}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (8)

دلال البزري دلال البزري 5 نوفمبر 2023
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (8)
باحة ثانوية الحسينيّة مع شريف شرف الدين، بيروت 1968
تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ـ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ـ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ـ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!"، أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.

الجامعة اللبنانية... كلية الآداب: 1970 ـ 1971

في الصيف، أتقدّم للعمل في سنترال وزارة الاتصالات، في وسط البلد. وهو عمل بسيط يتطلب سحب فيوز من هنا، ووضعه هناك للربط بين متصلين من الخارج والمقيمين. لا حاجة كبيرة للغة هنا؛ فقط آلو؟ فلان، علان يريد أن يكلّمك... أمضي ثلاثة أشهر الصيفية في هذا الشغل، في قاعة تتجمع فيها شابات حول قطعة خشبية عالية وضخمة، تتَدَلّى منها شرائط وترتفع بحسب المكالمة المطلوبة. وأصوات عالية مستمرة.
ـ آلو!؟ سامعني؟ موسيو فلان؟ طالبينَك...
ثمة زعيمة بين العاملات، هي أقدمهن؛ طويلة، عريضة، صوتها عال، تسيّر الدفّة بكلمات قليلة ونظرات قاطعة، مثل الأوامر. ولكن أيضًا ثمة شابات لا يطعْنها، وفي تصرفاتهن شيء من التمرّد ضدها والتواطؤ بينهن. أفهم بعد ذلك أنهن عضوات في إحدى اللجان العمالية التابعة لمنظمة العمل الشيوعي. فعند انصرافي من العمل في أحد الأيام، ألتقي الرفيق ريمون، المعروف في منظمتنا ببراعته في "التحريض السياسي": واقف على مدخل الوزارة في الخارج، يوزّع منشورات باسم لجان العمل العمالية. وفيها مطالب عمالية، تحسين الأجور، الدوام، الضمان، الصرف الكيفي... ويتكلم مع اثنتين من أولئك الشابات بلغة بسيطة، ولهجة بيروتية حادة، بنغمتها المطّاطة.
لا يدوم عملي بالسنترال واهتمامي بالعاملات. تنتهي الصيفية، وأدخل إلى كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، سنة أولى، فرع الفلسفة. طالما أنني نلتُ تلك العلامة العالية في الشهادة... أجد الفلسفة هي الأسهل. وليس في بالي غير "التسجيل". لا الدراسة ولا التخصّص، مع أنني أردّد عكس ذلك أمام أهلي.
فالمستقبل عندي هو النضال في المنظمة. ويتّضح لي بعد وقْفات الرفيق ريمون على مدخل وزارة الاتصالات، وتوزيعه البيانات وتحريضه للصبايا، بأن منظمتنا دخلت طورًا جديدًا إضافيًا، من دون أن تلغي طورها الفلسطيني التحريري. وقد سمّته "التمحور العمالي". بناء عليه، وصلت إلينا، نحن الأعضاء النشطين، القاعديين، مهمات بعينها؛ غير منسَّقة، ولكنها تحمل الأنشطة ذاتها. وندخل في منافسة مع الحزب الشيوعي اللبناني حول "القاعدة العمالية"، بعدما فزنا بشيء من الجماهيرية عند القاعدة الطلابية.
هكذا تسجَّل وقائع لغوية غريبة؛ هدف خليتنا الحزبية مثلًا هم عمال "الريجي" لصناعة التبغ. ويصادف أن معمل "الريجي" هذا يقع في ضاحية الحدث، شرق بيروت، بالقرب من كلية العلوم، الجامعة اللبنانية. ولنا فيه عاملة بارزة اسمها حنّة، استطاع قائدنا العمالي الرفيق ريمون أن يكسبها إلى جانبنا. كانت فكرته أن تتصدر حنّة عشرات من "عمالنا" في تظاهرة مطلبية، نسجّل فيها الوحدة النضالية القائمة بين العمال والطلاب، نهتف لزيادة الأجور، للضمان الصحي، وضد الصرف الكيفي... ونتجه صوب كلية العلوم، الجامعة اللبنانية.
على باب الكلية هذه، يستقبلنا الطلاب بسرور.
ـ أهلا وسهلا بالرفاق!
ويدلّونا، نحن والحشد، على الطريق إلى قاعة المحاضرات الكبرى. ولكن، ونحن في هذه الطريق، نشعر بأن ثمة شيئًا يتغير، وبأن الجو يتكهْربَ. بأن الشباب الذين استقبلونا وسهَّلوا دخولنا إلى الكلية... لم يعودوا مرحّبين، وتصلنا الأخبار سريعًا؛ بأنهم كانوا يعتقدون أننا من "الحزب الشيوعي"، وليس من منافستهم "منظمة العمل الشيوعي". وعندما نصل إلى قاعة المحاضرات، وتجلس حنّة مع رفاقها على الكراسي الأمامية، أحاول أخذ الميكروفون والتكلم عن المطالب العمالية، للمرة الأولى، وأمام جمْهرة من الناس... عند هذه اللحظة، يقاطعني واحد من الذين انقلبوا من الترحاب إلى العبوس. أعانده قليلًا فيغضب ويصرخ في وجهي:
ـ شرموطة...!
يعيدها ويزيد. فتهتز ثقتي بعربيتي، وأتلعثم. كنت سمعتها من قبل، هذه الكلمة، وترجمتها كانت واضحة بالفرنسية: تعني التي تؤجر جسدها مقابل المال. أما الآن، فلا أفهم لماذا؟ ما الذي جعلهم يتصورون أنني أبيع ما لا أبيعه...؟ فأخرس تمامًا. ويحصل عراك، وتنسحب حنّة برفقة العمال، ويتفرّق من بعدهم الطلاب، وكان تحركًا فاشلًا. وعند تفرّق الجمع، أسأل الرفيق ريمون:
ـ لماذا قال عني أنني "شرم...؟".
يضحك الرفيق، ويجيب أنهم يرمون هذه الصفة على كل امرأة لا تعجبهم...
ـ بهذه السهولة تنحرف الكلمة عن معناها؟ وفي هذه الحالة بماذا يصفون تلك التي تبيع جسدها أيضًا؟
ـ "شرم..." أيضًا.
ـ كلمة واحدة لمعنيين؟ كيف التمييز بينهما إذًا؟
"توضيحات" الرفيق ريمون لا تقنعني.
ـ وأنتَ أيضًا إذا لم تعجبكَ امرأة تقول عنها "شرم..."؟ كما يفعل "رفاقنا الشيوعيون"؟.
ـ أنا لا، ولكن غيري ربما...
ـ غيرك من المنظمة يعني؟
ـ ...
"حادثة" كلية العلوم تنبّهني إلى المعاني الجانبية للكلمات، إلى إيحاءاتها ودلالاتها غير المكتوبة، المحمولة على سياقاتها. فتتعزز عربيتي المحكية، رغم إحباط محاولتي الأولى بالكلام أمام جَمْع من الناس.
بعد فشلنا في كلية العلوم، نتجه إلى الجذور، ونعمّقها. وهذا العمل، الأكثر "منهجية"، ينطوي على مهمة رئيسية اسمها "اتصال". نقف على باب المعمل، ننتظر انتهاء دوام العمال وخروجهم، فنلتقطهم عند أول زاوية من الشارع، نكلمهم عن حقوقهم، نعطيهم بيانًا باسم لجاننا العمالية، ونسألهم إن كانوا مستعدين للاجتماع بنا ليلًا... إذا قَبِل العامل بأن يحضر هذه الاجتماعات نسميه "اتصال". نسجل اسمه على ورقة، ونعود فنسترجع في اجتماعاتنا عدد "الاتصالات" التي قمنا بها، نقيس فعالية نضالنا بكثرة أعدادها. ننظّم لـ"الاتصالات" اجتماعات ليلية، نشرح لهم خلالها نظرية "فائض القيمة"، القاعدة التي تعتمدها الرأسمالية لإستغلال العمال، على أيدي أرباب عملهم الرأسماليين. ومعها بيع العمل، بيع قوة العمل، وتكلفة الإنتاج، والأجور الزهيدة التي تزيد من أرباح رب العمل.




ويحدث أن كُلَّفت مع رفيقتين، نادين ونتالي، بالاتصال بعمال معمل العسيلي في الحدث، أيضًا. وثلاثتنا فرانكوفونيات. عقدتنا الإفرنجية المشتركة تدفعنا إلى الاتفاق على ارتداء ثياب "شعبية": أن نضع غطاء على شعرنا، نسميه "الإيشارب"، تتدلّى من جوانبه خصل من شعرنا، نلبس تنانير طويلة فوقها قمصان فضفاضة، ونتجه نحو المعمل، من وسط البلد إلى الحدث، عن طريق البوسطة، وهي أكثر إقناعًا للعمال مما لو ركبنا التاكسي، أو "السرفيس"، أي التاكسي المشترك... نلتقي إذًا في وسط البلد لننطلق، ننظر إلى بعضنا ونضحك. لا نبدو "شعبيات" أبدًا... نشبه بالأحرى الهيبيات. ولكننا لا نبالي. نثق بأنفسنا وبنضاليتنا. وعندما يخرج العمال عند انتهاء الدوام، ونكون مجتمعات غير متفرقات، يطلع من بينهم شابان وسيمان، لا يختلفان عن منظرنا "الهيبي". يضحكان، ويعلنان بأنهم يعرفوننا، يعرفون نتالي بالذات:
ـ ألستِ طالبة في "الإيكول دي ليتر"؟ يسألها العامل الأكثر جرأة.
ـ ...
لا تعرف نتالي بماذا تجيب. ترتبك. نشعر بأن "تنكّرنا" لم يكن موفقًا. نكاد نعود للضحك على أنفسنا، ولكننا مناضلات، لا تثنينا هذه الانتكاسة عن المتابعة. وبعد لحظات، يكون جواب نتالي من صلب أدبياتنا:
ـ نعم، نحن طالبات في "الإيكول دي ليتر"، نعم... ولكننا نؤمن بأن العمال والطلاب لهم مطالب واحدة، ومصالح مشتركة...
يبتسم الأكثر جرأة بينهما. واضح أنه لا يبالي بجواب نتالي. يعود فيتفحصنا هو وزميله، لا يستطيع أن يصدق حجابنا وتنانيرنا... لكنه يريد أن يراضينا. ويسجل اسمه كـ"اتصال". والمرات اللاحقة لا نكرر التنكّر "الشعبي". ولا نرى فائدة منه.
ـ يفضحنا أكثر ما يسترنا، تقول نتالي ونحن نهمّ بالعودة إلى وسط البلد.
ونادين:
ـ ولهجتنا أيضًا تكشفنا... لا يمكن إخفاء اللهجة، مهما حاولنا.
ألوذ بالصمت. لهجتي العربية لا تشبه لهجة نتالي. ولا لهجة نادين، "الأقوى" منها بالعربية.
وتتابع نادين:
ـ ليس اللهجة وحسب، إنها الثقافة. أنظري إلى ثيابنا، إلى مشيتنا... إلى جامعتنا، التي ليس في وسعنا إنكار بصْمتها.
الجامعة... آه نسيتها. جامعتي ليست مثل جامعتهن. اللبنانية، أي المجانية، حيث الشباب الذي لا يقدر على أقساط الجامعة الخاصة، وعلى لغتها. فوق الرفقة الحزبية، لا يجمعني بنادين ونتالي غير اللغة الفرنسية. وغير ذلك اختلاف، و"الثقافة" التي تتكلم عنها نادين هي غير الثقافة التي تؤنسني. لا أستطيع أن أحدد معالمها بدقة، كما تفعل نادين عن ثقافتها. فإذا كانت تعني اللغة، فأنا هنا بين اثنتين، لغة أحبها منذ طفولتي، أشتري " البيك ـ آب" مشغل الأسطوانات، بحجم صغير، أحمله معي أينما ذهبت. ومع البيك ـ آب، أسطوانات جورج براسنز، وسيرج رجياني... أستمع إليها عشرات المرات في النهار. وأتقاسمها مع نادين، ومع رفيق فرنكوفوني آخر... وأواظب على أفلام الموجة الفرنسية الجديدة والإيطاليَين إيتيرو سكولا، وفريدريكو فيلليني، وإنغمار برغمان. ولكنني أصبو إلى العربية. أحب ما أكتشفه فيها، وما يبعث على مزيد من الاكتشاف. أميل إلى المتكلمين بها، أثابر على مشاطرة أذواقهم، ومجاورة نغماتهم.
وسط هذا التمايل بين اللغتين، يحدث فيَّ ما يرجح كفة العربية في ميزاني. كنا خارجين من فيلم للمخرج السويدي إنغْمار برغْمان "صراخ وهمس"، ننظر إلى بعضنا، من دون كلام. نذهب إلى القهوة المجاورة، ويدور نقاش بين فرنكوفونيين مقتنعين بأنهم "فهموا" الفيلم، وغير فرنكوفونيين يتظاهرون بأنهم فهموه. وأنا من الفئة الثانية. ففي بيئتنا الصغيرة هذه ممنوع أن لا نفهم. ليس لأن هناك قانونًا وبنودًا تنصّ على ذلك، إنما لأن "الفهم" هو من صفات الرفيق الذي يتطلع إلى رفع درجته الحزبية. وبما أن امتحانات "الفهم" ليست مثل امتحانات الفيزياء، أو الرياضيات، فإن الرفيق في وسعه أن يتظاهر بـ"الفهم"، ويخفي عدم الفهم بمئة حيلة وديباجة، وقوة هذه الخصْلة تنبع من شيء يشبه المزيج من قادة خطنا السياسي، "يفهمون" أكثر منا، وقادرون، بفهمهم، على تحقيق أهدافنا العليا، وبين الذين لا يفهمون، ولا يمكنهم المشاركة في تحقيق النصر الذي يلوح في الأفق، إلا كجماهير وعدد.
الجو الفرنكوفوني في المنظمة يسجل أولى تراجعاته بعد زيارة الملك فيصل بن عبد العزيز إلى لبنان. منظمتنا تريد أن تتظاهر ضده، ولكنها تلاقي منعًا من قبل قوى الأمن، أو أنها تريد أن تنفرد بلعبة الأحزاب اليسارية. فيكون قرارها بتظاهرة نسائية "طيارة" في مكانَين من العاصمة: مستشفى البرْبير، وساحة الشهداء في وسط البلد. نحضر إلى التظاهرة الأولى منفردات، نتوزّع على الأرصفة، وكأننا نتنزّه، أو نتفرّج على واجهات المحلات. ثم فجأة، في لحظة متفق عليها، تقفز واحدة منا وسط الشارع وتصرخ الشعارات المعادية للمملكة السعودية، فتهرول صوبها "المتنزِّهات"، يركضن بسرعة، وهن يهتف ضد الملك السعودي، وتلاحقهن الشرطة، ثم يتفرّقن، يختفين... ليعدن إلى الظهور من جديد، في التظاهرة الطيّارة الثانية في وسط البلد. وهذه الأخيرة لا تنتهي على خير. الشرطة سبقتها، وتمكّنت منها، فصرنا نهرب يمينًا شمالًا نبحث عن مخبأ في أي مقهى أو مكتب... في النتيجة، تفوز الشرطة بأرق الرفيقات، منى زوين، الطالبة في "الإيكول دي ليتر"، ومن عائلة مسيحية ثرية ومتمكِّنة. ويكون قرار والدها بعد إخراجها من السجن إرسالها مباشرة إلى فرنسا، وقطع كل صلة لها بلبنان. تكرّ السبْحة، ويتقلص عدد الرفيقات الطالبات الفرنكوفونيات.
تعيدني واحدة من "أنشطتنا" إلى اللهجات. ومروحة هذه الأخيرة واسعة في المنظمة. أكتشف واحدة جديدة، في اجتماع ينظمه الرفيق وضاح شرارة للرفيقات. والرفيق وضاح هو المثقف الأشهر في منظمتنا. والغرض من هذا الاجتماع التكلم عن حقوق النساء، وعن تقاسم العمل المنزلي بين الزوجين. الرفيق وضاح أنجب منذ بضعة أشهر ابنته الأولى، يحملها ويرضعها بالبيبْرونة أمامنا، ويأتي بكل ما يراه مشاركة لزوجته في مهام الأمومة. يبهرنا الرفيق وضاح، ويقنعنا بأن كلامه مطابق لأفعاله، وهذه فضيلة لطالما نادت بها الرفيقات.
طوال هذا الاجتماع لا يتوقف عن الكلام، لا يتشتّت ذهنه... وأنا لا أجد شبيهًا للهجته هذه. لهجة دراماتيكية، ممتنعة ومكفهرة، كأنها مستعارة، فيها تضخيم لأحرف من دون أخرى، وجهورية آتية من بعيد. أحسب بأنها تقتصر على وضاح، المعروف بتفرّده. ولكنني أكتشف بعد ذلك بأن عددًا من الرفاق المثقفين في منظمتنا يعتمدونها. والرابط المشترك بينهم، غير ثقافتهم، هو أن غالبيتهم العظمى آتية من الجنوب اللبناني، يحاولون، على ما تصورت بعد سنوات، أن يتخلصوا من ريفيتهم بعدما استقروا في العاصمة. بعضهم اعتمدها لفترة قصيرة. والذين بقوا عليها لمدى العمر، هم رفاق بارزون ذوو شأن ثقافي. لهجة مخترَعة، لا يقلدون بها أية فئة، أو مجموعة، تبتعد قدر الإمكان عن المحكية، وتقتصر على الرفاق من دون الرفيقات، ربما بسبب خشونتها.
في الخط الموازي لشارع رأس النبع، حيث مركز "نادي الرواد" في شارع النويري، يقع مركز ثقافي اسمه "المركز الثقافي الجامعي"، أو "سي. سي. أو". هو عبارة عن شقة في الطابق الأخير من مبنى تراثي قديم يديره الأب اليسوعي سليم عبو. والشقة، تشبه مدرسة "الحسينية" من الداخل، على أرحب وأجمل، وبشرفات منحوتة، ذات أعمدة عالية تطلّ على المدينة بأسرها، مكوّنة من ليوان رحب، وخمس غرف شاسعة متصلة به، واثنتين جانبيتين، واحدة للمطبخ لا تقلّ اتساعًا، وأخرى للإدارة أضيق منها، كانت مخصصة للخدم على الأرجح. وداخل كل غرفة مكتبة وطاولة وكراس، حيث يمكن الجلوس لساعات لقراءة الكتب، أو تصفح الجرائد والمجلات الجديدة، الفرنسية والإنكليزية. وشريط ممتد من "الإدارة" إلى كل الغرف، يوصل موسيقى كلاسيكية هادئة، يختارها الرواد، أو الأب سليم عبو نفسه. هذا المركز الذي لا يفرض على رواده أي رسوم... هو واحتي، عكس "الحسينية". المكان الذي أسترجع فيه هوايتي في القراءة. في هذا المركز أيضًا، أستعيد شيئًا من الإنكليزية، تعلمته في مدرسة الراهبات. وأحاول ترجمتها إلى العربية مع الرفيق جنان شعبان... لا أعرف لأي غرض. أختار الأسهل، الصحف والمجلات. أهتم بحيويتها وتقشّفها، قياسًا بالفرنسية التي تبدو أمامها فوّارة متدفقة، لشدة أناقتها و"إشكالياتها". والمواضيع الاقتصادية هي الأكثر جاذبية. فأراجع النظريات الاقتصادية الماركسية، وأقول لنفسي إن أفضل اختصاص لفهم العالم الآن هو الاقتصاد.
أنسى الجامعة اللبنانية التي تسجّلتُ فيها... ولا أتذكرها الا في المناسبات، بعدما تأتي التعليمات بالمشاركة في واحدة من التحركات الطلابية المطلبية، من إضراب إلى اعتصام إلى تظاهرة إلى مهرجان، أو توزيع بيانات. أحضر بمهمة حزبية، لا أنشرح لها بشكل خاص.
فالقطاع الذي تهتم به خليتنا أيضًا هو القطاع الفلسطيني. بعد معارك أيلول في الأردن، وترحيل المقاتلين الفلسطينيين إلى لبنان بأعداد كبيرة. والصلة بين منظمتنا والجبهة الشعبية الديمقراطية تترتّب عليها مهام حزبية مشتركة، خصوصًا في المخيمات. هناك أتعرف على سمير العكر، وأغْرم به. أذهب إلى مركزه في الفاكهاني وأنخرط بنقاشات فلسطينية صرْفة، وضباب كثيف من دخان سجائر دانهل وروثمان، الحامية الثقيلة. أمضي معه جلسات النظرات والتحابُب في مقهى "شي بول" المطلّ على البحر أعلى تلال رأس بيروت، ومقهى "الشموع" الرومنطيقي، الواقع مقابل الجامعة العربية حيث يتابع تعليمه. وفي هذا المقهى، أنغام متواصلة تخرج من آلة جديدة، اسمها "الجوكْبوكس"، مثل صندوق موسيقي، تختار منه أسطوانتك وتكبس على الزر، بعدما تكون أدخلت عشرة قروش عبر إحدى فتحاته. ويكون خيارنا، طوال جلساتنا، عبد الحليم حافظ، بقديمه وجديده، منه "زيّ الهوى...". مع سمير، يستقر عبد الحليم حافظ في "الربرْتوار"، بعدما كان صوتًا عاطفيًا، ألتقطه هنا وهناك من راديو، أو دنْدنة سارحة لخالتي أسمهان. ومع سمير أيضًا، اللهجة الفلسطينية تكتسب حبًا وحنانًا، بعدما تصدّت أذني لقساوتها على لسان المدرِّبين العسكريين في المخيمات.
ينتهي العام الدراسي من دون أن أفكر بالنجاح في امتحانات آخر السنة. أتقدم إليها رفعًا للعتب. لم تعد الفلسفة مهمة بالنسبة لي. أود الآن أن "أتعمّق" في الاقتصاد، على أساس أنه القاعدة التي تنطلق منها كل الأنشطة البشرية. وإن فهمته أكثر، أكون جديرة بـ"ماركسيتي".

(يتبع...) 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.