}

فرانسوا تروفو وسينما "الموجة الجديدة": "بيان حبٍّ"

سمير رمان سمير رمان 28 أبريل 2023
استعادات فرانسوا تروفو وسينما "الموجة الجديدة": "بيان حبٍّ"
المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو (Getty)
بتأثيرٍ من أفلام الواقعية الجديدة الإيطالية، وأفلام هوليوود الكلاسيكية، ظهرت في فرنسا، نهاية الخمسينيات، وطيلة عقد الستينيات، من القرن العشرين، سينما الموجة الجديدة/ Nouvelle Vague، التي تخلّت عن الأساليب السائدة حينئذٍ في صناعة السينما. وقف على رأس هذه الحركة مخرجون شباب من ذوي الخبرة في النقد السينمائي، أو في الصحافة السينمائية. وقف هؤلاء الشباب ضد الأفلام التجارية المنفصلة عن الواقع، ولجأوا في كثيرٍ من الأحيان إلى التجريب، واتباع أساليب جذرية جديدة في صناعة السينما. من أبرز هؤلاء: فرانسوا تروفو، جاك غودار، إيريك رومير، كلود شابرول، وجاك ريفيت.
في هذه الأيام، لا تزال دور السينما تعرض فيلم "البشرة الناعمة/ Delicate Skin" للمخرج الفرنسي فرانسوا تروفو/ François Truffaut (1932 ـ 1984). الفيلم لاقى فشلًا ذريعًا في مهرجان كان السينمائي لعام 1946، في وقتٍ رأى فيه كثيرٌ من النقاد جوهرة السينما الفرنسية، مشيرين إلى الأناقة الرفيعة التي ظهرت في كلّ لقطة، بحيث عجزت سينما ما بعد ستينيات القرن العشرين عن أن تجود بمثلها.
سبق أن أخرج تروفو فيلم "جول وجيم/ Jules et Jim" عن رواية الكاتب هنري روشيه، وهو ميلودراما من عصور الانحطاط والحروب العالمية. للوهلة الأولى، يبدو فيلم "البشرة الناعمة" مقارنةً بفيلم "جول وجيم" أقلّ تعقيدًا، وحتى ساذجًا. إنّه "بيان حبٍّ" آخر، لكن من دون أزياء تاريخية هذه المرّة، ومن دون انحرافٍ في الأسلوب. إنّه بيان حبٍّ في قوقعة برجوازية صغيرة عادية، بحسب ما صرّح به المخرج نفسه.
لعبت دور البطولة في فيلم "جول وجيم"، الممثلة جين مورو، في حين أسندت البطولة في فيلم "البشرة الناعمة" للممثلة فرانسوا دورلياك/ Françoise Dorléac. لعبت فرانسوا دور نيكول، مضيفة الطيران، المرأة متقلبة المزاج كتقلّب طقس فبراير/ شباط، والجامحة جموح فرسٍ فتيّة، بحسب ما كتب أحد صحافيي حقبة الستينيات في وصف بطلة الفيلم. يروي الفيلم قصة البروفيسور بيير لابلانش، المتخصص في أدب بلزاك، الذي يقع في حبّ المضيفة نيكول في أثناء رحلته إلى لشبونة. يحاول البروفيسور والمضيفة إبقاء علاقتهما ضمن حدود مدينة باريس، ولكنّ الفتاة تتركه بشكلٍ مفاجئءٍ فور تأكدها من وصول علاقتهما إلى زوجة البروفيسور. تبيّن أنّ الزوجة كانت تعلم كلّ شيءٍ عن هذه العلاقة. وفي أحد الأيام، توجهت الزوجة الغاضبة إلى المقهى الذي اعتاد زوجها ارتياده، وقد أخفت بندقية تحت معطفها، عازمةً على الانتقام من الخائن.
كان هذا الفيلم ليكون ميلودراما عادية، لولا فرنسوا دورلياك، وليس تروفو. في عام 1962، التقي تروفو وفرانسوا، في أثناء رحلة بالطائرة، كما حدث في فيلم "البشرة الناعمة": تلقت مجموعة من السينمائيين الفرنسيين دعوة لزيارة إسرائيل، كان تروفو قد حصل لتوّه على الطلاق من زوجته مادلين مورغن، التي ما فتئت تحاول استرجاعه، وكانت تكره صديقاته الجديدات. جاء تقارب فرانسوا وتروفو ليس فقط نتيجة تشابه الأسماء، ولكنّ أيضًا لشغفهما بالكتب التي كانا يتبادلانها. تنجح فرانسوا نجاحًا كبيرًا في مسيرتها المهنية: فاليوم، تسافر فرانسوا (عارضة الأزياء السابقة لدى كريستيان ديور) إلى البرازيل لتلعب دور البطولة مع جان بول بلموندو في فيلم "رجلٌ من ريو"، وغدًا ستلعب دورًا في فيلم من إخراج تروفو، الذي كان قد وقع بالطبع في حبّها، وبدأ يكتب لها رسائل متعمدًا ارتكاب أخطاءٍ في كتابة اسمها، بحيث يجعلها (فرامبواز)، أي "توت العليّق"، بدلًا من فرنسوا.




بالطبع، في فيلم "البشرة الناعمة"، لا تلعب Dorléac شخصيتها الحقيقية نفسها، ولا يصور تروفو فيلمًا عن علاقتهما العاطفية الخاصّة. لقد بنى تروفو حبكة الفيلم على روايةٍ اُخرى اكتملت بالفعل، ولكن كان هنالك بلا شكّ شعورٌ عاطفيّ جديد ينعش الحبكة تلك. شخصيته البديلة (Alter Ego)، شخصية مثقفة، ذات بشرة رقيقة ناعمة، يلعب دورها الممثل جان ديزاين، الذي يكن له تروفو كلّ الحبّ، ويبادله ديزاين الشعور نفسه. إنّنا أمام حالة نموذجية لعلاقة تجمع رجلين، ولكنّها علاقة تشوبها الغيرة وانعدام الثقة بين المخرج الواقع في غرام بطلة فيلمه، وبين الممثل الذي يقع عليه عبء الحبّ بدلًا عن الآخرين، أي أنّ البطل يتولى القيام بدور المحبّ بالنيابة والتكليف.
ومع ذلك، نجد أنفسنا أمام فيلمٍ رائع. ففرانسوا دورلياك، الواقفة على سلّم الطائرة مرتدية بدلة تويد، وحذاءً عالي الكعب، وقد لفّت عنقها الرائع بوشاحٍ حريري تلعب به الريح، تجسّد سحر وغموض "الموجة الجديدة" في صناعة السينما. كلّ لقطةٍ من لقطات الفيلم المصور بالأبيض والأسود نُفّذت ببراعة مدهشة تجاوزت أفلام ستينيات القرن العشرين، ولم تستطع السينما بعدها أن تضاهيها، أو تفوقها، أبدًا. في الفيلم، تتحدث نعومة البشرة، وهشاشة المادة البشرية، عن صعوبة، بل ربما، استحالة الحفاظ على توازن المشاعر، وكذلك استحالة تجنّب الأخطاء، وتفادي الإهانات. عندما يكون الباحث في إرث بلزاك قرب نيكول دورلياك التي توشك على المغادرة، فإنّه يخسر كلّ شيء، وتغدو مفارقة الحياة بالنسبة له غير مخيفةٍ على الإطلاق بعد هذا الفراق. ولهذا جاء الفيلم حزينًا، ولكنّه لم يكن مأساويًا: فالأسوأ قد وقع بالفعل.
حدث وإن جاء عرض فيلم "البشرة الناعمة" في مهرجان كان في الستينيات، متزامنًا مع عرض فيلم آخر هو "The Umbrellas of Cherbourg/ مظلات تشيربورغ"، وبدا للوهلة الأولى أن هزيمة المخرج تروفو الغامضة كانت واضحة على خلفية انتصار المخرج الفرنسي الآخر جاك ديمي/ Jacques Demy (1931 ـ 1990)، مع أنّ أيًّا من الفيلمين لم يكن أسوأ، أو أفضل، من الآخر: فهما كانا مختلفين وحسب، كما هو الاختلاف بين الممثلين في هذه الأفلام: فرانسوا دورلياك، وأختها الصغرى كاترين، التي كانت في البداية تحمل اسم العائلة نفسها قبل أن تتغيّر إلى (دونوف) لتصبح كاترين دونوف/ Catherine Deneuve، بدلًا من كاترين دورلياك. لم يكن الصدام بين الأفلام والممثلات سوى تعبير عن أزمة "موجة السينما الجديدة"، وإعادة تقييم قيمها. في هذا النظام المتجدد للقيم، تبدو كاترين دونوف أكثر ملاءمةً لشخصيتها الكلاسيكية المتجانسة، من فرانسوا دورلياك، وتقلّبها العصبيّ. لم تمثّل دونوف في فيلم "البشرة الناعمة"، فقد كانت تأتي حينها إلى موقع التصوير فقط لدعم أختها. ظهر فيلم "البشرة الناعمة" عام 1964، وكان المخرج تروفو قد تنبّأ لفرانسوا بمستقبلٍ باهر، ووعدها بإعطائها دورًا رئيسيًّا كلّ ست سنوات، وحدّد على سبيل النكتة تواريخ تلك الأفلام: أعوام 1970، 1976 و1982. ستموت فرانسوا دورلياك عام 1976 في كارثة سقوط طائرة، مباشرةً بعد إنجاز فيلم "البشرة الناعمة". بعد وفاتها، جاءت بدلًا منها، وفي الموعد المحدد عام 1982، دورلياك أُخرى، إنّها كاترين دونوف، التي ستصبح لثلاثة أعوام رفيقة حياة تروفو، وستمثّل في أفلامه: La Sirène du Mississipi/ "صفارة الإنذار في المسيسيبي" (1969)، و"Le Dernier Métro/ قطار الأنفاق الأخير" (1980).
أخيرًا، يمكن القول عن الفيلم الأول إنّه يمثّل عودة سينما "الموجة الجديدة" إلى الماضي، في حين جاء الفيلم الثاني كلاسيكيًا بحتًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.