}

غسان كنفاني: المثقف الذي نحتاج إليه دائمًا

فيصل درّاج 30 يناير 2023
آراء غسان كنفاني: المثقف الذي نحتاج إليه دائمًا
غسان كنفاني (1936-1972)

أسّس غسان كنفاني أدب القضية الفلسطينية، ولم يؤسّس أدبًا فلسطينيًا. فالأول أدب وطني تحرّري المنظور، يعلو تحرّره على وطنيته، والثاني يحيل على جغرافيا وأفراد. الجغرافيا لوحدها صامتة، والفلسطينيون تعبير عام معقّد التحديد. يرتبط أدب القضية بالوطن الذي أُخرج منه الفلسطينيون، وينشغل أدب الفلسطينيين، غالبًا، بالمكان الذي سيعودون إليه. يتعيّن الإنسان الفلسطيني بالأرض التي جاء منها، وهي حقيقة أكيدة، لا بالمكان الذي يرغب في العودة إليه، وهو مجرد احتمال.
أسّس غسان أدبه على الاختلاف الجوهري، إذ ما أصاب الفلسطيني من منفى واضطهاد لم يصب غيره، وإذ أدب قضيّته، وهو منظور وكتابة وممارسة لا يمكن أن يشبه أدب غيره، وإلا كان كتابة تقليدية أضيفت إليها كلمة: فلسطيني التي تحتضن الشيطان والرحمن معًا. يترجم الفرق بين الأدبين وعيًا وطنيًا بالاختلاف، بالمعنيين التاريخي والإنساني، يؤكد أن الأدب في الحالين يتعيّن بمنظوره لا بموضوعه، والمنظور يختلف من أديب إلى آخر، بينما المواضيع مبذولة ومتشابهة. أما كيف يصاغ المنظور الفلسطيني أدبًا فله احتمالات متعددة، تنفي التقليدي بجديد غير مسبوق، أو تذيب الاختلاف الفلسطيني في مياه كتابية راكدة.
دفع الوعي الوطني بالاختلاف غسان إلى تعامل جديد مع الأدب والسياسة. هجس بدور الطليعة الأدبية في السياسة، وبدور الطليعة السياسية في الأدب. وحّد بينهما وأفرد لكل منهما مجالًا خاصًا به. الأدب، تترجم الطليعة الأولى بلغة الأدب مقولات تحرّرية، إذ الوطن هوية وكرامة، يفضي التهاون معه إلى موت ذليل، فقبور اللاجئين لا تشبه قبور غيرهم، تصبح "مزابل" في مرحلة "فساد الأزمنة"، كما حصل في لبنان بعد الخروج. وإذ المرأة تمحو الفرق بين الذكورة والأنوثة بإنسانية مقاتلة حملت، ذات مرة، اسم: "أم سعد". وقد يجعل نبض الكرامة من الصبي مقاتلًا منتصرًا، حال ذلك الصبي الأشبه بقط برّي في رواية: "ما تبقى لكم".
تفصح الطليعة الأدبية في السياسة عن مقولات تحرّرية غريبة عن النظر السياسي التقليدي المشبع بذكورية بائسة، وتأتي الطليعة السياسية في الأدب بمنظور مختلف، يلغي المسافة بين القائد والمقاد، على اعتبار أن كل لاجئ متمرد قائد وليس كل قائد ذكوري النظر قائدًا. ولعل هذا الهاجس الذي مسّه غسان في "أم سعد"، و"ما تبقى لكم"، ولم يتح له الإرهاب الصهيوني التوسع فيه، هو ما حمله على وضع مساهمته الصغيرة ـ الكبيرة عن "ثورة 1936"، التي انتهى فيها إلى نتيجة مريرة تتوالد حتى اليوم. قالت: كان يقود الذين لا يقاتلون، وكان يقاتل الذين لا يقودون. الطرف الأخير كان يقاتل مدافعًا عن الوطن وكرامة الوجود الفلسطيني، المحصّن بإرادة الفلاحين، بينما الطرف الأول المرتاح على مقعد وثير يجني من استقالته الوطنية المرابح والمصالح والمرافقين، الذين يحمونه لغير سبب، ويهتفون له من غير مناسبة. لا يزال هؤلاء الفلاحون الذين ضمّت رفاتهم أرض فلسطين، يتناتجون في "مخيم جنين"، وغيره، مدركين أن الشقاء جزء من الوجود الفلسطيني، وأن عدم القتال طريق إلى مقابر مكشوفة.








وعي الاختلاف أساس وجود الفلسطيني الحقيقي الذي عليه حق القتال من أجل استعادة حقه في أرضه المستلبة والعودة إليها. الاختلاف بلا فعل قدرية بائسة، والفعل بلا وعي تحرّري مراوحة في اللامكان. ذلك أن الفعل المختلف ينطوي على التغيّر الذاتي والتغيير، يغيّر الإنسان من صورة وضعه ويتغيّر وعيه، كفلسطيني سائر إلى حقه، ذلك أن الفعل المختلف ينطوي على تغيير الواقع والتغيير الذاتي، يغيّر الإنسان من صورة وضعه، ويتغيّر كلما رفض الواقع الذي يعيشه. فالفلسطيني هو الذي يقاتل بوعي عملي يدفعه إلى القتال. هذا ما يقيم فرقًا بين المقاتل والبندقية، فالبنادق وحدها لا تحرّر ولا تتحرّر، إن لم تكاثر الشهداء مجانًا، ذلك أن القتال فعل تحرّري إنساني يحاور تجارب التحرّر ويستفيد منها.
هل تظل "الحَمُوْلة" حَمُوْلة إن أدركت الفرق بين التمرد والخنوع؟ هل يقاتل الفلسطينيون منْ أجل نصرة تقاليد متوارثة سمتها الثبات، أم من أجل توليد كيان نوعي يرفض الفرق بين القائد والمقاد، ويتأذّى من المراتب والنظر الساكن الذي يحتفي "بالكمّ" ويدع الفروق الكيفية جانبًا؟ وعى غسان مبكرًا: أن الشعب الفلسطيني يقترب من حقوقه حين يقود ذاته حرًا ويخلع قيادات تنتسب إليه وتغايره قيمًا وأخلاقًا وسلوكًا، كما هي حال "أبي الخيزران"، الذي باع غيره من الفلسطينيين أحياء وأمواتًا في رواية "رجال في الشمس".
اشتق غسان من "الاختلاف الفلسطيني" كيان الإنسان الذي يُغيّر ويتغيّر في آن، مستلهمًا ما دعاه الإيطالي أنطوان غرامشي: "البراكسس"، حيث الفعل الجديد يخلق صاحبه من جديد، ينتقل مما كان إلى ما سوف يكونه. أقام الاختلاف والتغيّر على تميّز أقدار الفلسطيني عن غيره، الذي يقضي بسياسة جديدة في الكتابة. فكل مختلف يدعو إلى كتابة مختلفة أيضًا. حين كان الفلسطينيون في بلادهم لم يكتبوا عن هوان ومجازر المخيمات المتتالية.
لا يترجم التميّز الذي قال به غسان نرجسية صغيرة أو كبيرة مهجوسة بتمارين شكلانية، و"بتفجير اللغة"، إنما قصد نظرًا أدبيًا يضيء علاقة الفلسطيني بأمكنته المتحولة، يرصد عالميه الداخلي والخارجي اللذين يعيد تشكيلهما الاغتراب، ويرسم صورة اللاجئين في عيون آخرين ينصفونهم، تارة، ويخترعونهم تارة أخرى. يقضي اختلاف أحوال الفلسطيني بكتابة لا يحسنها غير الفلسطينيين، تأتي من تجاربهم، فعوالم السجن يسردها السجين لا غيره، ومأساة اللجوء عاشها اللاجئون لا غيرهم. تأمر التجربة الظالمة بنص يصوغه المظلومون المقاتلون وإلا كان زائفًا. نص محتمل وضروري الوجود، يوجد ولا يوجد معًا، موجود في وقائع الفلسطينيين المتعددة، ولا يوجد، لزومًا، في شكله الكتابي. نص يحتمل المجازفة والتقريب والتجريب، لا يولد دفعة واحدة إلا في صدفة سعيدة/ حزينة: متشائل إميل حبيبي على سبيل المثال. نص يجب الوصول إليه مع احتمالات التيه والإرهاق قريب من محاولة وليد الشرفا في روايته: "أرجوحة من عظام"، التي هي حكايات في قوام كوابيس وكوابيس في قامات حكايات، ومعاشة في مخيمات الفلسطينيين في الحالين.




انتقل غسان من جنس أدبي إلى آخر، وانتقل أكثر من شكل روائي إلى آخر، ألزمه أن يدع نصوصه غير مكتملة، بسبب من صعوبة المشروع، لا لضيق الوقت كما ظن كثيرون. أراد أن يصوغ الواقع الفلسطيني أدبًا بدقة "مئة في المئة"، وهو طموح ينجزه "كاتب كاتب" لا وجود له. ترك لغيره إكمال مشروع لا يكتمل، فالمأساة الفلسطينية يجدّدها ظلم المنافي والصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، مأساة مفتوحة. ولهذا، فإن الشكل الأدبي الفلسطيني المنشود لا يأتي به تاريخ الأدب ولا التعاليم النقدية الأدبية، فالوضع الفلسطيني واسع الاحتمالات، مفتوح على المجهول ربما، على "عوالم الشهداء" التي غدت جزءًا من "حياة المخيمات". وبالتالي فإن الوجود الفلسطيني صراع مع آخر، أو آخرين، وأشكالهم الكتابية صراع مع ما كتبوه وما كتبه غيرهم، وما عليهم كتابته بعد حين. وما الفلسطيني الحقيقي الذي نحتاجه في جميع الأزمنة إلا ذاك المقاتل الذي يبدأ من مصالح وطنه ويضع مصالحه الخاصة جانبًا إن لم يكن يهرب من كلمة المصالح. فالوطن قيمة عليا يدافع عنها المدافعون عن القيم لا هؤلاء المشغولون بمصالح متراكمة ومرافقات صاخبة ليس لها ضرورة.
يُقرأ غسان على ضوء زمنه، كان واعدًا وعلى ضوء زمننا الذي تناقصت فيه الوعود. قرأ زمنه من وجهة نظر وطنية، كان وطنه قريبًا منه، ونقرأه اليوم من وجهة نظره، ونردّد معه: الوطن ليس حفنة من الذكريات، إنه قضية. وهذا ما يبرهن عنه يوميًا أبطال مخيم جنين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.