}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (11)

دلال البزري دلال البزري 26 نوفمبر 2023
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (11)
لبنان/ المتن 1992: اللقاء الأوّل لتجمّع الباحثات اللبنانيات
تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ـ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ـ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ـ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!"، أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.


1979 ـ 1984: الثانوية، مجلة "الحرية"، الدكتوراة
الدكتوراة
ومع هذه الآخرة، أخسر الرفاق، وهم محيطي وبيئتي ومحطّ سهري وزياراتي وأعيادي. وأخسر "قضية"، لم أعد أبذل شيئًا من أجلها. وفي الوقت نفسه، أفكر بأن أفضل السبل للتخلص من ثانوية الغبيري ـ الشياح، ومن كل التعليم الثانوي، أن أعدّ أطروحة دكتوراة، وأكون بذلك أستاذة في إحدى كليات الجامعة اللبنانية، بساعات أقلّ، وراتب أعلى. وأتخيل بأن الجامعة اللبنانية، ستخلو من مخالفات الإدارة الثانوية، نظرًا لما عرفته في كليتنا من رصانة.
ـ ركِّزي الآن على الدكتوراة... وسيحتاج ذلك إلى كل جهودك... أقول لنفسي.
تلقائيا، أختار فرنسا لإعداد اطروحتي فيها. بلد قريب مني، وجذاب. أعجبتني عاصمته عندما أقمت فيها أربعين يومًا في المدينة الجامعة، في رحلة خصصتها إدارة كلية التربية لعشرين خريجًا وخريجة من أوائل دفعتنا.
أسافر إلى باريس إذًا، وقد قررت تغيير اختصاصي. فأنا الآن مهتمة بالحركات الدينية الإسلامية. أستقر على أستاذ يشرف على أطروحتي، هو أوليفيه كاريه. ولكي يتم هذا الانتقال من اختصاص إلى آخر، عليّ حضور سمينارات عن الشرق الأوسط، والمشاركة في امتحانات حول موادها، وإعداد شهادة الدراسات المعمّقة (دي. أو أَ). وبما أن اهتمامي منصب على الإخوان المسلمين المصريين، أولى الحركات الإسلامية في عصرنا، يقترح عليّ أستاذي أن يكون موضوع هذه الشهادة هو سيد قطب. فكره عبر كتاباته. ولسيد قطب عشرات المؤلفات، بينها الكتاب الأيقونة "معالم في الطريق". كتاب قصير وسهل، يشبه البيان السياسي المطوَّل. وعبد الناصر، بعدما قرأه، اشتم منه مكامن الخطر في نظريته الأساسية، أي إقامة "حاكمية الله على الأرض"، و"تكفير المجتمع الجاهلي"، الذي يعِد بشن حرب عليه. فاعتبره موجَّهًا ضده وضد مرحلته، وأصدر حكمًا بإعدامه.
أما المؤلَّف الثاني، الذي يدخل في تفاصيل "التكفير"، و"الحاكمية"، فهو "في ظلال القرآن"، ويتكوّن من ثلاثين جزءًا، كل جزء يتجاوز الألف صفحة. لشدة تكرار عباراته وفقراته، في البداية، أحاول تجاوز صفحة منه، أو اثنتّين. ولكنني أكتشف بأن هاتين الصفحتين بالذات كان فيهما تفصيل مهم بنى عليه سيد قطب فرعًا من فكرته. وعندما انتهيت من قراءته، وبشق الأنفس، هُيّئَ لي بأن سيد قطب ضخَّم من عدد أجزائه هذه لتقيّة في نفسه: أراد ربما إقامة نوع من الروتين، يمرر عبره فكرة جزئية، أو فرعًا من فكرة، ترسخ بذلك مقولاته المكرّرة المحببّة، مثل الحاكمية، والمجتمع الجاهلي، والبيعة مع الله... لتتحول إلى بداهة. فالتكرار، مثل الصلاة. فالاثنان تربويان، يستهدفان الحفظ.
وبين هذين الكتابين، الأقصر والأطول، مؤلفات جانبية، كل عناوينها مربوطة بالإسلام: العدالة، الرأسمالية، السلام، الدراسات، المستقبل، التصور الفني، الحضارة. وبعد سنوات من نيلي الأطروحة، اكتشفت بأنني أهملت مؤلفات سيد قطب الأولى، وكلها إما شعرية، أو قصصية للأطفال أيضًا، فضلًا عن سيرة ذاتية، وحتى رواية، عنوانها "أشواك".
ما كان يمكن أن أترك هذه الباكورات لو كان نصيبي أن أعدّ الأطروحة، أو دراسة، عن قطب في هذه الأيام. فهذه الجوانب، الذاتية، في فكر أصحاب نظريات مؤثرة، مثل قطب، سوف تُغني بالتأكيد الأطروحة. ولكن قطار سيد قطب فاتَ اليوم...
الأطروحة تتطلب مني قراءة القرآن بأكمله لأول مرة، مترجمًا من العربية إلى الفرنسية. وأقبل على بعض السُوَر القصيرة التي حفظتها على يد أبي، وأفهم معانيها اللغوية لأول مرة بفضل هذه الترجمة.
وبما أن "الجماعة الإسلامية"، أي الإخوان المسلمين اللبنانيين، بزعامة فتحي يكن، هم الأقدم والأشد ارتباطًا بإخوان مصر، رواد الإسلام السياسي، فيكون تاريخ ومآل أولئك الإخوان من بين ثلاث حركات إسلامية أخرى موضوعًا لأطروحتي. الشق الآخر لها كان التحقيق الميداني، وساحته مدينة طرابلس اللبنانية، الشاهدة على تاريخ الجماعة القديم والمعاصر، وعلى بروز حركة إسلامية ائتلافية، هي "حركة التوحيد الإسلامي"، وهي الحركة الثانية موضوع الأطروحة. وأخيرًا، "حزب التحرير الإسلامي"، الذي يمتّ بصلة قليلة إلى مدينة طرابلس.
قبل رحلاتي الميدانية هذه إلى طرابلس، أتعرف على باحث فرنسي اسمه ميشال سورا. ولد في تونس، وعاش فترة في سورية، حيث تعرف إلى زوجته ماري الحلبية، ويتكلم العربية بطلاقة، وبلهجة سورية. يعيش في لبنان منذ مدة، ويعدّ بحثًا عن المجموعة الإسلامية الثانية، موضوع دراستي، أي حركة التوحيد الإسلامي بزعامة الشيخ سعيد شعبان. ميشال سورا هو بمثابة أستاذي المشرف على أطروحتي. يدلني على أصول البحث الميداني، يناقشني بالأسئلة التي سأطرحها على مسؤولي وأفراد المجموعات الإسلامية، يساعدني على الفرز بين الغث والسمين في المراجع الأرشيفية التي وضعتها الجماعة الإسلامية في تصرفي.




يحاول أن يهدئني، أن يعقّلني، بعدما يطردنا الشيخ سعيد شعبان من بيته، إذ لم يستسغ الشيخ سعيد شعبان أسئلتنا حول الحركة الإسلامية الائتلافية التي يترأسها. يصفها بـ"الأسئلة التجسسية"، ويتهمنا، أنا وميشال، بأننا نعمل "لمصلحة المخابرات الأميركية"، صارخًا في وجهنا "سي آي أي...! سي آي أي...!". وميشال، أيضًا، يصحّح الفصل الأول من أطروحتي، يضع عليه الملاحظات، ولا يضيق مني عندما أقول له إنني لم أفهم بعضها. وأتقاسم معه أهوال الطريق الساحلية من بيروت إلى طرابلس، مئة كلم ملغومة بحواجز ثابتة أو طيارة لميليشيات الخطف والابتزاز. أغطّيه أمام الحواجز الإسلامية، بأن أكون أنا السائقة، وأتقدم ببطاقة الهوية، التي تثبت أنني "مسلمة". وينشرح حمَلة الأسلحة عندما يكلمهم ميشال بالعربية، بشعره الأشقر وعيونه الزُرق وسحنته الأوروبية الخالصة.
ـ تعالوا اسمعوا يا شباب...
ـ فرنسي يحكي بالعربي...!
ويعود ميشال فيغطّيني على الحواجز المسيحية، حاجز قرية البربارة، ذو السمعة الرهيبة، يكون ميشال هو قائد السيارة، يكلمهم بالفرنسية ويفيض، فينبهرون بدورهم...
ـ فرنسي بيننا...؟
ـ يا أهلًا... بأبناء أمنا الحنون!
فيتبارون على إطلاق ألفاظ فرنسية، ونحن بعد ذلك نمضي بقية الطريق ونحن نضحك... نضحك...
أحتاج إلى مكتبة إسلامية ترشدني إلى التراث الإخواني المشرقي، الأوسع من مدينة طرابلس. ينصحني ميشال بشخصية سورية مرموقة. زهير الشاويش، نائب إخواني سابق، وناشر للكتب الإخوانية والسلفية، لا يفرق هو بينها.
ـ ولكنه صعب جدًا، يضيف ميشال.... يرفض المقابلات مع أناس لم يتحقق منهم. وهو فوق ذلك يعيش في منطقة الحازمية المسيحية، بحماية أحزاب اليمين.
مغامرة الانتقال من بيروت الغربية إلى الحازمية، ليست شأنًا مستحيلًا. فهي قريبة من الضاحية الجنوبية، معدلات القصف من جهتها ليست مرتفعة، إما رفض المقابلة، أو القبول بها. أحاول وأتصل به.
بعدما أعرف عن نفسي...
ـ آه من صيدا... وما اسم الوالد؟
وكما توقع ميشال، يؤجل الموافقة، التي لا تتأخر. وعندما تكون المقابلة، يبادر إلى استقبالي أسفل الفيلا التي يقطنها، مستندًا إلى عصا، ويقول:
ـ اتصلت بمعارفي في صيدا، وسألت عنك.... واطمأنيتُ. عائلة كريمة... ولا غُبار عليك...
لا أحاول معرفة ماذا عرف عني. ألجم فضولي خوفًا من أن يغير رأيه. وهو، بعد التطمين والاطمئنان، يضيف:
ـ قالوا لي أيضا إنك يسارية...
ـ ولكنني بطلتُ.
ـ منذ متى؟
ـ منذ ستة أشهر...
ـ حسنًا... حسنًا...
وفي نهاية زيارتي الثالثة، وكانت سابقاتها تمر كل مرة بسلاسة، وبحوارات وأسئلة لا تنتهي من جانبي... وأسئلة أقل من جانبه عن رأيي بهذه أو تلك من الأشياء، قال لي:
ـ أنت امرأة لا ينقصك شيء... أخلاق وعقل وعائلة كريمة... شيء واحد تحتاجين إليه، أن تدخلي في الإخوان المسلمين...
ـ ....
ـ فكري جيدًا بالموضوع... ربما يهديك الله...
يربكني هذا الشيخ، بحسن استقباله، بكرمه في إهدائي كل الكتب التي أحتاجها من مطبعته، أو مكتبته. أهمْهم، أغيّر الموضوع، أحاول الإيحاء بأنني أؤجله... وهو يفهم جيدًا، فلا يلحّ. ويأتي الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت ليقطع التواصل معه. وليوفر عليّ عناء رفضي الانضمام إلى "الإخوان المسلمين".

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.