}

دُور سينَما قاع المدينة: نوستالْجيا تحوّلات الزَّمن

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 22 يوليه 2023
استعادات دُور سينَما قاع المدينة: نوستالْجيا تحوّلات الزَّمن
نجوم السينما في زهوها
ليست دُور سينَما قاع المدينة وسط العاصمة عمّان، وحدها، التي تشكو وجع التحوّلات، وغبار المقاعد والمداخل والبوابات، وتزْفُر نوستالْجيا الزَّمن القديم.
هي حالة انسحبت على دور سينما باقي مناطق عمّان وجبالها (منها، على سبيل المثال: سينما الأمير في الهاشمي الشمالي، سينما القدس في جبل الحسين، سينما الفيومي في جبل اللويبدة، وسينما الأهلي في منطقة المحطة، وغيرها). كما انسحبت على دور سينما باقي المحافظات، مثل سينَمات: الحمراء، سلوى، ركس، النصر، فلسطين، الحسين، وزهران، في الزرقاء، وسينَمات إربد: الفردوس، البتراء، دنيا، الزهراء، الجميل (في إيدون)، وزهران آخر صالات العرض السينمائية في إربد تشييدًا وأولها توقّفًا، متزامنٌ توقّفها مع توقّف عروض داريّ دنيا، والزهراء، وأما آخرها توقّفًا في إربد فَدار سينما الفردوس، التي شيّدت عام 1913، ليمتد عمرها 104 أعوام، حيث هُدمت في عام 2017.
اللافت أن محافظات رئيسية كبرى في الأردن لم تعرف عبر تاريخها، لا القديم ولا الحديث، وجود دور عرض سينمائية فيها، مثل محافظات الكرك، والمفرق (اكتشفت حديثًا بقايا سينما في الصفاوي (70 كيلومترًا شرقيّ المفرق) تأسست عام 1933، وشيّدت بمواصفاتِ دُور العرض البريطانية، كوْنها بُنِيَت زمن الانتداب البريطاني)، ومعان، وجرش، وعجلون، ومادبا (شهدت مادبا ما بين ستينيات القرن الماضي وثمانينياته وجود داريّ عرض سرعان ما أغلقتا، هما: سينما سهيل (على اسم ابن صاحب المبنى الذي أجّر شخصًا لبنانيًا مقر السينما)، وسينما مادبا الجديدة (والأولى أقدم من الثانية بكثير)، علمًا أن بعض المصادر تشير إلى وجود صالة عرض سينمائية واحدة في العقبة هي سينما الجلاء، التي تأسست قرب ثَكَنات الجيش في المحافظة عام 1956. ويبدو من اسمها أن مؤسسها كان متأثرًا بالعدوان الثلاثي على مصر في ذلك العام، وما سبق العدوان من قيام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بِتأميم قناة السويس. السلط، في دورها، حظيت بِوجود صالة عرض سينمائي واحدة هي سينما "نبيل" لصاحبها نبيل دعسان، والسينما كانت، من نهاية ستينيات القرن الماضي وحتى ثمانينياته، في عمارة عادل باكير أوّل شارع الميدان.
من المفارقات، أيضًا، وأيضًا، أن مدينة المفرق التي لا يوجد في قلبها النابض ولا أي دار عرض سينمائية، كانت شاهدة مطلع عام 2019، على افتتاح دار عرض سينمائية، ليس في متنِ المدينة، بل في هوامشها، وتحديدًا في مخيم الزعتريّ للاجئين السوريين الواقع داخل أراضي المحافظة، بدعمٍ من المنظمة الفرنسية "لوميير في الزعتري"، وشراكةٍ مع منظمة اليونيسف، وتنسيقٍ مع مديرية شؤون اللاجئين السوريين (مراكز مَكاني)، وتنفيذ شركة "نقطة خيال للأفلام والإنتاج الفني" الأردنية.

سُطوع...
ليس بعيدًا عن سطوع فن السينما، على امتداد الكوكب، ابتداء من مطالع القرن العشرين، وازْدهار مختلف متعلّقاته عالميًا، من إنتاج سينمائيٍّ، إلى افتتاح دور عرض وصالات فُرْجة، إلى تطوّر صناعة كاميرات تصوير الأفلام، واسْتفادة حقولٍ مُساعدةٍ، مثل حقل المطبوعات الخاصة بِملصقات الأفلام (الأفيشات)، وَحقل العمارة الخاصة بِصالات العرض، وديكوراتِها، ومختلفِ مستلزمات تأثيثها، فإن حال السينما في الأردن على وجه العموم، وَالعاصمة عمّان على وجه الخصوص، كانت متأثرة بِهذا السطوع، ليس على صعيد صناعة السينما وإنتاج الأفلام، بل على صعيد افتتاح دور عرض لِلأفلام المُنْتَجة في الغرب الأميركيّ، ومصر، والهند، وإلى حدٍّ ما، المُنْتَجَة في سورية ولبنان، وإِنْ بدرجةٍ أقلّ بِكثير.
صحيحٌ أن بعض دُور السينما الأردنيّة افتتحت في ثلاثينيات القرن الماضي، إلا أن المُواكَبةَ الحقيقيةَ لِسطوع السينما عالميًا بدأت بعد عام 1948، عام النكبة الفلسطينية وَما رافقها من لجوء مئات آلاف الفلسطينيين إلى الأردن، مع نيلِ العاصمة حصةَ الأسد من هؤلاء اللاجئين، حيث بدأ انتشار دور العرض السينمائي العمّانية يسطع بشكلٍ لافت، ويتوسّع من وسط البلد (قاع المدينة)، نحو جبل عمّان، وجبال أخرى: جبل الهاشمي الشمالي، جبل اللويبدة، جبل الحسين، وهلمّ جرًّا.

آلة عرض أفلام 36 ملم

أسهمت تحوّلات القيم العمّانية، من روحٍ شبه بدوية، إلى حالة مدينيّة، لها أدبياتها وأولوّياتها وسُلوكياتها، منذ مطالع خمسينيات القرن الماضي نحو ستينياته، بِزيادة الإقبال على دور العرض السينمائية. إقبالٌ بدأ يأخذ، في حالات بعينها، شكلًا عائليًا في كثير من سينَمات المدينة وقلبِها، مثل سينما الخيام في جبل اللويبدة، وسينما زهران في شارع السلط على تخوم وسط المدينة، وسِينما أمير في جبل الهاشمي الشمالي، وكذلكَ سينما الرينبو في شارع الرينبو، قريبًا من دوار جبل عمّان الأول.




بَكَرَةُ الأفلام تدور، وصناعةُ السينما تزدهر، والعالمُ كلّه تحوَّلَ، تقريبًا، إلى شاشة فضيّةٍ عِملاقة تصدّر أبطالها، وتشعلُ التنافسَ بين صنّاعها، وتفرضُ خصوصيّتها، وتعمّم عالمَها، وأحلامَها، وشجنَها.
هذا ما أصبح عمّانيًّا شعلةً لا تخبو مع نهايات ستينيات القرن الماضي ومطالع سبعينياته، وفي تلك المطالع ما زلت أذكر كيف كنّا نذهب إلى سينما زهران، على سبيل المثال، أنا وباقي أشقائي وشقيقاتي، بوصفِ ذلك فعلًا اجتماعيًا لا يخجل الناس منه، ولا يخص أبناء الطبقة المخملية من دون غيرهم، بل يمتد ليشمل أبناء الطبقة الوسطى بمختلف درجاتها، وصولًا إلى المنتمين إلى ذيل تلك الطبقة الجامِعة.
لقد تكوّن ما بدأ يُعرف بمصطلح العمّانيين، والعمّانيون هم خليطٌ عجيبٌ من سكّان المحافظات المهاجرين من الريف والبوادي إلى المدينة، ومن الفلسطينيين، سواء الذين استقروا في عمّان بعد النكبة، أو الذين جاءوا قبلها لأسبابٍ كثيرة ليس هنا مكان التفصيل فيها. إضافة إلى بعض السوريين الذين استقروا في العاصمة، وخصوصًا قرب سيْلِها، مطالع القرن العشرين، حتى إنّ بعضهم استقر في عمّان والبلقاء قبل تأسيس الدولة. وفي تلك الخلطة مكوّنات أُخرى، يمنيةٌ، وعراقيةٌ، وبخاريةٌ، وقفقاسيةٌ، وقوقازيّة (الشركس والشّيشان)، الذين وصل بعضهم إلى عمّان وسيْلها، وحولَ قلعتها، في عام 1885، ويُقال إن بعضهم وصل قبل ذلك (بعض المصادر تشير إلى عام 1878، وبعضُها، يشير، حتّى، إلى ما قبل ذلك). هؤلاء العمّانيون صار لهم ثقافتهم، ولهجتُهُم البيضاء الجامعة، وعاداتُهم، وتقاطعاتُهم، التي لا يُشبه كثيرٌ منها ما يجري في باقي المحافظات. الذهاب إلى السينما في هذا السياق، شكّل، بامتياز، عادة عمّانية تستوعب في رَحاها معظم الطيف السكّانيّ العمّانيّ من مختلف الأصولِ والمّنابت والطّبقات.

تراجع...
ما إن دخل العالم، والأردن ليس استثناء، أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وصولًا إلى أواخره، حتى بدأ تراجع العصر الذهبي للسينما يطلُّ برأسِهِ بشكلٍ مُتدرّجٍ مُتدحرِج. تراجعٌ أسهم فيه عالميًّا ظهور جهاز الفيديو المستقبِل لأشرطةِ الـ(في أتش أس) VHS، و(البيتاماكس) Betamax، وبداية انتشار الصحون اللاقطة التي زادت من قيمة التلفاز، ومِن تنوّع معروضاتِه.
محليًا، ظلّت دور العرض صامدةً، بشكلٍ، أو بآخر، حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي، ومطالعِ الألفية الثالثة، حيث سرعة انتشار الشرائط السينمائية، لم تكن تماثل سرعتها في دول متقدمة، أو دول استهلاكية حولنا (دول الخليج العربي على سبيل المثال). وحيث التراجع الأردنيّ العمّانيّ لم يرتبط (منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي) بموضوعِ جهاز الفيديو حصرًا، فقد لعبت عوامل أخرى؛ اقتصادية وسياسية واجتماعية وقيمية، أدوارًا حاسمة في أوّل علامات أفول دور العرض السينمائية في الأردن على وجه العموم، والعاصمة على وجه الخصوص. ومن تلك العوامل: ازدياد تأثّر الأردنيين بالسلفية والوهّابية السعودية، مع انتشار ظاهرة العُمرة، وتأدية بعض الناس لها مرّة، على الأقل، في كل عام (والدتي رحمها الله، على سبيل المثال، اعتمرت 30 مرّة خلال حياتها، وحجّت أربع مرّات)، وهو تأثّر لم يقتصر على هجرة دور السينما، بل امتد ليشمل عدم السلام بِاليد على أبناء العمومة، وزوجة العم لا تسلّم على أبناء شقيق زوجها، وعدم الاختلاط، وشيوعَ ظواهر التحريم والتنْفير، وانتشارِ كتب عذاب القبر، وما إلى ذلك من مختلف مظاهر التشدّد البعيد كل البُعد عن روح الإسلام، حتى بات الواحد لا يكاد يلتقط أنفاسه بين التحريم والآخَر، مع خلطٍ مؤسفٍ بين التحريم والتّجْريم، ومع تنطّح غير المؤهلين لِلفتاوى. حتمًا، مع كل هذا وذاك، شكّلت دور العرض السينمائي أوّل الضحايا وأكثرَها تضرّرًا، فآخرُ همِّ الناس، في تلك الأيام، الذهاب إلى حضور فيلمٍ في صالة سينما، فَما بالك بالذهاب الأسريّ الجماعيّ!
ومن أسبابه الاقتصادية، ما حدث في عام 1989، من تراجع الدولة عن دعم كثيرٍ من المواد الأساسية، وارتفاعِ الأسعار المرتبط مع أزمةٍ اقتصاديةٍ نفطيّةٍ خليجيّة. سياسيًا، شهدت ثمانينيات القرن الماضي أحداثًا سياسية كبرى، مثل اجتياح بيروت واحتلالها في عام 1982، من الجيش الإسرائيلي، وكذلك انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1987.




في تلك الفترة، لم تحظَ بِمُشْتري تذاكر سوى دور العرض العمّانية التي كانت تقدم وجبةً إباحيةً تخْلو من سياقٍ دراميّ (تجميع مشاهد من أفلام عدة)، علمًا أن من كان يُتاح له مشاهدة شرائط الفيديو بنوْعيْها، كان يستغني من فورِهِ عن الذهاب لدور العرض إياها، فتلك الشرائط كانت أكثر سخاء عندما يتعلق الأمر بِحجمِ الإباحية في المشاهد المُثيرة. وعليْه، كان من يتسنّى له الحصول على جهاز العرض، يصبحُ مهْوى أفئدة الشباب، يتوافدون إلى المكان الذي استقرّوا عليه لِحضور المشاهد الكاملة، ومن العادي، جدًّا، أيامها، أن يتفاجأ صاحب المكان بشبابٍ لا يعرفهم جاؤوا للمُشاهدةِ فقط!

اضمحْلال...
القرن الواحد والعشرين، ومنذ سنواته الأولى، تمظهرَ بوصفِهِ قرن اضمحْلال دور العرض السينمائيّ أردنيًّا، واندثارها، وسقوط آخر أوراقها.
هذا ما حدث مع معظم دور عرض قاع المدينة (صمدت سينما ريفولي على سبيل المثال للأسباب التي ذكرناها أعلاه، ولكنّ صمودها لم يدم طويلًا)، وهذا ما حدث مع دور عرض المحافظات التي كان فيها مثل تلك الدُّور.
مع الألفية الثالثة، أسهمت عوامل جديدة بمزيدٍ من تراجع مشاهدة الفيلم السينمائي في دور عرضه، والأمكنة التي ظلت لِزهاء قرن مرتبطةً حصريًا به. من تلك العوامل، ظهور الأقراص المضغوطة والمدمّجة والرقميّة (سي. دي CD، ودي في دي DVD)، ومنصّات العرض المنزلي، وظهور قنوات تلفزيونية فضائية متخصصة بالأفلام، وبعضها متخصص بآخرِ الأفلام وأحدثها.

سينما الحسين: شموخ الزمن القديم

اندثارٌ تزامنَ مع ظاهرة دُور العرض المرتبطة بمولات ومجمعات تجارية: غاليريا، سيتي مول، بركة مول، وما إلى ذلك، وهي دور عرض (فخمة) نسبيًا، بأسعار تذاكر مرتفعة، وارْتبطت، في كثير من حالات التوافد إليها (وليس فيها جميعها، حتى لا أتّهم بالتجنّي)، بِمن يرغب بخلوةٍ غيرَ مُراقبة، يقضي خلالها وقتًا عاطفيًا مع صديقته، أو خطيبته، أو ما إلى ذلك، وهو ما كان يجبره على دفع ما يقترب من ثمانية دنانير ثمن التذكرة الواحدة (هذا المبلغ ارتفع على حد علمي بعد عام 2015). إنهم، يا رعاكم الله، أبناء الطبقة الوسطى مرّة ثانية وثالثة وألف، هم من أبقوا على آخر أنفاس دور العرض السينمائية في عمّان، فأبناء الطبقة العليا لن يُعدموا تدبير مكان خلوة، وأبناء الطبقة الدنيا لديهم مشاغل أخرى، وهُم، في أحسن الأحوال، يقترحون حديقة عامة، علّهم يلتقون بين عصافيرها بالمحبوبة الفقيرة مثل حبيبها الفقير.

دون تلْويحة وداع...
هكذا سار الأمر... حلّ الغبار مكان الأنفاسِ المبهورةِ بِالسينما، الشاهقةِ دهشةَ أفلامِها، النائمةِ وَمَعها من المشاهد شُحْنة، ومن عبير الشاشة بعضَ ما يُشعل الليل، ويُضيء النجوم.
وبسبب خصوصية محليّة لها علاقة بالذاكرة السمكيّة قصيرة المَدى، فإن اندثار دور العرض السينمائية في الأردن جاء، في كثير من الحالات، سريعًا ومروّعًا، كما لو أن تلك الدور كانت أثرًا بعد عين، حالها حال مقاهٍ هدّمت (مقهى العاصمة ومقهى الجامعة العربية على سبيليّ المثال)، وَمراكز ثِقلٍ تسوقيٍّ قُضي عليها (كان وسط البلد هو مركز الثِقل التسوقيّ، ثم انتقل فجأة إلى جبل الحسين، ثم فجأة إلى الصويفية، ثم فجأة عاد بعضه إلى وسط البلد، من دون عناوين واضحة ولا ضوابِط موْثوقة)، وبيوتٍ قديمةٍ لم يُحافظ عليها، وذاكرةٍ قابلةٍ، دائمًا، للنّسيان.
كلُّ ما تبقّى بعض نوستالْجيا، يتجرّعها، على مهلهِم، أولئك المُولَعون بِحقائبِ الحَنين، وذكريات الزّمن الدَّفين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.