}

"النبيّ المُقنّع".. سيرة الاصطفاء وهوامش التاريخ

فريد الزاهي 16 يناير 2022
استعادات "النبيّ المُقنّع".. سيرة الاصطفاء وهوامش التاريخ
مسرحية "النبي المقنع" للمغربي عبد الكبير الخطيبي

يبدو أن العرب القدماء كانوا أعمق نظرًا، وأكثر موضوعية، وأحذق جدلًا، يقارعون باللسان قبل أن يلجأوا إلى السيف. ذاكرتهم فيها من الخصوبة واتساع الصدر ورحابة التأريخ الشيء الكثير، حتى إن السياسة بعد أن تعدم المتنبئ، أو الملحد، أو المرتد، وتحرق كتبه، أو تمنعها، تجد في مصنفاتهم صدى وافرًا لأخبارهم وأقوالهم ومللهم ونحلهم، ودعاويهم ومجادلاتهم. فأنت حين تعود إلى كتب الملل والنحل، أو مصنفات الطبقات والأخبار، ستجد الوافر من الحديث عن الجنس والغواية والإلحاد والردة والزندقة. وهي أمور أضحت مكبوتة، محرمة، وممنوعة في عالمنا الحديث، اللهم من بضعة كتب تؤرخ لها من باب التأريخ والتحليل. وظاهرة النبوة والمتنبئين ومدعي النبوة أكثر هذه الظواهر محطًا للنقاش والاختلاف، ومدعاة للتفكير. فنبي قريش لم يكن أول من انتسب إلى حنيفية إبراهيم، وليس أول من جاء بدعوة لتوحيد شتات العرب بقبائلهم المتقاتلة المتناحرة، المتنازعة على التجارة والطرق التجارية. والمتنبئون الحنيفيون قبله قرونًا قبل ذلك، كانوا يسعون، بدعواتهم للتوحيد والتبشير بالجنة والوعيد بالنار، وبتأكيد حقيقة القيامة والبعث، إلى التعبير عن مقاصد لا تختلف كثيرًا في جوهرها عن دعوته. وهو ما يدعو إلى تحليل تاريخي للنبوة، نجد مصادره في الكتب الإسلامية التي لحسن حظنا لم تطمس آثارها.


ادعاء النبوة وظاهرة المتنبئ
عرفت العرب قبل الإسلام، ومنذ القرن الأول قبل الميلاد، ظاهرة الحنيفية. فلقد عبد أهل اليمن إلهًا أطلقوا عليه "رب السماوات"، واعتقدوا أنه لا شريك له. وهكذا يمكن اعتبار حنيفية عبد المطلب استمرارًا لتلك الديانة القديمة، فقد تبعه كثيرون على دينه الحنيف. لم يكن الأحناف يُصنفون على أنهم يهود، أو نصارى. وكانت أركان معتقدهم أربعة: حج البيت، واتباع الحق، والإيمان على أنهم على دين إبراهيم، والإيمان بالله الواحد الأحد. وهم قد نسبوا ديانتهم تلك للنبي إبراهيم الحنفي الأول والمؤسس، بالرغم من أن علماء تاريخ كثيرين نسبوا لإبراهيم ديانة "الصابئة" (الألوسي "بلوغ الأرب"، ابن الجوزي "تلبيس إبليس")؛ وبالرغم من أن بعضهم قال إن الديانة الحنيفية فرع من ديانة الصابئة، أو أن الأحناف هم القسم المؤمن بوحدانية الله من الصابئة.
وقد اشتهر من الأحناف أنبياء اتبعهم الناس في ذلك الزمن، من قبيل قس بن ساعدة الإيادي، وسويد بن عامر المصطلقي، وورقة بن نوفل، والشاعر زهير بن أبي سُلمى. توفي قس بن ساعدة وقتًا قليلًا قبل البعثة النبوية. ويحكى أن النبي الكريم كان يستمع إلى خطبه قبل نزول الوحي عليه، بل إنه قال عنه إنه قد آمن بالبعث (الجاحظ/ البيان والتبيين). أما سويد بن عامر المصطلقي فهو أول من قال شعرًا يتحدث عن البعث والخلود والحساب والجنة والنار. وآمن بالقدر، وأن كل شيء مكتوب، ولا أحد قادر بردّ القدر. وقد قال عنه النبي بأنه لو أدركه لأسلم. وأما ورقة بن نوفل فقد آمن بوحدانية الله، وترك عبادة الأصنام والتماثيل وصور الأسلاف، غير أنه ارتد عن الحنيفية، وآمن بمزيج من المسيحية والحنيفية. ومع أنه كان كاتبًا ومرافقًا للرسول، إلا أنه توفي على دينه ولم يسلم. وكان زهير بن أبي سلمى حنيفيًا ويؤمن بالقيامة والبعث. وقد كان مختونًا ويحج للكعبة، ولم يؤمن بالشفعاء، لأن الله وحده بيده الخير، كما آمن بأن ثمة وسيطًا بين الناس العاديين وربهم هو من سيعلمهم تعاليم الله وسيكون من بين البشر.




ومن بين الأحناف أيضًا زيد بن عمر بن نفيل، وهو من أكابر العرب. وقد حرم على نفسه الأصنام، واعتنق الحنيفية، ومنع وأد البنات، وكان يبتاعهن لنفسه لتخليصهن. وكان يطوف بين القبائل العربية ويدعوها لكسر التماثيل والأوثان وعبادة الله الواحد والاتحاد تحت راية دين واحد. وكان يصعد لغار حراء في رمضان معتكفًا متأملًا متعبدًا (المسعودي، مروج الذهب). وقد عرف عنه أنه حرم أكل الميتة وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، وأي ذبائح تذبحها قريش للأوثان. وكان يحج كل عام ويقف بجبل عرفات ويلبي بقوله: "لبيك لا شريك لك ولا ندّ لك"، ثم ينزل من عرفات مردّدًا: "لبيك أنا عبدك ورقيقك" (ابن سعد، الطبقات)... وممن ادعوا النبوة أيضًا في ذلك الوقت أمية بن أبي الصلت، وكان يؤمن بالبعث ويوم القيامة، وحرم على نفسه شرب الخمر، وصام من الفجر حتى المغرب. وهو أول من استهل المراسلات بعبارة: "باسمك اللهم"، التي باتت قريش تستعملها في مراسلاتها ومعاهداتها. وحكي أنه قابل بعض أحبار اليهود، وتعرفوا فيه على بعض علائم النبوة، وصيغت أساطير عن تطهيره لاستقبال النبوة. وقد عرف ظهور الإسلام غير أنه رفض الدخول فيه. وله في يوم الحشر أبيات هذا مطلعها:
ويوم موعدهم يحشرون زمرا/ يوم التغابن إذ لا ينفع الحذر...
عند ذي العرش يعرضون عليه/ يعلم الجهر والكلام الخفيا.
وفي عصر النبي، وبعد وفاته، ظهر عدد من المتنبئين وهو لا يزال حيًا، من قبيل طلحة بن خويلد الأسدي، والأسود العنسي، ولقيط بن مالك الأسدي، وسُجاح بنت الحارث، ومسيلمة الكذاب، حتى إن النبي واجه ذلك في حديث شهير رواه الترمذي وأبو داود: "سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيئين لا نبي بعدي". وكل هؤلاء المتنبئين كانوا من قبائل غير قريش، وبعضهم من الأقاصي الجنوبية للجزيرة العربية، وكانوا يأتون بالكرامات، ويمارسون الكهانة، ويسعون إلى إقناع تابعيهم بخوارقهم. وجاءت حروب الردة لتواجه ردة القبائل العربية، ومن بينها تلك التي اتبعث دعوات المتنبئين، التي أضحت تتوسع في الجنوب.

مسرحية "النبي المقنع" نص فريد في الثقافة العربية

عبد الكبير الخطيبي ورد اسمه على النسخة المترجمة من نصه المسرحي "النبي المقنع" في تصحيف غريب بصيغة عبد الكريم الخطابي


بيد أن هذه الظاهرة ستستمر حتى العصر العباسي، بالرغم من انتفاء السياق والظروف السياسية والعقدية والثقافية التي كانت وراءها. فسيقوم رجل من خراسان يدعى هاشم بن حكيم الخراساني بادعاء الألوهية بعد قتل العباسيين لأبي مسلم الخراساني، الذي كان عونًا لهم على دحر الأمويين، والاستيلاء على الخلافة الإسلامية. وكان الرجل يضع على وجهه قناعًا، ويمارس، كما قيل، أنواع السحر والشعوذة. وحين كان يلح عليه الناس لرؤية وجهه كان يستعمل مرايا عاكسة لنور الشمس حتى يعمي الناظر إليه. ويقال إن الرجل كان أعور ذميمًا، وكان مصابًا بالجذري، لذلك اتخذ لنفسه قناعًا من الذهب. كان الرجل يقول بالرجعة، وأنه سيعود إلى الأرض لنشر العدل، وألغى الحلال والحرام، وأسقط كافة الفرائض من صوم وصلاة، وأثبت المبادئ المزدكية من إباحة المال والنساء. وكان يفرض على الناس السجود له، مفسرًا ذلك بقوله إن الشيطان استحق لعنة الله، لأنه لم يسجد لله. وكان يعتبر أبا مسلم الخراساني أفضل من النبي. وكان وراء ثورة حتى قضى عليه المهدي العباسي. وفي عام 755م، حين يئس المقنع من فك الحصار عن الحصن، جمع نساءه فسقاهن شرابًا مسمومًا فمتن، وقتل غلمانه، وأوقد تنورًا أذاب فيه النحاس والقطران وألقى بنفسه فيه بعد أن تناول السم، فاحترق واختفى وادعى أصحابه أنه لم يمت، بل رفع إلى السماء.
كان بورخيس أول من انتبه من الكتاب الأجانب للمتنبئ هاشم بن حكيم في نص بعنوان: "الصباغ المقنع: حكيم مرو"، اطلع عليه الخطيبي فأثارته هذه الشخصية، وسعى إلى مسرحته في نص مسرحي بعنوان "النبي المقنَّع"، بعد أن استقصى حياته في العديد من المصادر العربية والغربية. وقد ترجمها المسرحي والممثل المغربي الراحل، محمد الكغاط، إلى العربية عام 1997، وصدرت بتصحيف فظيع في الاسم "عبد الكريم الخطابي، عوض عبد الكبير الخطيبي"، في سلسلة المسرح العالمي الكويتية. ويبدو أن هذه المسرحية حسب تصريح الخطيبي كانت أول نص كتبه بعد أطروحة الدكتوراة، في عام 1964، غير أنها لم تنشر إلا عام 1979 في فرنسا.




يقول الخطيبي في مقدمة المسرحية: "لقد رجعت إلى أهم المصادر العربية والإيرانية لأتناول سيرة هذا النبي الذي لا بد أن الروايات المتضاربة قد كثرت حوله. وقد تعمدت أن أعيد خلق الشخصية من جديد، مراعيًا إلى حدّ ما بعض خطوط السيرة التي جاءت في كتابات المؤرخين المسلمين. وأخذت عن بورخيس فكرة اللوحة الأولى، وثلاث أو أربع جمل عن "فلسفته" عن الزمن والمايا والأبوة. وهذه الجمل اقتبستها حرفيًا". وبالرغم من أن المسرحية ترجمت منذ نهاية التسعينيات، ومع أن موضوعها خصب، فإنها لم تشخص إلا عام 2014 في مصر، من إخراج خالد توفيق، وظل اسم الخطيبي فيها محرفًا، كما في غلاف النص المترجم.
إن مسرحية "النبي المقنع" مقاربة فنية وجمالية لقضية إشكالية تجعلنا نستعيد ظاهرة النبوة في تاريخها وجغرافيتها، وفي علاقتها بالذات والقناع، كما في عمق إثارتها لقضية الألوهة والزمن والموت. وهي بذلك مقاربة مواربة لهوامش تاريخنا وثقافتنا، ولما سها عنه التاريخ بعد استتباب الرسالة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.