يوم في عملنا"... "لكنك اخترت لا شعوريًا التعبير عن ندمك بالمرض... إنك تعاقب نفسك على ما فعلتموه بالمرأة وزوجها"... "في تربيتنا الصهيونية يعلموننا الكراهية بصورة دؤوبة، لكنهم لا يبالون بالحدود التي يمكن أن تتحملها بنيتنا الإنسانية". تتصاعد وتيرة الحوار بينهما لتشمل موضوعة الالتزام بقيم الدولة، والنظرة العنصرية للفلسطينيين.
يختمها الدكتور أبراهام في رد على اتهامات إسحق وتشكيك بالولاء: "إن ولائي ليس للقانون، بل للعدالة، وليس في ما تفعلونه أي عدل، وليس في احتلال الأراضي أي عدل، وليس في التزمت الصهيوني، الذي تأسست عليه دولة إسرائيل أي عدل".
يعود بعدها الى البيت ليستكمل حوارًا طويلًا مع أمه يعرض فيها معاناته. يسترجعان ماضي الأسرة، ويتذكران والده، كل من زواية مخالفة للآخر... "إنني ألملم حطامي يا أماه، إننا نتشوه ونحن نشوههم".
تعود راحيل متأخرة إلى البيت، وتبلغه أن زميله جدعون اغتصبها في بيته.... كأنما بهذا يوسع سعد الله ونوس فعل الاغتصاب، ويعممه على المجتمع الإسرائيلي بعموم سكانه.
وعلى مبعدة يقف الدكتور أبراهام منوحين في عيادته، يتأمل في الوقائع ويعلق عليها بتعابير يائسة: "آه يا مملكة العصاب والجنون، أبناؤك ينزفون وليس من يسعفهم، لأن الطبيب نفسه سقيم ويحتاج من يداويه...". انتهى النص المسرحي بحصيلة صفرية، وظهر عاجزًا عن الخروج من النفق، لأنه لم يمتلك حوامل اجتماعية فاعلة، على الخصوص في الطرف الإسرائيلي، قررت راحيل الهجرة الى أميركا تلبية لدعوة عمتها، وطلب إسحق من مائير تحويله إلى وظيفة مدنية تبعده عن جهاز الأمن. وخرجت دلال من محنتها لتقول للأم الفارعة: "الأرض لا تتسع لنا ولهم، إما نحن وإما هم. الفارعة: الأرض مباركة، ولولا نزعة العدوان لاتسعت للجميع".
مما اضطره الى إقحام طرف ثالث هو الكاتب ذاته في مشهد حواري يلتقي فيه مع الدكتور أبراهام:
ــ الدكتور: فأنت تؤمن أن وجود أمثالي محتمل؟
ــ سعد الله: بل مؤكد، إذا لم يوجد أمثالك يصبح التاريخ أفقًا مظلمًا.
- الدكتور: ولكنه شخصية مفعمة بالرفض والاحتجاج.
ــ سعد الله: ويدرك أن الصهيونية ورطة للعرب واليهود على حد سواء.
ــ الدكتور: هل كانت النزاهة متبادلة في هذه القصة؟
ــ سعد الله: إلام تُلّمح؟
ــ الدكتور: أفزعتني العبارة التي ترن في المسرحية "إما نحن وإما هم".
ــ سعد الله: هل تعتقد أن بوسعنا أنا وأنت أن نتعايش مع مائير وجدعون وموشيه؟
ــ الدكتور: هؤلاء... لا، ولكن قد توحي العبارة بمعان متطرفة ومفزعة.
ــ سعد الله: ليس للعبارة إلا هذا البعد. لا نستطيع الخروج من الورطة طالما الفكر الذي يمثله مائير وجدعون هو الذي يسود على الضفة الأخرى.
ينتهي النص المسرحي، كما ينتهي في الواقع النازي الذي لا تزال تفرضه الدولة الصهيونية، بدخول جدعون وموشيه ودافيد إلى العيادة، وتقييدهم الدكتور بقميص المجانين.
ــ الدكتور: وأنت ماذا ينتظرك؟
ــ سعد الله: عداوة الصهاينة الإسرائيليين والصهاينة العرب.
ــ الدكتور: إذًا، دعنا نتبادل الإشفاق.
ــ سعد الله: الإشفاق... وربما الأمل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.