}

"سانحة أدب من ساحة حلب".. مرآة لنهاية القرن الـ19

فيصل خرتش 12 يناير 2020
استعادات "سانحة أدب من ساحة حلب".. مرآة لنهاية القرن الـ19
"تعبر السانحة عن هواجس أبنائها المتنورين"
كتبت "سانحة أدب من ساحة حلب" لمحمّد خورشيد أفندي الكردي (143 صفحة) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهي من تحقيق محمّد كمال، ونشرتها "دار فصلت" عندما كانت حلب عاصمة الثقافة الإسلامية عام 2006.

جاءت صياغة هذا النصّ الأدبي انسجاماً مع أدبيات تلك المرحلة التي تتسم بضعف الإنتاج والركود الفكري، واستمدها من منظومة المعارف والتقاليد الأدبية التي كانت سائدة آنذاك، وهي صيغة جنينية لكلّ من الرواية والمسرح، فالنصّ عبارة عن أحاديث وحوارات تتبادلها ثلاث شخصيات، هي: الراوي، ويمثل شخصية الكاتب ذاته؛ عارف المتنوّر الحر الحريص على بلده، ويمثل الرأي الحرّ والفكر السديد؛ أبو عمرو الذي يمثل الجهل والغباء والتظاهر والخرافة وتقليد الناس.
وعن السبب الذي وضعت له هذه المقدمة، يبين ذلك رشيد أفندي بقوله: "شدة الغيرة على الشريعة المحمّدية، وزيادة الحرص على مصالح المسلمين، في زمن كثرت فيه البدع والجهل والكذب والدجل وقل الحياء في الوجوه، والنخوة من الرؤوس والشفقة من القلب، وصار الناس يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ويحطون متاعهم ومالهم بعرضهم، ويجمعون الفلوس بترك الناموس، ويهون عليهم ظلم العباد وغشهم لأجل الدرهم والدينار، ومع ذلك كنت تجد فيهم تجبراً وفظاظة وتكبراً وغلظة".
والسانحة لا تخلو من فنون السجع والبلاغة، وقد اعتذر الكاتب نفسه عن ذلك، وهي مشبعة بالأبيات الشعرية، وتدلّ على طغيان ما هو شعري على ما هو نثري، وتسيطر عليها نزعة إرشادية تتمحوّر حول الدعوة لاكتساب العلوم الحديثة.

ويستشهد بآيات من القرآن الكريم ليدعم مقولاته وأفكاره، وانتقد بعض الطرق الصوفية وما كانت تمارسه من طقوس واعتقادات تخرج بها عن السلوك الديني السليم، وتسيء إلى نقاء التصوف. والكاتب من الأشخاص المنزوين في حلب، وقد ورد ذلك في السانحة، يقول: "أفيدك أمراً غريباً، ليكون لأهل الأدب منه نصيب، وهو أني منذ حياتي أبحث عن صديق يكون لي عوناً في الشدّة والضيق فلم أجد أحداً، سوى من يحتقرني، إذا كان في القدر يعلوني، ويحسدني إذا كان في المرتبة دوني، وإذا غبت عنه بعتاب، وإن عاملته ساء ظني فيه فغاب، ومن أجل ذلك رضيت بالانفراد، واعتمدت في جميع أموري على رب العباد".
ويهاجم كذلك المشعوذين والسحرة والذين يقومون بأعمال التنجيم على لسان عارف الذي ينتقد "ما وقر في أذهان العامّة من قدرة بعض المشعوذين على استخدام الشياطين وتسخيرهم لما يبتغون من مصالح وأغراض، وكذلك ادعاء بعض المخادعين لمزاولة الكيمياء وتحويل المعادن الرخيصة إلى نفيسة وممارسة التنجيم والعلوم الروحانية".
هذه السانحة تعتبر مرآة لأوضاع حلب في نهاية القرن التاسع عشر، إنّها تعبر عن هواجس أبنائها المتنورين، ويبدو الكاتب أنه قد بالغ في نقد البداوة والتخلف العشائري، ويبدو متحمساً للإمبراطورية البريطانية، وإعجابه من حكم امرأة لهذه الإمبراطورية.
إنّه يمزج الجد بالهزل والنثر بالشعر والفصحى بالعامية، والألم بالسخرية وينهج في أسلوبه منهج السجع، ويصوّر الجهل والغرور عند العامّة، وينظر إلى الحضارة الأوروبية، فيقول: "إنّها يجب أن تكون المثل الأعلى لنا، فنقبل على العلم ونروّج للصحافة، وننشر الصنائع الغريبة والمبتكرات العجيبة، وبدائع الآداب ومفاكهات الكتاب وحسنات المسيء فيرتد عن إساءاته، ونسعى إلى إيجاد الألفة بين الناس، وتحاببهم على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم".
تعتبر هذه السانحة وثيقة هامة لتاريخ المنطقة الاجتماعي والفكري والسياسي ضمن نصّ يندرج في النزعة النقدية الوعظية والإرشادية.

مقالات اخرى للكاتب

سير
27 مارس 2024
سير
10 مارس 2024
يوميات
7 مايو 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.