}

15عامًا لغياب هشام شرابي.. التحرير الذاتي كان هاجسه الدائم

سليمان بختي سليمان بختي 24 أكتوبر 2020
استعادات 15عامًا لغياب هشام شرابي.. التحرير الذاتي كان هاجسه الدائم
هشام شرابي (1927 - 2005)

مضى على غياب المفكر هشام شرابي (1927-2005) خمسة عشر عامًا. ولم يزل حضوره في الثقافة العربية راسخًا باعتباره صاحب الوعي النقدي الشقي والذي انتقل عبر طروحاته في نقد النظام الأبوي إلى النقد الحضاري ومنه إلى النهضة الشاملة.
ولد هشام شرابي في يافا فلسطين في 4 نيسان/ أبريل 1927، والده كان حاكم صلح في يافا فترة ما بين الحربين. درس في مدرسة الفرندز في رام الله. ثم انتقل إلى بيروت لمواصلة دروسه في الإنترناشونال كولدج. وفي كل هذه النشأة المدرسية كان شرابي بعيدًا عن الثقافة التقليدية حتى أنه يكتب في "صور الماضي" أنه "منذ الصغر، في المدارس الأجنبية... وكنت محظوظًا خصوصًا أني درست على مدرسين غرسوا في نفسي الثقة والشعور بالاستقلال".
التحق بالجامعة الأميركية في بيروت وتخرّج منها بإجازة في الفلسفة (حزيران/ يونيو 1948) وفي تلك الفترة عاش شرابي أول تجربة سياسية أثرت في حياته طويلًا. وبعد أن مال لفترة قصيرة إلى القومية العربية ونشر في مجلة "العروة الوثقى" في الجامعة الأميركية أول مقال له وكان بعنوان "طريق الوجوديين"، انخرط بقوة في 19/6/46 في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه أنطون سعادة (1904-1949) في ثلاثينيات القرن الماضي. وانعقدت بينهما صداقة قوية وحميمة. ويقول شرابي حول انضمامه إلى الحزب بأنه كان يبحث آنذاك "عن عقيدة ألفّ حياتي حولها، عن ذات تتجاوز الأنا الفردية وعن هوية اجتماعية تضفي على حياتي وجودًا حقيقيًا محسوسًا فوجدتها في عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي". ولكن ماذا مثل سعادة لشرابي من معانٍ وروابط: "الرجل الحديث بالمعنى الكامل للكلمة"، و"إن لقائي بسعادة كان أهم حدث في حياتي". نال الماجستير في الفلسفة من جامعة شيكاغو (1948)، وكانت رسالته بعنوان "مشكلة القيم في فلسفة هارتمن ولويس" (ترجمت ونشرت عن دار نلسن بعد وفاته عام 2008). وعاد إلى بيروت مجددًا بمهمات تنظيم صفوف الحزب وعيّن وكيلًا لعميد الثقافة فيه. ولعلّ قربه من سعادة في تلك الفترة وكان ناموس الزعيم، جعله يكتشف فيه "المفكر الفذّ والمثقف العضوي" واكتشف في كتبه "روح الحداثة والتنوير في تفكير أنطون سعادة وبخاصة في علمانيته وإيمانه بالعقل والعلوم الحديثة وحتمية التقدم البشري". عمل شرابي في تلك الفترة بشغف واندفاع وكان ماثلًا أمامه حرية المجتمع ونهضته وترسيخ هويته وتحرير الإرادة وتعزيز قيمة الإنسان وكرامته. ولكن هذه التجربة كانت قصيرة نسبيًا وانتهت بصدمة مؤلمة إذ ضُرب الحزب من قبل السلطة اللبنانية وحكم على رئيسه بالإعدام ونفذ الحكم عام 1949. وعمدت السلطة إلى ملاحقة أعضاء الحزب فقرّر شرابي العودة إلى أميركا ومتابعة دراسة الدكتوراه، وكانت بعنوان "العلاقات الثقافية بين أوروبا والعالم العربي في القرن الحادي عشر في طليطلة"، لم تنشر أطروحته ولم تترجم إلى العربية بعد.

 صورة نادرة لزعيم الحزب السوري القومي الإجتماعي أنطون سعادة في مقهى الغلاييني (فندق الموفنبيك حالياً)
يظهر فيها من اليمين سعادة، هشام شرابي، يوسف سلامة، فؤاد نجار وخالد جنبلاط  
















في ربيع 1953 تعاقد مع جامعة جورج تاون محاضرًا في مادة "تاريخ الفكر الأوروبي الحديث" واستمر أستاذًا فخريًا فيها حتى وفاته في بيروت عام 2005.
عاش هشام شرابي في عزلة أكاديمية في السنوات الأولى من تدريسه بالجامعة وكان قد قطع صلته بالحزب بعد اغتيال المالكي عام 1955 في دمشق. كان منهمكًا ببعض الأبحاث الأكاديمية المتعلقة بالمحاضرات التي يلقيها. أخرجته حرب 1967 من عزلته الأكاديمية فانهمك بدراسة أسباب الهزيمة والتخلف والبحث عن العوامل التي تؤثر في الصراع العربي الإسرائيلي. وفي فترة لاحقة كان قريبًا من منظمة التحرير الفلسطينية وخصوصًا من خليل الوزير "أبو جهاد".
كانت في حياة هشام شرابي ثلاثيات كثيرة.
في المدن: يافا التي كلما تنشق زهر الليمون ذكرته بطفولته فيها. وعكا: "أجمل مدينة رأيتها في حياتي. لم أجد مكانًا آخر يماثلها زرقة وبياضًا... عكا هي ذاكرتي عن الوطن". وبيروت "الرائعة في أزرق سحرها وأخضر أشجارها وأحمر قرميدها".
وفي ضميره: فلسطين وأنطون سعادة وهمّ المجتمع العربي.
وفي كتبه الفكرية: "النقد الحضاري" (1990) و(2005) و"النظام الأبوي" مترجم (1987) و(2000) بترجمة موفقة من محمود شريح، و"مقدمات لدراسة المجتمع العربي"، في خمس طبعات آخرها (نلسن، 1999).
وفي كتبه الأدبية: "الجمر والرماد" (1978)، و"الرحلة الأخيرة" (الدار البيضاء 1988)، و"صور الماضي" (1993) (1998).


كان أكثر ما استحوذ على شرابي هو تحقيق الحداثة في المجتمعات:
عقلنة الحضارة وعلمنة المجتمع.




وفي كتبه عن القضية الفلسطينية: "المقاومة الفلسطينية في وجه إسرائيل وأميركا" (بيروت 1970)، و"الفدائيون الفلسطينيون صدقهم وفاعليتهم"، و"نصوص ومقالات عن القضية الفلسطينية" (2001).
وفي كتبه عن العالم العربي: "الحكومات والسياسات في الشرق الأوسط في القرن العشرين"، و"القومية والثورة في العالم العربي"، و"الدبلوماسية والاستراتيجية في الصراع العربي الإسرائيلي".
وفي كتبه عن الثقافة والمثقفين: "المثقفون العرب والغرب" (1971) و(1999)، و"أزمة المثقفين العرب" (2002) وهو آخر ما كتبه، وقد ضمنه حوارات مع عمرو عبد السميع وصقر أبو فخر.
وكان يحضّر كتابًا عن دور الثقافة في العالم العربي وآخر عن رحلته إلى فلسطين بعنوان "سبعة أيام في فلسطين" عام 2004، إثر زيارة قام بها إلى فلسطين عام 2001 زمن الانتفاضة الثانية، حتى أنه لبس ثياب الممرض كي يزور بعض المناطق المحظورة. وظهرت صورته في الحوار الذي أجراه معه صقر أبو فخر (5 حزيران/ يونيو 2001، السفير) وقد عاد مفعمًا بالأمل بالجيل الجديد.
كما ترأس عام 1971 فصلية "مجلة الدراسات الفلسطينية" بالإنكليزية، وصندوق القدس منذ تأسيسه عام 1977، والمؤسسة العربية الأميركية للشؤون الثقافية عام 1979، وكان رئيسًا للجنة التنفيذية في المركز الفلسطيني للدراسات السياسية عام 1990.
أما آخر محاضرة ألقاها فكانت في نادي خريجي الجامعة الأميركية في بيروت بعنوان "أنطون سعادة: صورة شخصية عن قرب" (2004، وقبل أشهر قليلة من وفاته).
كان هشام شرابي منهمكًا في العمل لأجل تجاوز مجتمعنا أزماته فكتب في مقدمة كتابه "النقد الحضاري...": "إذا أردنا لمجتمعنا العربي أن يتجاوز أزمته المتفاقمة وأن يسترجع قواه ويدخل التاريخ فلا بدّ من القيام بعملية نقد حضاري تمكّنه من خلق وعي ذاتي مستقل واستعادة العقلانية الهادفة".
ولم يكتفِ، بل استطاع أن يساهم في تأسيس منهج علمي تحليلي ونقدي للكشف عن العوامل التي تعرقل النهوض من خلال كتابه "النظام الأبوي" وإشكالية تخلف المجتمع العربي. لا أزال أذكر في حوار مطوّل أنني حين سألته عن معوّقات الديمقراطية التي تكمن في اللاوعي الديني الموروث وفي البنية التركيبية للعائلة العربية، أجاب: "أعتقد أن العائلة العربية في الأساس ليست عائلة ديمقراطية. هناك الأب المسيطر، الرجل الملهم الفرد الذي يقود الأمة، شيخ القبيلة أو العشيرة أو الطائفة. الخطوة الأولى في التحرير تكمن في التحرير الذاتي وبدايته التخلص من عبودية الفكر المسيطر".
عندما أصدر كتابه "الجمر والرماد" (1978-1998) أثار صدًى طيبًا لصدقه وجرأته وصراحة مواجهة الذات والآخرين والقناعات. جعل من سيرته الذاتية الفكرية مصدرًا لمعرفة تطوّره الفكري ومواجهته للتحولات التي عاشها. وخرج بمعرفة عقلانية تحررية. أو كما قالت خالدة سعيد: ازدوجت لديه الذات بالموضوع.

كان أكثر ما استحوذ على شرابي هو تحقيق الحداثة في المجتمعات: عقلنة الحضارة وعلمنة المجتمع.
ولا أزال أذكر محاضرته في جامعة قسنطينة في الجزائر (2001) حين شعر أن هناك نقزة في القاعة من كلمة "حداثة" كيف استبدلها بسرعة بكلمة "التغيير الاجتماعي" فسلكت الأمور وأصاب المعنى. ورأيته يبتسم مندهشًا في مكتبة الإسكندرية عندما طرح أحد المحاضرين مفهوم "النظام الأمومي" مقابل "النظام الأبوي".

كنت قريبًا من هشام شرابي، المفكر والصديق، في سنواته الأخيرة في بيروت. أراه واقفًا على شرفة منزله قرب المنارة يتأمل بحر بيروت ويقول: "هذا البحر وهذا الهواء امتداد لبحر عكا ويافا. كم تبدو الأشياء واضحة. ليس صالحًا إلا ما نصلحه نحن. وليس فاسدًا إلا ما نفسده نحن". أو حين اتصل بي في 30 آذار/ مارس عام 2000 سائلًا عن موعد انطلاق المظاهرة في يوم الأرض لأنه يريد المشاركة. وكان في سبعينه وبدأت صحته تعتلّ.
كان هشام شرابي مفكرًا في الحرية والتنوير وأحد رموز ومعالم حركة التحرر الوطني والاجتماعي والحضاري في بلادنا. فتح الباب لمفاهيم كثيرة كي تدخل السجال والنقاش في حياتنا. ولم يطلب في مسعاه ونضاله أمرًا لنفسه بل همّه انتصار القضية وتقدّم المجتمع.
كان متصالحًا مع نفسه ومع فلسطينيته وسوريته وعروبته وانسانيته.
كان سقراطيًا يرى الحياة ببصره وببصيرته ولكنه بكلمات أدونيس "كان وطنًا آخر داخل وطنه".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.