}

سلمى الخضراء الجيوسي: عاشت في النبع الحالم

راسم المدهون 27 أبريل 2023

الراحلة سلمى الخضراء الجيوسي هي فرادة النقد مثلما أيضًا فرادة البحث العميق في الشعر ومن حوله، فهذه الأستاذة الأكاديمية التي انتمت لفلسطين وصفد هي "بنت بطوطة" الترحال الذي لم يتوقف في عالم الجامعات الكبرى وكلياتها الأدبية بحثًا عن إمكانية فتح الدروب المغلقة والآفاق اللامرئية أمام الأدب العربي ومنه بالتأكيد الأدب الفلسطيني وعلى وجه أخص الشعر.

كان ذلك في عام 1986 عندما هاتفت سلمى الخضراء الجيوسي "مجلة الحرية" حيث كنت أعمل لتحدثنا عن مشروع كتابها "أنطولوجيا الأدب الفلسطيني الحديث" الذي صدر بعد ذلك عن "جامعة كولومبيا" في نيويورك ومع الإشارة للكتاب لتتحدث عن آراء لها ولبعض الشعراء الأميركيين عن بعض شعري وشعر حيدر محمود، غسان زقطان، وليد خازندار، خيري منصور، زكريا محمد، خالد علي مصطفى وعز الدين المناصرة. فيما بعد ستأتيني صور صفحات من كتاب "الأدب الفلسطيني الحديث" وفيها ترجمات لقصائدي إلى اللغة الإنكليزية مع مقدمتها التي أضاءت رؤيتها للشعر الفلسطيني والمؤثرات السياسية والاجتماعية التي عاشها وساهمت في خلق توجهاته وملامحه.

هي أيضا صاحبة كتاب الشعري الوحيد "العودة من النبع الحالم" الذي واكبت به ومن خلاله حركة الحداثة الشعرية العربية ورافقت أبرز رموزها وروادها ومنهم يوسف الخال وأدونيس وجبرا ابراهيم جبرا مثلما واكبت جهودها الصحافية والنقدية من خلال مجلتي "شعر" و"حوار" وما قدمتاه بل وما أحاط بهما من جدالات عاصفة ومن لغط لم تزل أصداؤهما حاضرة إلى اليوم وبالذات ما تشير له تلك الجدالات من اختلافات عاصفة بين تيارات سياسية متباينة أحاطت بالأدب العربي عموما وبالشعر على وجه الخصوص.

هي منهاج بحث مثلما هي عقلية منفتحة على آداب العالم وفنونه وقد نجحت إلى حدود كبرى في تأسيس وعي مختلف في النقد وبالذات حين يتعلق الأمر بسبر الأبعاد "الأخرى" للأدب وما يقف خلفه من ظلال لا مرئية تؤثر في شكل كبير وعميق على ماهية الأدب وشكله وعمق علاقته بالحياة والقراء بالذات. نقول هذا ونشير بالذات إلى تزاوج البعدين: البحث الحر والأكاديمي عند سلمى الخضراء الجيوسي، فهذه المبدعة الكبيرة والأكاديمية المرموقة نجحت في الجمع بين الروح الشعبية التي تنتمي لطفولة بدأت في صفد وترعرعت في القدس عملت في جامعات كبرى بين كولومبيا الأميركية وبين لندن والخرطوم وغيرهما من العواصم وساهمت من خلال عملها الأدبي والأكاديمي في الارتقاء بالدراسات الأكاديمية وتقريبها من العوالم الاجتماعية الشعبية وسنرى كثيرا من تمثلات ذلك التأثير في تنوع خبراتها وفي قدرتها الفائقة على التقاط منابع الشعر وتجلياته في المجتمعات العربية على نحو غير مسبوق خصوصًا وقد بلغت مؤخرًا مراحل متقدمة من السن لم تمنعها من مواكبة كل جديد ولم تجبرها كما حدث مع غيرها على التوقف والجمود عند زمن محدد وعند أدبائه وشعرائه وقد انعكس بعض هذا في ترجماتها من وإلى اللغة العربية حيث تنوعت العناوين والتجارب وحملت آفاق عوالم وأمكنة مختلفة ومتنوعة وفي الكثير من آثار الثقافات والنزعات الفردية والاجتماعية على حد سواء.

في الرهان على الشعر والأدب راهنت الراحلة على أهمية متابعة ما يجري في الواقع الاجتماعي والسياسي للشعب الفلسطيني حيث أدركت ودرست برؤية صائبة المؤثرات الثقيلة التي يقع في نطاقها الإبداع الفلسطيني وخصوصًا ما فرضه واقع النكبة من "كوابح" على الشعر والأدب ونجحت في التقاط كل ما هو فردي يرتبط بالعام الفلسطيني ويؤثر فيه ويرتبط به، وفي هذا بالذات أكاد أجزم أنها كانت من أوائل من نجحوا من النقاد في التقاط صورة الفلسطيني المبدع الفرد وعلاقة هذه الصورة بشعبه وتطورات وتفاصيل قضيته التي بدأت مسارها التراجيدي مع نكبة الفلسطينيين الكبرى عام 1948.

في حيث معها قبل أكثر من عقدين قالت لي إنها لاحظت تغييرًا كبيرًا في تجربة الراحل أحمد دحبور الشعرية و"زحف" شعرية دحبور نحو آفاق أكثر اقترابًا من الذاتية الفردية التي قالت يومها إنها تجسدت في صورة جميلة في قصائد دحبور الأولى "حكاية الولد الفلسطيني" وبالذات قصيدته "عن الأحجية والنار" ثم ابتعدت تلك الروح قليلًا لتعود وبشكل أعمق وأجمل في قصائده في مرحلة الثمانينيات.

سلمى الخضراء الجيوسي التي غادرتنا قبل أيام علم بارز من أعلام الثقافة الفلسطينية والعربية عاشت من أجل الأدب ومعه تمامًا مثلما عاشت من أجل الحياة العربية فقدمت مواكبتها الإبداعية والنقدية لتلك الحياة وأسهمت في تطوير النقد العربي وتحديث أدواته على مختلف الأصعدة وكانت خلال نشاطاتها النقدية أمينة لروح الخلق الإيجابي التي بشرتنا بها من خلال مجموعتها الشعرية الوحيدة "العودة من النبع الحالم" والتي لم تزال حية في البال والأذهان وتشير إلى مبدعة حقيقية مرت بنا وعاشت مآسي حياتنا الفلسطينية والعربية على نحو جميل وفاعل. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.