}

مئوية محمد الموجي: ثراؤه الموسيقي "كنهر لا يجف"

سليمان بختي سليمان بختي 5 يونيو 2023
استعادات مئوية محمد الموجي: ثراؤه الموسيقي "كنهر لا يجف"
محمد الموجي (1923 ـ 1995)

حلت هذه السنة مئوية ولادة الملحن محمد الموجي (1923 ـ 1995)، فاحتفت به عواصم عربية، منها الرياض والقاهرة، بأعمال استعادية تظهر أصالة فكره الموسيقي، ومساره المميز في تجديد الأغنية العربية. للموجي أكثر من 1800 لحن أعطته حضورًا بارزًا على مساحة وخريطة الأصوات الغنائية في العالم العربي.
في مئوية ولادته، نستعيد علامات من موهبة فذة لأحد المجددين الكبار في تاريخ الموسيقى والغناء العربي، إذ جرت الألحان بين يديه وطوع بنانه مثل النهر المتدفق، ومثل الأشجان الناعمة المرافقة للوجدان. وإذا كان من حق رياض السنباطي أن يقول: "قصة حياتي هي أم كلثوم"، فمن حق محمد الموجي أن يقول" قصة حياتي هي عبد الحليم حافظ". فقد بدأ النجاح معه في "صافيني مرة"، قبل الختام برائعة نزار قباني "قارئة الفنجان".
ولد محمد أمين محمد الموجي في دسوق في مركز بيلا، بمحافظة كفر الشيخ المتاخمة للإسكندرية. نال دبلوم الزراعة سنة 1944. لم يعمل في الزراعة، وعين في البوليس الحربي الإنكليزي. كان يهوى الغناء، وبدأ حياته مطربًا قبل أن يتجه إلى التلحين الذي برع فيه، وأسس اتجاهًا يخصه وحده. التحق في بداياته بصالة بديعة مصابني. ميلاده كملحن له حيثيته، فقد كان مع عبد الحليم حافظ في أغنية "صافيني مرة"، التي شهرتهما معًا، ليرتبطا برحلة غناء ناجحة قدم فيها الموجي 88 أغنية لعبد الحليم، أشهرها: "اسبقني يا قلبي"، و"يا قلبي خبي"، و"الليالي"، و"لايق عليك الخال"، و"أحن إليك"، و"حبك نار"، و"يا حلو يا أسمر"، و"أحبك"، و"مغرور"، و"جبار"، و"حبيبها"، و"كامل الأوصاف"، و"يا مالكًا قلبي"، و"أحضان الحبايب"، و"رسالة من تحت الماء"، و"قارئة الفنجان". ولكن ثمة قصة وراء لحن "رسالة من تحت الماء"، فقد لحنها الموجي بداية من دون معرفة قباني، ومن دون طلب من عبد الحليم، لكن عندما سمعها عبد الحليم بعد قطيعة سنوات من الموجي على العود، وقف المطرب وقبّل عود الموسيقى معجبًا. نجحت الأغنية وذاعت. قال عنها محمد عبد الوهاب: "إنها من أحسن الألحان ثراء في أعمال الموجي". أبدل الموجي كلمة "يجرحني" إلى "يناديني"، وطلب من عبد الحليم أن يسأل قباني تغيير كلمة "إن كنت نبيًا أخرجني من هذا اليم"، فأصبحت "إن كنت قويًا..." مراعاة لموقف الأزهر. هذه الرحلة مع عبد الحليم حافظ لم تخل من إبر النحل، أو على طريقة الموجي "ما فيش حلاوة من غير نار". وإذا كانت "صافيني مرة" هي البداية فقد عرضها الموجي على عدد من المطربين والمطربات، وكان الرد بالرفض. ولما قدمها الموجي إلى حليم قال له: "سأغنيها ورزقي ورزقك على الله يا موجي". نجحت الأغنية، وكرت السبحة، من أغنيات عاطفية ووطنية، مثل: "الفوازير"، و"بستان الإشتراكية"، و"لفي البلاد يا صبية"، و"النجمة مالت عالقمر"، وغيرها.





لكن "صافيني مرة" ظلت متوهجة في الذاكرة والبال. يروي الموجي أنه بكى عندما سمع الأغنية تصدح في إذاعة دمشق قبل السحور. شهدت العلاقة مع عبد الحليم نجاحات وخلافات ومصالحات. اختلفا على كوبليه: "يا مدوبني بأحلى عذاب"، إذ رفض عبد الحليم تغييره، فقاطعه الموجي سبع سنوات، وراح يلحن لمحرم فؤاد، وماهر العطار. واختلفا حول أغنية "مغرور"، التي في رأي الموجي لا تحتمل هذا القدر من التوزيع الموسيقي الذي فرضه عبد الحليم. كما انتقد الموجي خروج عبد الحليم عن روح الموشح في "كامل الأوصاف"، وراح يغنيها حسب الأصول. واختلفا على الحقوق المالية، وكان الموجي يسأل: "عبد الحليم يصل أجره إلى 14 ألف جنيه عن بطولة فيلم، والموجي يلحن الأغاني بـ 200 جنيه". ذات مرة اختلفا، وفي لحظة غضب وتوتر قال لعبد الحليم "عليّ الطلاق لن ألحن لك لثلاث سنوات"، ونفذ ذلك. وفي أغنية "قارئة الفنجان" اختلفا على الوقت، فقام عبد الحليم بحبس الموجي في فندق كي يجبره على إتمام اللحن. ورغم ذلك لم يقبل عبد الحليم مرة أن يخسر موهبة وصداقة محمد الموجي. وأحيانًا بهمة أم أمين، زوجة الموجي، يعود الوئام والوفاق بينهما. وبحسب مذكرات عبد الحليم حافظ (روز اليوسف، 1973): "كان الموجي يجلس دائمًا بالعود ليعزف خلفي في كل الحفلات، ولم ينسحب إلا عندما لحن لي محمد عبد الوهاب أغنية ’توبة’". أما الأغنية الأحب إلى قلب الموجي في مشواره مع عبد الحليم فهي "جبار" (من فيلم "معبودة الجماهير")، التي يعدها لحنه الأهم، بل إحدى علاماته الموسيقية.
لكن ثمة أغنية ثانية صنعت صعوده، وهي "أنا قلبي لك ميال" لفايزة أحمد، وتبعها "يمه القمر عالباب"، و"بيت العز"، و"تمر حنة"، وغيرها.
كان بينه وبين فايزة أحمد كيمياء تواصلية. ويمكن القول إن هذا النجاح قدمه إلى أم كلثوم التي سعت إليه لتغني ألحانه. وكان الموجي يحلم بتلك الفرصة، ولم يصدق دعوته لزيارتها. في بيت أم كلثوم التقى العملاقان أحمد رامي، ومحمد القصبجي، الذي أشاد به، وقال له: "أنت القصبجي الجديد". انتهى اللقاء بأن عهدت إليه أم كلثوم بتلحين "نشيد الجهاد"، وغنته في نادي الجلاء للقوات المسلحة. وبعد انتهاء الحفل اخذته أم كلثوم من يده وقدمته للجمهور في حضور الرئيس جمال عبد الناصر. بعد ذلك لحن لها "رابعة العدوية"، و"الرضا والنور". واستمر التعاون وغنت من ألحانه وكلمات صلاح جاهين "محلاك يا مصري" (بعد تأميم قناة السويس)، و"بالسلام احنا بدينا"، و"يا سلام على الأمة"، و"صوت بلدنا"، و"خانة الأقدار". في عام 1963، كلفته أم كلثوم بتلحين "للصبر حدود"، وباتفاق أن ينهي اللحن خلال شهر. مضى الشهر ولم ينجزه. شكته لعبد الناصر الذي قال لها مداعبًا "احبسهولك يعني حتى ينتهي من اللحن". أقامت ضده دعوى في المحكمة، واستدعي ووقف أمام القاضي الذي سأله لماذا لم تنه اللحن في الميعاد المحدد؟ أجاب الموجي: "أحكم علي بالتلحين سيادتك". القاضي: "حكمت عليك بالتلحين". أجاب الموجي: "نفذ الحكم يا افندم". قال القاضي: "كيف؟" رد الموجي: "افتح راسي وأخرج اللحن. أنا لا أعمل كالآلة. تضع فيها شيئًا فتخرج لحنًا. إنها مشاعر وأحاسيس تحتاج إلى وقت لتوليد اللحن. وأم كلثوم ليست مطربة عادية أبدًا". قال القاضي: "عندك حق يا موجي. تحفظ القضية. روح يا بني وأنت حر مع أم كلثوم". ذهب الموجي إلى أم كلثوم معاتبًا، لأنه دخل المحكمة بسببها. ردت أم كلثوم: "ما هو للصبر حدود يا موجي. كلما بحثت عنك لا أجدك. فماذا أفعل غير ذلك. والوقت مش لصالحي. وأنت يوم مع عبد الحليم، ويوم مع صباح، ويوم مع شادية، ويوم مع فايزة... وحيرت قلبي معاك". فضحك الاثنان وتم الصلح. بدأت البروفات واختلفا أولى وثانية، ولم يتراجع الموجي، رافضًا التغيير في اللحن، وغادر غاضبًا تاركًا العود في صالون أم كلثوم، ومعتكفًا في منزله. أوفدت إليه العازفين الكبيرين في فرقتها، الحفناوي، وعبده صالح، ليقنعاه بالعودة ومناقشة الست. وهكذا كان. وتم الاتفاق على غناء اللحن كما هو. فقال لها الموجي: "أريد أن أكون "بروش" على صدر فستان المغنية، على أن يكون البروش للموجي وهويته واضحة". نجحت الأغنية، لكنه اغتاظ لأنها غنتها مع "إنت عمري" في السنة عينها، فطيبت خاطره: "بكره تشوف يا محمد نجاحات لا حدود لها". وذهب لتلحين أغنية ثانية لأم كلثوم بلا مشاكل، وهي "إسأل روحك" (1970). وبالفعل عرفت نجاحًا، وأهدت إليه أم كلثوم خاتمًا من البلاتين الأبيض.




ويروي إلياس سحاب في كتابه: "مع محمد عبد الوهاب" (2019) ونقلًا عن الموجي أنه عندما لحن "اسأل روحك" لم ينتبه لدخول صوت أم كلثوم مرحلة الشيخوخة، وفوجئ بعد الحفلة باتصال هاتفي من محمد عبد الوهاب هنأه فيه على اللحن، ثم قال: "ما هذا يا محمد؟ ماذا فعلت بالست؟ لحنك من طبقة عالية، وكأنها ما زالت تنشد "رق الحبيب"، و"غلبت أصالح بروحي"، فرد الموجي: "فعلًا. وما عساي أن أفعل الآن؟"، فأجاب عبد الوهاب "أترك اللحن كما هو، ولكن بعد خفض درجته اللحنية". وبالفعل نفذ الموجي في الحفلة الثانية النصيحة الفنية لعبد الوهاب. وكان الأداء أفضل بكثير. وفوجئ الموجي باتصال هاتفي جديد من عبد الوهاب يقول فيه: "ما رأيك يا مولانا... غنينا كويس". ويضيف الموجي ملاحظًا أن عبد الوهاب لم يقل غنت كويس، بل غنينا، وذلك دليلًا على إحساسه بالمصير الفني المشترك، وأصالة عبد الوهاب وأخلاقه العالية. ورحت أرجوه أن يكف عن مناداتي بلقب مولانا، فماذا عساي أناديه".
أعطى الموجي ألحانًا لكبار مطربي ومطربات عصره. أعطى وردة "مستحيل"، و"أكدب عليك"، ولنجاة الصغيرة "عيون القلب"، و"حبيبي لولا السهر"، ولصباح "قلبي يهواك"، و"الحلو ليه تقلان قوي"، و"الراجل ده حيجنني"، و"شفت جمال"، و"الغاوي نقط"، و"سلمولي على مصر"، و"مبروك علينا السد العالي"، وغيرها، ولنجاح سلام "يا أغلى اسم في الوجود يا مصر"، ولشادية "شباكنا ستاير وحرير"، و"مين قلك تسكن بحارتنا"، و"غاب القمر يا ابن عمي"، و"بست القمر"، ولمحرم فؤاد "رمش عينه"، وهاني شاكر "حلوه يا دنيا"، و"كده برضه يا قمر"، ولطلال المداح "ضايع في المحبة"، ولسميرة سعيد "أنا ليك"، و"شط البحر"، ولميادة الحناوي "جبت قلبي منين"، و"اسمع عتابي"، ولعفاف راضي "يهديك يرضيك"، ولعزيزة جلال "هو الحب لعبة"، ولمحمد قنديل "منديل الحلو". وأعطى سعاد محمد خاتمة فيلم "الشيماء" (1973)، ولطيفة "هات قلبك وروح"، وماهر العطار "بلغوه"، و"داب داب"، وغيرها. وكانت له عشرات الأعمال من موسيقى تصويرية ورقصات وأغان سينمائية ومسرحية ومسلسلات إذاعية. ويعود إليه الفضل في اكتشاف سعاد حسني وتقديمها كمطربة في فيلم "صغيرة على الحب" عام 1966، لتغني له "خدنا إجازة". وكانت له تجربة في السينما، إذ شارك في ثلاثة أفلام "أنا وقلبي"، و"رحلة غرامية"، مع مريم فخر الدين. وظهر في مشهد في فيلم "العزاب الثلاثة" مع عادل المأمون. لم تترك أفلامه بصمة كما الحال مع عبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، ومحمد فوزي. كان يحن إلى حلمه القديم أن يكون مطربًا، لكن الموهبة الأصيلة جعلته دائمًا في المرتبة الأولى بين صفوف الملحنين. وكان أساتذة الموجي، أي عبد الوهاب، والقصبجي، والسنباطي، يعرفون موهبته حق قدرها، لدوره في تجديد الموسيقى منذ الخمسينيات. كما يعرف قدره أيضًا مجايلوه، مثل كمال الطويل، وبليغ حمدي، ومنير مراد. بعد وفاة عبد الحليم، بحث الموجي عن مشاريع جديدة ومواهب، لكنه لم يوفق. ولبث يردد "أدور عليه ولا ألاقيه". ويقصد عبد الحليم.
ولا يزال ينظر إلى الموجي كصاحب شخصية مستقلة في ألحانه، مخلصًا في عمله الموسيقي، وجريئًا في وضع جملته الموسيقية المتفردة، واقتراحاته وتشكيلاته على اللحن. كان لا يبدأ اللحن قبل أن يمتلئ بالكلمات ويرسم معها مصير اللحن.
وصفه الناقد المصري محمد قابيل بأنه "فلاح بسيط في تعبيره وعميق في رؤيته". ووصفته أم كلثوم بأنه "نهر لا يجف ولا يتوقف. مليء بالموسيقى الجديدة الشرقية المتطورة". وقال عنه عبد الوهاب "هذا الملحن في رأسه مكتبة موسيقية بحيث لا أكاد أعرف من أين تأتيه هذه الجمل الرائعة التكوين. إنه صانع نجوم. وفي موسيقاه ثراء فني جديد وكبير يثري مكتبتنا الموسيقية العربية ثراء عظيمًا".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.