}

الشاعرة العربية والقصيدة النسوية: من أين وإلى أين؟

مناهل السهوي 31 أكتوبر 2023
آراء الشاعرة العربية والقصيدة النسوية: من أين وإلى أين؟
"القارئة" لهارولد نايت، 1910

في العديد من المرات، حين تحدثتُ عن الشعر العربي وعلاقته بالنسوية وتحرير المرأة، كان الشخص المقابل يخبرني بشكل تلقائي عن الشاعر السوري نزار قباني كمثال يُحتذى به في هذا المضمار، باعتباره أول من فتح أبواب القصيدة للمرأة وجسدها وحريتها، لكن هذه النظرة إلى الشعر كأداة نسوية شديدة القصور، فالشعر كأداة في الحركة النسوية يكاد يكون أبعد من مجرد كتابة شاعر بالنيابة عن النساء.

لا بد من النظر إلى منبع الشعر كأداة نسوية تستخدمها الشاعرات حيث لا يكتب أحدٌ بالنيابة عنهن، باعتبارهن الأمهات والأخوات والزوجات والبنات اللاتي يتعرضن، ككل النساء في العالم العربي، لأنواع واسعة من التمييز والظلم وهضم الحقوق، وليس شاعرات وحسب.

في البداية كان التحرر من الجسد

في ستينيات القرن الماضي، أدركت الحركة النسوية في الغرب الحاجة إلى وحدة النساء، وكان الشعر طريقة ممتازة لتحقيق ذلك ولسرد قصص النساء ووصف طبيعة الوعي الأنثوي والمعاناة التي يخضنها في حياتهن اليومية، في النهاية وحد الشعر النسويات في قضاياهن المختلفة، ونشر جزء من الشعر الذي كتب حينها في مختارات للوصول إلى جماهير أوسع، وظهرت شاعرات موهوبات مثل مايا أنجيلو، وأودري لورد، وموريل روسيكر، وهوجمن بشدة من قبل الذكوريين الذين حاولوا تشويه سمعتهن في كثير من الأحيان. في النهاية كان للشعر النسوي تأثير في نضال المرأة في التشريعات مثل قانون المساواة في الأجور وغيرها من القوانين.

ساهم انتشار الحركة النسوية وأفكارها حول العالم في تغيير داخل القصيدة العربية، وبخاصة فيما يتعلق بالموضوع كمحاولة العديدات التحرر من القيود الجنسية، فبات من الشائع كتابة الشاعرات لموضوعات مثل التجارب الجنسية، ووصف الجسد، والكتابة الإيروتيكية، وكان ذلك أشبه ببداية التحرر من قيود القصيدة القديمة، ليس في الشكل وحسب بل بكيفية رؤية المرأة لنفسها وتجربتها الجسدية، إذ أن الجسد هو أول سلاح يستخدمه المجتمع ضد النساء.

تقول الشاعرة التونسية لمياء المقدم في قصيدتها "فستان" من ديوان "في الزمن وخارجه": "إذا منعتني من ارتداء فستان قصير/ ماذا سيبقى لنسعى من أجله؟/ ترى ركبتي النافرتين إغواء/ ولا ترى ما في القدمين من محبة/ أتعرف أني صنعت هاتين الركبتين من علب صفيح قديمة/ وعصي تركها أبي معلقة على جدران غرفته؟"

تكتب الكثير من الشاعرات العربيات المعاصرات من منظور نسوي، كتابة يمكن القول إنها ابنة التجربة بشكل خاص، تجربة غير مخطط لها ولا تخضع لقواعد أو ضوابط، وجاءت في سياق التغيرات السياسية والاجتماعية المتسارعة من جهة وانتشار الحركة النسوية وأفكارها حول العالم من جهة أخرى، ولا نتحدث هنا عن الأدب المكتوب من قبل النساء، إنما عن الشعر حين تكتبه المرأة وتكون المرأة ذاتها موضوع هذه الكتابة في إطار من الوعي النسوي.



التحرر من الأمومة المقدسة

يشير نتاج الشاعرات المعاصرات إلى تبدل حاد وواضح في الموضوعات وبخاصة التحول من الرومانسية إلى الفردية وما تحمله فردية المرأة من معاناة وظلم واضطهاد. لم تتحرر القصيدة من الشكل وحسب بل تحررت من الموضوع وأعادت صياغة القصيدة بما يتلاءم والحاجة الإنسانية للمرأة كما الحاجة السياسية والإجتماعية لها.

تحدثت الكثير من الشاعرات عن مواضيع جوهرية في حياة المرأة العربية كالزواج والولادة، وهما أمران يتوقع من كل امرأة أن تمرّ بهما، حتى لو لم ترغب بأن تكون أمًا، فالقوالب الإجتماعية تتوقع أن تكون النساء على مقاسها ومتقبلات تمامًا وبشكل أعمى لأدوارهن النمطية. تقول الشاعرة السورية هنادي زرقة في مجموعتها "الحياة هادئة في الفيترين":

"خائفةً أنْ أقعَ في مطبّ التّكرارِ/ لم أنجبْ طِفلًا/ وحين أموتُ وحيدةً كامرأةٍ عازبةٍ/ سأريحُ أبنائي المحتملين من إثْم وحْدَتي/ لم أنجبْ أطفالًا حررْتُهم من أمومةٍ طاغية..."

تفسح الشاعرة هنا مجالًا لاتخاذ قرار بشأن جسدها ورغبتها بإنجاب طفل إلى العالم. إن كتابة كل هذا لا يحتاج شجاعة وحسب بل أيضًا وعيًا نسويًّا وذاتيًا بما تريده المرأة.

التحرّر من منزل الأب

تواجه المرأة العربية، عند اختيارها لطريقة حياة مستقلة، الكثير من العقبات والمخاوف ولذلك ربما، وحتى بعد تخطي هذه العقبات، يبقى الماضي والخوف عالقًا داخل عقلها.

تقول الشاعرة المصرية إيمان مرسال في قصيدة "أمينة" من ديوانها "ممر معتم يصلح لتعلّم الرقص: "تطلبين البيرةَ بالتليفون/ في ثقة امرأةٍ تعرف ثلاثَ لغاتٍ/ وتورِّطُ الكلمات في سياقاتٍ مفاجئة/ من أين لكِ كُلُّ هذا الأمان/ كأنّكِ لم تتركي بيتَ أبيكِ أبدًا".

من المثير هذا التناقض، الذي تكاد كثيرات منا قد اختبرنه، بين حقيقة ما أصبحنا عليه من نساء متحررات، قويات مستقلات وبين حقيقة أننا قادمات من منازل ذكورية، فلم تقُل إيمان منزل العائلة أو المنزل إنما منزل الأب، مع ما يحمله هذا المنزل من قيود ومخاوف وآلام.

صورة غير كاملة للشعر النسوي العربي

قد يبدو أثر الشعر النسوي العربي غير واضح، يعود ذلك لأسباب عديدة، أولها حالة الحرب وعدم الاستقرار التي تعيشها معظم الدول العربية، انتشار التطرف، الانهيار الاقتصادي والمجتمعي، في بلدان تعاني أصلًا فيها النساء والفتيات، كل ذلك يجعل حياة النساء ومن بينهن الشاعرات أكثر صعوبة، لكن ورغم كل هذا إلا أن الأصوات الشعرية النسوية موجودة، قد تميل حقيقة إلى الفردية وهذا ليس عيبًا إنما نتيجة السياق الحالي للمنطقة العربية.

لا تزال القصيدة العربية كأداة نسوية في بداية الطريق وما زالت تدور حول مواضيع حساسة وكبيرة دون أن تقولها، كتجارب الاغتصاب أو العنف الزوجي، على الطرف الآخر تمكنت الشاعرات في الغرب من قطع شوط كبير في هذا، كتبت الشاعرة الأميركية جون جوردان قصيدة بعنوان "قصيدة عن حقوقي" تتحدث فيها عن تجربة اغتصابها لتنطلق من تجربتها وتحارب الاغتصاب ملقية الضوء على مفهوم لوم الضحية وبخاصة النساء ذات البشرة الملونة.

تمكنت الشاعرات في الغرب من قطع شوط طويل في تحويل الشعر إلى أداة وطريقة نسوية في حكاية قصصهن وهو أمر مبرر بالنظر إلى السياقات المختلفة بين العالمين العربي والغربي، إذ كان الشعر أحد الركائز الأساسية لحركة تحرير المرأة في ستينيات القرن الماضي في أميركا، وهو العقد الذي تحدت فيه عديدات من الشاعرات المفاهيم التقليدية للشكل والمضمون.

لا توجد لحظة محددة بدأت فيها الحركة الشعرية النسوية الغربية، إنما هي سلسلة من التطورات التي ظهرت على النصوص الشعرية شيئًا فشيئًا، وهو ما يبدو قريبًا لما يحدث للقصيدة العربية، لكن ربما تحتاج قصيدتنا وقتًا أطول في تشكيل هوية نسوية واضحة ومؤثرة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.