}

"مومو": الشاعر المتصوّف الذي "جننته" قصبة الجزائر

بوعلام رمضاني 22 مايو 2019
يحيلنا ذكر اسم حيمود براهيمي، أو مومو، حتماً على حقيقة فشل الجزائر ثقافياً وسياسياً بكل المعايير، لأن شاعر وحكيم القصبة مات ولم يستفد منه الحكم الفاسد للتعريف بأشهر الأحياء والمعالم التاريخية والحضارية والثورية الجزائرية التي تركت للبشرية إحدى أروع صور الكفاح البطولي من أجل انتزاع الحرية والكرامة والعزة. ولعل فيلم "معركة الجزائر" العالمي الذي صوره المخرج الإيطالي الكبير جيلو بونتكورفو في قلب القصبة البطلة خير دليل على صحة الأهمية القصوى التي يكتسيها الحديث عن مومو ابنها البار وسفيرها في الداخل والخارج. وفي كتاب "الكلمات... الفعل... والخطاب" الصادر باللغة الفرنسية عن دار الإبريز التي تديرها الصحافية السابقة سميرة بن دريس أولبصير في العاصمة الجزائرية، نكتشف حجم الخسارة الثقافية التي منيت بها الجزائر بعد رحيل شاعرها وممثلها وفيلسوفها المتصوف فوق الأرض وتحت الماء، ومجنونها الواعي الذي أفنى حياته ممجدا الحي التاريخي الذي أصبح مرادفا لخراب سياسي شامل شهد عليه الراحل، والذي يعود اليوم في شكل شبح ليطارد ويلعن السلطة الفاسدة التي رأت فيه مجنونا خطيرا يجب تحييده، وهذا ما فعلته في ابنها المبدع في الظل وتحت الشمس.
لأن التاريخ يمهل ولا يهمل، ليس من المصادفة أبداً أن يلاحق مومو وينتفض بذاكرته المغتصبة ليشارك اليوم من قبره في استكمال مسار ثورة أكلت أبناءها بعد استقلال أضحى شكلياً، ولم تحقق أمنيات شهداء ضحوا بحياتهم من أجل جزائر حرة ديمقراطية كما يهتف حتى الساعة في عز شهر رمضان ملايين المتظاهرين السلميين عراة الصدر وعطشى وجوعى تحت شمس لافحة راسمين للعالم أجمل لوحات وصور التحدي والإباء والعزم تجسيدا لكرامة شعب لا يقبل عيشة الهوان والذل مهما عظم جبروت حكم جائر بكل المواصفات والمقاييس.

من إيزابيل إيبرهاردت إلى مومو
فداحة الإجحاف الذي راح ضحيته أحد رموز الجزائر الثقافية والفنية والحضارية ـ كما تم مع عدد غير قليل من مبدعيها الذين ماتوا بدورهم مهمشين ومنسيين أو منفيين بعدائية صلبة أو

بنعومة خبيثة ـ  تتجلى في اسم جان رونيه هولو، الصحافي الفرنسي الذي اهتم بالراحل مومو أكثر من أي جزائري بعد أن أودعه معظم كتاباته الفلسفية والشعرية والتأملية الميتافيزيقية قبل موته عام 1997، ولولا اهتمام الصحافي الفرنسي بالقصبة وبابنها البار مومو واستدراجه العاطفي والعقلاني للرجل تحت وطأة حبه لمهنته واختصاصه لما تحقق مشروع الكتاب الهام الذي لن يصل إلى معظم القراء بسبب النسبة السخيفة التي تطبع من الكتب في الجزائر، جيدة كانت أو رديئة (1000 نسخة في بلد تعداده 40 مليون نسمة). القصبة التاريخية والثورية التي نجت من شباك أصحاب مشروع ترميم فرنسي بقيادة المعماري الفرنسي جان نوفيل بالتواطؤ مع مسؤول فاسد، وقعت هذه المرة في قبضة فرنسي غير متآمر ويشكر ولا يلام ما دام قد خلد مومو رمز ذاكرة القصبة بشكل رائع بعد أن خلد الكاتبة إيزابيل إيبرهاردت (1877ـ 1904) التي ماتت هي الأخرى متصوفة وهائمة في صحراء الجزائر البديعة. فبعد تجربة صحافية طويلة مكنته من الكتابة في عدة صحف فرنسية ومن بينها صحيفة "ليبراسيون" التي تأسست عام 1973، وعمله كصحافي متعاون مع مجلتي "دفاتر السينما" و"جيو" اللتين نشر فيهما عدة تحقيقات، تفرغ الصحافي الفرنسي لمتابعة تاريخ خطى الكاتبة إيزابيل إيبرهاردت بالاشتراك مع ماري أوديل دولاكور فخلدها في ثلاثة مؤلفات صدرت تباعا في باريس، وهي "رمال.. رواية حياة إيزابيل إيبرهاردت" عام 1986 و"حب من الجزائر" عام 1998 و"السفر الصوفي" لإيزابيل إيبرهاردت عام 2008. وأثناء قيامه بدراسة مغامرة المتصوفة الجميلة، التقى هولو في قلب القصبة عام 1986 متصوفا من نوع آخر، ألا وهو مومو الذي توفي عام 1997 بغصة لازمته طيلة حياته بسبب سلطة همشته وشككت في صحته العقلية، كما شكك فيه عامة الناس من أبناء القصبة بدل توظيفه كشاهد على تاريخ الحي التاريخي وكمرشد سياحي وكشاعر عكس جنونه المفترض أو المتخيل في شعر بديع، وحتى كرياضي افتتن بالغوص دون تنفس بشكل خارق مكنه من تحطيم الرقم القياسي العالمي، وهو الغوص الذي كان يوظفه كمتصوف في قاع البحر، على حد تعبير ابنته دوجة في حديثها القصير لـ"ضفة ثالثة" في المركز الثقافي الجزائري بمناسبة تقديم كتاب والدها مؤخراً.

المنتقم من السلطة في قبره
الجميل والمثلج للصدر في سياق صدور نصوص مومو الشعرية والفلسفية الصوفية والميتافيزقية بقلم الصحافي الفرنسي المذكورـ والذي سيعده صحافيو الفساد متآمراً على الجزائر ربما مثل كاتب المقال ـ اكتشاف القارئ العربي والجزائري لمعارض سياسي وثقافي ينتقم ميتا في عز ثورة الكرامة والحرية الجارية من السلطة التي ردت على عدائه غير المعلن وعلى خطورة وجوده الجمالي بتهميشه وتركه يهيم بحبه للقصبة البطلة التي أقصت أمثاله ليبقى عبرة لكل من يريد مواجهة رجال رداءتها التي أضحت عارية أمام الداني والقاصي أكثر من أي وقت مضى. إنه الانتقام الذي يشمل كل المبدعين الذين رفعوا صوت الجزائر عاليا بعيدا عن الوطن الذي طردهم بعد أن دفعوا إلى المنفى أو أولئك الذين قاوموا في الداخل وعانوا من رجال الرداءة والفساد والعمالة المحلية حتى آخر يوم من حياتهم، من أمثال عبد الحميد مهري صاحب المقولة الشهيرة: "للرداءة رجالها". ويشاء القدر أن ينبه الشاعر والفنان الممثل والفيلسوف الشعبي والصوفي إلى انحراف الحزب الذي حكم العسكر باسمه مثله مثل السياسي

الكبير عبد الحميد مهري الذي عاش اغتصاب حزب جبهة التحرير الخارج من رحم ثورة تحررية نادرة حولت عن مجراها فأضحت وكر فاسدين كبار ندد بهم مومو، كما جاء في مقدمة الكاتب الذي أخرجه من قبره حيا ليعيش ثورة شعبه الثانية التي اندلعت بشكل ما زال يبهر الأصدقاء والأعداء والأعدقاء عالميا وعربيا في عز شهر الفضيلة والتطهير الروحي الشامل.
وكتب الصحافي عن مومو المعارض غير السياسي بشكله التقليدي في الصفحات الأولى للكتاب: "أما رجال السلطة فكانوا لا يولون أدنى اهتمام به لكنهم كانوا يراقبون تحركاته بسرية. مومو لم يكن لطيفا حيال المتملقين للسلطة والذين قال عنهم: رؤوسهم مليئة بالإسمنت المسلح الذي بنوا به فيللاتهم الفاخرة". وأضاف الكاتب يقول على لسان الشاعر الميت الحي: "لقد كتب عام 1990 عن حزب جبهة التحرير: ألم نفهم بعد أن حروف "أفلان" قد أصبحت هيكلا عظميا؟ وألم ترتكب جرائم كثيرة باسمه؟ ألم يفشل في قيادة الأمة نحو السلام السياسي وألم يخربها اقتصاديا؟".
مومو الذي اشتهر في حي القصبة التي لم يخلدها أحد مثله في شعر تجهله النخبة المخملية ويعرفه  مجانين  السينما الذين شاهدوه في فيلمي "ريح الجنوب" للمخرج الكبير محمد الأخضر حامينا  و"تحيا يا ديدو" للمخرج الكبير الراحل محمد زينات، هو مومو الذي أهدى قصيدة شعرية عن القصبة للكاتب ولرفيقة حياته ماري أوديل دولاكور ظهر اليوم الذي تعرف إليهما في المتحف السينمائي عام 1986، ومن يومها لم ينقطع التواصل بين هذا الزوج الفرنسي وشاعر القصبة حتى آخر أيام حياته الحافلة بعطاء أدبي وإنساني لا يعرفه شباب اليوم وحتى عدد كبير من المثقفين النخبويين.   

صوفيّ في باريس الوجودية
متحدثاً عن تاريخ وسياق علاقته الشخصية والمهنية بالراحل مومو أو "الكنز المخفي" كما وصف نفسه مستلهما حديثا نبويا كتب الصحافي الفرنسي يقول إن "كلمات وفعل وخطاب" حقيقة فكرية وأدبية وروحية غير مسبوقة أبهرته في أول لقاء ببيته الأندلسي العتيق بقلب القصبة، وهو اللقاء الذي غير مجرى حياة الكاتب ورفيقة دربه بسبب اكتشافهما سر رجل أحب القصبة بحكمة صوفية وبعاطفة شعرية وبعقلانية متبصرة لا تتناقض مع إيمان ديني يتعارض مع توجه الزوج اليساري. ومومو لم يكتشف الصوفية في القصبة التي خلدها شعريا لكن في باريس وجودية سارتر بين السنوات 1945 و1951، وهي السنوات التي اعتنق فيها الصوفية وليس الإنسانية المادية كما كان متوقعا بحكم تجارب مثقفين وفنانين وكتاب وقعوا في أسر الثقافة الفكرية التي كانت مسيطرة في بلدان أجنبية عاشوا فيها مدة طويلة أو متوسطة. في باريس الوجودية الملحدة، أصبح مومو مؤمنا صوفيا متأثرا بميشال فالزو، المرشد الروحي المعروف والمترجم الأول لابن عربي، والذي دفعه إلى قراءة مؤلفات رونيه غينو، شيخ الشيوخ كما يصفه المصريون على حد تعبير الصحافي الفرنسي. مومو لم يجسد صوفيته فوق الأرض فحسب بل غاص بها في أعماق البحر على مرأى الصيادين الذين كانوا يعلقون ضاحكين أثناء تواجده في قاع البحر لأكثر من عشر دقائق: "إنه يلعب الورق مع الله"، وبحسب الكاتب فإن مومو "الرجل السمكة" كان صاحب قلب عجيب يخفق بمعدل 45 دقة في الدقيقة، مثله مثل فوستو كوبي بطل العالم في سباق الدراجات، والماراثوني العالمي إميل زاتوبيك، ولولا هذه القدرة الخارقة لما استطاع أن يحطم في مسبح لا بوت أوكاي بباريس رقما قياسيا عالميا في السباحة تحت الماء. مومو الذي يصفه البعض بالمجنون لأنه يحدث نفسه أحيانا في قارعة الطريق يتباهى بجنونه بقوله: "ألم يوصف الأنبياء بالمجانين؟ أنا لست نبيا، أنا إنسان يعرف ويحيا الجنون في زمن فقدت فيه المجتمعات الحكمة، وإذا كان حب الله يعني الجنون فإنني أقبل أن أكون مجنونا". وحتى يؤكد الكاتب انسجام مومو شاعر القصبة مع أقواله يستعين بقول إميل درمنغام في كتابه "عبادة القديسين في الإسلام المغاربي" فيقول: "يجب أن نعرف بأن علم الحكماء لا يتم دون ذرة من الجنون".

إلهي أنقذنا!
عوض التجول عبر أرجاء القصبة التاريخية ومعقل ثوار جزائر الحرية والكرامة بروح انهزامية وبائسة رفقة الصحافي الفرنسي هولو ورفيقة عمره، راح الشاعر مومو يحكي عنها كساحر

متفائل وملهم بعطر وعبق وروح الحي الذي سكنه طيلة حياته وكتب عنه شعرا أبهر الفرنسي التقدمي الذي لا يؤمن بالله مثل مومو المتعجب من إنسان لا يؤمن بالله ولو مازحا كما فعل مع الزوج قبل وفاته بقليل. طريقة الحديث عن القصبة أنسى الكاتب هولو خرابها الشامل ووضعها العبثي في بلد كان بإمكان حكامه تحويلها إلى بؤرة سياحية تضاهي المعالم الأثرية والسياحية والتاريخية العالمية وتدر المال الكثير بدل الاعتماد على الريع النفطي. من ديوان مومو "قصبة النور" الذي نشر في فرنسا عام 1992 اقتطف هولو مقطعا يلخص هيام شاعرها المجنون ليؤكد أن القصبة المتجذرة في عقل وقلب ابنها البار لن تموت ما دامت قد دخلت تاريخ الكلمة الشعرية الصادقة والشفافة والناطقة بحب أبدي بقي صامدا في وجه أهوال العشرية السوداء التي حولت قصبة مومو إلى موطن رعب لم يغير شيئا من شجاعة ابنها الرافض للاستسلام وللأمر الواقع، واختار الكاتب الفرنسي قصيدة أهداها مومو إلى طاغور "ليعبر عن ماهية  شاعر عاش  لنور القصبة الخالدة وحارب صناع ظلامها القدامى والجدد" قائلا: "حيث العقل يشوه والروح دون حماية، حيث الروح تنفجر لجميع الرياح وتمحى كل آثارها المكانية، حيث الفكر يقذف والغبار يخنقه، حيث النور ينطفئ والظلامي يحكم. إلهي أنقذنا من هذه الإنسانية الغادرة".
مومو شاعر ومجنون القصبة أضحى كاتبا صوفيا من الطراز العالي والمغلق على غير المتخصصين، وهذا ما شرحه باقتدار وسلاسة الكاتب الفرنسي هولو في كتاب صغير الحجم وكبير القيمة، وهو الكتاب الذي دعونا السيدة سميرة بن دريس أولبصير إلى ترجمته للغة العربية حتى يتسنى لغير الناطقين والعاملين باللغة الفرنسية في الجزائر وفي العالم العربي اكتشاف مبدع بكل المعايير العقلية رغم كل ما قيل عن جنونه المُفترض.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.