}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (23)

دلال البزري دلال البزري 18 فبراير 2024
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (23)
الكاتبة في مكاتب صحيفة "اللواء"، عام 1977
تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ــ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ــ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ــ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.

القاهرة (1999 ـ 2009)
عربيتي خلال السنوات العشر هذه (في القاهرة) كانت ذات اتجاهات مختلفة. في بعض الحالات الملحة، كنت أضع أوتوماتيكيا الرقابة الذاتية عليها. أقول حالات ملحة، خارجة عادة عن سياق الحياة اليومية، أو الحياة العادية.
منها: في شهر رمضان من العام الأول على افتتاحنا لنادي "الأفْتر إيت" الليلي، زوجي وأنا، كان علينا إما الإغلاق، أو الاستمرار بالتشغيل، ولكن من دون كحول. فكانت الفكرة، أن نفتح بعد الإفطار، وقت السحور، نقدم المشروبات والمأكولات الرمضانية، وأقرأ أنا مقتطفات من كتاب "ألف ليلة وليلة". وكانت تجربة لغوية نحوية مثيرة. فأنا لا أعرف متى تنْصب الكلمة. ودائمًا أخلّص نفسي بتسكينها، تفاديًا لغلطة يمكن أن أرتكبها. اشتريت أقدم نسخة من كتاب "ألف ليلة وليلة"، التي أضمن تحريك كل كلماتها. اخترت القصص الأكثر إشعالًا للمخيلة، ورحت أتدرب على قراءتها بصوت عالٍ، وأمامي جهاز تسجيل صوتي. وأعود وأستمع إلى ما قرأت وعيني على الصفحة... هكذا، لمدة عشرة أيام قبل حلول شهر رمضان. وفي اليوم الثاني منه، كنت جهزتُ المساحة المخصصة للرقص بأجواء قديمة: جلستُ في وسطها على ما يسميه المصريون "الشلتة"، وهي عبارة عن مخدّة مربعة، عريضة وسميكة، محبوكة بثوب من سجاد، إلى جانبي إضاءة خافتة. وضعتُ أمامي كتاب "ألف ليلة وليلة" على تلك الخشبة المرتفعة قليلًا، المكونة من لوحتي خشب متقاطعتين، منحوتتين، مثل تلك التي كانوا يضعون عليها الكتب من زمان. وارتديت ثياب "المَلَس" المصري الأسود، الفلاحي، ومعه شالٌ من المخمل الأخضر، ووضعت الأساور والحلَق البلدي، وأفلتُّ شعري، وكان طويلًا، وأخذت أقرأ، وكلي انتباه إلى تحريك صحيح للكلمات. في اليوم التالي، جاءني شاب، واقترح عليّ أن يرافق قراءتي بالعزف على العود. وننتظم كل ليلة: أقرأ مقطعًا، وأستريح لدقائق، فيعلو العود، بنغمات ليلية شهرزادية. ثم يخفت قليلًا، عندما أعود للقراءة، مثل موسيقى تصويرية في السينما... وهكذا... أتدرب على النص الذي اخترته، قبل الذهاب إلى "أفتر إيت"، وأقرأ برفقة العود. شهر من ترقب أخطائي النحوية، ومن التمتع بالعود، وبردود أفعال الزبائن والأصدقاء. والتجربة لم تتكرر. لأنها لم تغطِّ أتعابها وجهود التحضير الاستثنائي لها، وتحويل المطبخ إلى سحور رمضاني.




لكن عربيتي المحكية لم تكن على هذه الدرجة من الانضباط. أفهم تمامًا اللهجة المصرية. أحاول مرتين، أو ثلاثًا، أن أتكلمها، تحت إلحاح بائع الخضار والزهور اللذين أواظب على زيارتهما. وهما منْطَلِقا اللسان، عشريَّان، يحبان الحديث عن بضاعتهما، عن الشارع الذي يعج بالناس، عن مصر... ولكن محاولاتي التكلم بلهجتهما تصبّ في عكس مرادها. أشعر بأنني أشبه بسيدة "خواجاية"، أجنبية، تحاول التكلم بالعربي المصري. فضلتُ بعد ذلك أن أخزِّن اللهجة، أكثر من استعمالها في حياتي المحكية. خصوصًا أن اللهجة اللبنانية ليست غريبة على المصريين. بل يقولون إنهم يطربون بسماعها؛ ربما بفضل مغني لبنان. وهم يستكثرونهم، ويطلقون النكات على مجمل اللبنانيين؛ من نوع أن عدد سكان لبنان ثلاثة ملايين، نصفهم من المطربين...
أستغرب من تقاعسي عن العامية المصرية. أسمعها من زمان. أحب إيقاعها، ورشاقة ألفاظها. وتسعدني خصوصًا لفظة حرف الـ"ج"، التي تتحول إلى الـ"غ". وأتسلّى مع أصحابي المصريين في اختيار الكلمات التي يلتقي فيها حرفَي الـ"ج" مع أحرف أخرى، بما لا يتواءم مع موسيقيتها... وكان عليّ أن أهتم وقتها بهذا الـ"ج" المصري، وأسأل عن أسبابه. ولم أفعل. ولا أعرف لماذا. واكتشفت بعد حين أن الـ"ج" هذه موغلة في التاريخ وفي الفرادة المصرية. المهم أنني لم أتكلم العامية المصرية، ولم أنجح حتى في تقليدها. وهذا مبعث آخر للاستغراب من نفسي. جئت إلى مصر، وكلي عروبة، وعندما عشت فيها صرت لبنانية. أقول "صرت" لبنانية لم أكنها، أو كانت منكفئة. والعيش في مصر أخرجها من استرخائها، لتطّعم عربيتي وتغني هويتي.
"مصر ما بتخلص"، "مصر لا تنتهي"... والقول المأثور لمنى غندور، أردّده لنفسي، وأنا أتوغل في شوارع القاهرة وأزقتها. ولكن مصر "ما بتخلص" في كل زاوية من زواياها، في كل خبيئة من خباياها، في أي مكان منها تكون فيه حياة، حتى في صحرائها الرحبة، التي لا تخلو من الحياة والجمال. كانت موضوعًا لمقالاتي الأسبوعية في "الحياة". وألفت عنها كتابًا وأنا عائشة فيها، ثم آخر بعد رحيلي عنها. وها أنا هنا أتناولها في هذا الكتاب، وأغوص مجددًا في شِعابها الفائضة. بل أتخيَّل نفسي بعد عشر سنوات، أو أقل منها، سأعود إليها، بفضل صدفة، أو لقاء، أو ذكرى، أو تجديد لتساؤل.
كما عدتُ إلى ثلاثية نجيب محفوظ في مراحل متباعدة، الأولى قبل أربعين عامًا. إنه أول كتاب عربي أقرأه بأجزائه كافة. لا أفهمه كله. بل لا أفهم كثيرًا منه. لكنني أستأنس بنبرته وشخصياته وحاراته.
عدتُ وقرأت الثلاثية للمرة الثانية بعد ذلك بثلاثين سنة، خلال إقامتي هذه في القاهرة. أحاول أن أعرف الفرق بين قاهرة اليوم وقاهرة الثلاثية، العائدة إلى أوائل القرن الماضي. وفي المرة الأخيرة، أعدتُ قراءتها الآن، منذ أشهر، أبحث في روحها الدافئة، تخفف عني غلواء الصقيع الكندي.
أقرأها وأترّحم على نجيب محفوظ وأشكره، وأتذكره في سنوات إقامتي بالقاهرة، في فندق شيبرد، في اجتماع دعتني إليه مجموعة "الحرافيش"، يدخن السيجارة، بعدما اقترب من التسعين. أسأله عن التدخين، عن قدرته على تحمّل السيجارة وهو في هذا العمر. يجيب بأنه دقيق في مواعيد التدخين. كل ساعة سيجارة. منه تعلمت كيف "أحسب" السجائر التي أدخنها، بمعيار الوقت الفاصل بين السيجارة والأخرى.
وعندما توفي عام 2006، ذهبتُ إلى سيدنا الحسين مع صديقتي ناديا أبو المجد، الصحافية في الأسوشييتد برس. هناك التقينا بأصدقاء آخرين، كتابًا وروائيين. فكانت أولى الجنازات، حيث صلينا على روحه في مسجد الحسين. ثم تجولنا في خان الخليلي، وتوقفنا في حيّ الجمالية، المتفرع عن المسجد، الذي نشأ فيه نجيب محفوظ. نتذكره، نترحم عليه، نتناول سندويشات الطعمية عن روحه، نتأمل بالعمارة التي سكنها، ويدهشنا تواضعها، من دون أن نرى مبررًا لهذه الدهشة... وكان حشد هذه الجنازة ضئيلًا، لم يتجاوز عددنا العشرة. وفهمنا بعد وقت أن المثقفين المصريين لا يحبون محفوظ المؤيد للسلام مع إسرائيل. وفي الجنازة الثانية، الرسمية، بعد الأولى بساعات، في حيّ مصر الجديدة، سعينا لواسطة الروائي يوسف القعيد من أجل إشراكنا فيها. تنجح هذه الواسِطة في مساعدتنا على التسلّل إلى المبنى، حيث يقوم كبار المسؤولين بتعزية ابنتَي محفوظ. وفي الباحة الخلفية للمبنى نفسه، كانت الجنازة البروتوكولية تتهيأ، مسوّرة منضبطة، يتقدمها التابوت، وحمَلة النياشين، وخلفهم الفرقة العسكرية الموسيقية، وحولهم الكاميرات والمراسِلين. ننتظر ما يقارب الساعة تحت شمس شهر آب اللاهبة، ليحضر رئيس الجمهورية، حسني مبارك، وننطلق. وما نكاد نمشي دقيقتين أو ثلاثًا، حتى يخرج الرئيس مبارك من الجنازة، كأنه يختفي. فينفض الجمع من عسكر ووزراء وسفراء وشخصيات، من الذين تقدموا الصفوف، ويعود كل من حيث أتى. نسأل عن الدفن، ونفهم من الإجابات بأنه سيتم "على نطاق ضيق".

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.