}

الوجه والقناع.. من الزينة إلى جراحة التجميل

فريد الزاهي 25 أكتوبر 2022
آراء الوجه والقناع.. من الزينة إلى جراحة التجميل
(Getty Images)

 

في الوقت الذي يهتم فيه الباحثون الاجتماعيون في البلدان الغربية بقضايا اليومي ويفككون مجمل الظواهر التي استشرت مع عصر الصورة والبصري والعولمة في أوساط مختلف الفئات الاجتماعية، لا يزال الباحثون العرب يلهثون وراء قضايا صراعية كالجندر والتمثلات الثقافية وغيرها من القضايا، التي ليست في جوهرها غير صياغة جديدة للمعضلات الاجتماعية القديمة. هذا التجاهل يعود في عمقه إلى كوننا نبني تصورنا على ثنائية الجوهري والعرضي، والمستعجل والهامشي، في دراسة ظواهر مجتمعاتنا. وهو تصور يجعلنا نعتبر أن الحياة اليومية لا يمكن أن ترقى لمصاف الموضوعات الاجتماعية والأنثربولوجية الوجيهة والخصبة.
 

اليومي ومصائر التحوّلات الجارفة

حين ترجمت في بدايات الألفية كتاب مشيل مافيزولي ("تأمل العالم، الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية"، المركز القومي للترجمة)، بالكاد كان الباحثون العرب يطرحون مشكلة اليومي بتشعباته وبثقل القضايا السائلة التي تخترقه. فالتحول من متخيل الطبقات المتراصة إلى متخيل ما يسميه المؤلف "القبائل الجديدة" يخترق الطبقات كلها، أمر يتحكم بالعلاقة وبالصورة والجسد والمعتقدات الاجتماعية الجديدة المبنية على الاهتمام المشترك (الهوليغانز مثلًا). وظهور هذه الفئات الهجينة اجتماعيًا، لكن الموحدة في متخيلها وسلوكها اليومي وطقوسها الاجتماعية وشعاراتها، سوف يعلن عن ولادة ما يسميه الباحث الاجتماعي ما بعد الحداثة.

فهل يمكن اعتبار علاقة النساء (والرجال أيضًا أحيانًا) بجسدهن ومظهرهن وهيئتهن، في الزينة والتجميل، كما في اللجوء للعناية بالذات وبالأخص للجراحة التجميلية موجة قَبلية جديدة لها طقوسها الخاصة؟

حين تحدث ميشيل فوكو عن الاهتمام بالذات في محاضراته الأخيرة بالكوليج دوفرانس، كنت وأنا أستمع له قبل وفاته بقليل، أحدس أن ثمة تحولات كبرى في الفكر بدأت تمر من الاهتمام بالفكر التقليدي إلى الاهتمام بالجسد والذهنيات، يقترحه مدخلًا جديدًا لدراسة التاريخ وتصورًا مبتكرًا في العلوم الإنسانية. فإذا كانت هذه العناية بالجسد (أي بالذات) تخص المرأة بالتحديد، فإنها اليوم أضحت صناعة رائجة وقطاعًا مدّرًا للمداخيل، له عياداته ومصحاته وصالوناته الفاخرة ومجلاته المتخصصة وبرامجه التلفزيونية.

تعيش المرأة علاقة خاصة بجسدها حتى إن مظهريتها تشكل، حسب العديد من المفكرين والمحللين النفسيين، عضد "جوهرها" وكيانها. والزينة والتجميل يرتبطان لديها منذ القدم، بالعالم العربي كما بغيره، باستراتيجية مظهرية تواصلية نجد بعض الأخبار المتناثرة عنها في العديد من المصنفات العربية. فلقد بلغ التجميل أوجه لدى الرجال، في ما رُوي عن الأحوص، وهو شاعر عباسي، إذ إنه كان يدخل المسجد الحرام لا بثوب واحد وإنما بثوبين اثنين، معصْفرين مدلوكين. ولا يكتفي الرجل بهذا بل يضع على أذنه باقة من الريحان. وهو ما يدل على انزياح كبير عن الأنموذج النبوي للجسد الذكوري القائم على الفطرة والتقشف (أي الاكتفاء بالطيب والسواء والكحل). أما لدى النساء فلقد ذكرت المصادر أن الجواري كن يُجمَّلن حتى تُخفى كافة عيوب وجوههن، وكان المزين يستطيع تبديل لون بشرة السوداء منهن إلى بياض ناصع (انظر بهذا الصدد كتابنا: الجسد والصورة والمقدس في الإسلام).

هذه العلاقة بين حُسن المرأة وجمالها وبين زينتها المظهرية تؤكد أنوثتها، واهتمامها بتجميل وجهها بكافة المواد المتوفرة، ما يحول وجهها إلى مجال كنائي لجسدها ومدخل مرئي له. فإذا كان اللباس والحلي زينة الجسد، فإن مواد الزينة والتجميل تحول الوجه إلى موطن للعلاقة بالعالم والآخر، وإلى بؤرة لإعادة صياغة الهوية الأنثوية، وتوكيد للغواية والجاذبية.

هذا بالضبط ما يفسر في العقود الأخيرة تحولًا في التعبير الثقافي (بمعناه العام) يتماشى مع ظهور صناعات تجميلية خاصة بالنساء، أضحت في السنوات الأخيرة تفتح أبوابها للرجال أيضا. إن كثرة المحلات المتخصصة في الرياضات التنحيفية التي ترتادها النساء والرجال سعيًا نحو رشاقة الجسد، ومحلات التجميل والدلك، قد عوضت نزهة الأحد العائلية والحمام الشعبي الأسبوعي، وجلسات التجميل الحميمة في المنازل. كما أن المجالات النسوية العديدة والبرامج التلفزيونية، والإعلانات التي تصل هواتفنا عن تبييض الأسنان، وشفط دهون البطن، وتقويم الأسنان، وتقويم الأنف وتبييض البشرة وشد التجاعيد... باتت تفصح عن هذا البناء الجديد للجسد الذي حول الاختلاف والتعدد إلى صورة موحدة تبتغيها كل النساء، سعيا نحو الجمال الدائم وخوفا من آثار الشيخوخة، وأيضا لبلوغ الأنموذج الجمالي الذي يبتغينه.  

حين تقف المرأة بعد عملية التجميل أمام المرآة تعيش هوية جسدية جديدة، قد تمحو شروخ علاقتها السابقة بنفسها وتمنحها ثقة جديدة في نفسها (gettyimages)



من التجميل إلى صناعة الوجه

كانت الجراحة التقويمية معروفة من وقت طويل، حتى ببلداننا العربية، وتهم تقويم الأعضاء والتشوهات التي تلحق بالرجال والنساء إثر حادث عمل أو حادث سير، أو تروم تقويم التشوهات الخلقية التي تطرأ على المرء منذ ولادته. والهدف من هذا الضرب من الجراحة لم يكن التجميل بل التقويم والتخفيف من الندوب التي تلحق بالأخص الوجه. ثم جاء وقت سيادة الأنموذج الجمالي الذي أرسته السينما والإشهار والتلفزيون، والدعاية لمؤسسات التجميل ومجلات الموضة والمجلات النسوية.

تغير العديد من النساء من مَعارفنا ملامح وجههن، حتى لنكاد نجد أنفسنا أمام كائن جديد، أكثر طراوة، بملامح "متناسقة"ـ أي بوجه جديد وسمت أجدّ، يجعلنا نستقصي عن حكاية هذا التغير، فنتوصل بأنهن يقصدن بلدانا أجنبية لهذا الغرض، قبل أن نكتشف أن الجراحة التجميلية المغربية باتت اليوم تعرف تجذرا وانتشارا كبيرين.   

إذا كان التجميل الخفيف أو الكثيف أمرا بات مسلّمًا به لدى المرأة العربية، ومصاريفها في صيدليات العناية بالجسد يجاوز بكثير ما تصرفه على صحتها الجسدية والنفسية، فإنه أمر لا يخص ما يطلق عليه بالمرأة المتبرجة فقط وإنما المتحجبات أيضًا. بل إننا أضحينا نلاحظ أن ماكياج المتحجبات أشد كثافة وتنويعًا أحيانًا من النساء السافرات. فالتجميل قضية نسوية بامتياز، سوف يلتحق بها الممثلون الذكور ثم رجال الأعمال ثم المتأنثون والمتخنثون من الرجال. فصرنا نجد صالونات التجميل تجمع بين الرجال والنساء ليس بالغرب فقط بل بالمدن الكبرى العربية أيضًا.

العناية بالذات صارت أمرًا بدهيًا والزينة والتجميل والماكياج صار أمرًا عامًا، بالرغم من أن هذه العناية تظل مخصوصة إجمالًا بالنساء. والعناية بالجسد تبدأ من الطفولة إذ تُربّى البنت على التجمل في المناسبات والأعراس والأعياد، وتُنفخ فيها روح الأنوثة وهي مراهقة. بيد أن التقويم والجراحة التجميلية والعناية التقويمية أضحت أمرًا معهودًا حتى لدى المراهقات، إذ بدأنا منذ سنين نقف على ظاهرة تقويم الأسنان التي تنتشر بشكل رهيب، كما على جراحة شفط الدهون. أما شد الوجه وتنحية التجاعيد فإنه يكون معبرًا للمرأة، من سن معيّن، نحو استعادة شباب ولى، بالأخص لدى المرأة التي يفرض عليها موقعها الاجتماعي والوظيفي هذه العلاقة المظهرية مع الآخرين. إنه يمكّنها من نظرة جديدة لنفسها تستعيد بها ثقتها في ذاتها وجسدها وأنوثتها، وتتمتع بجسد جديد يمدد شبابها وقدرتها على الجاذبية.

الهوية الجديدة والهوية المضطربة

حين تقف المرأة بعد عملية التجميل أمام المرآة تعيش هوية جسدية جديدة، قد تمحو شروخ علاقتها السابقة بنفسها وتمنحها ثقة جديدة في نفسها، وتعيد لها قدرتها على التواصل، وتقلص المسافة التي أقامتها مع جسدها وذاتها. إنها تعيش جسدها ووجهها المجمَّل جراحيًا كحياة جديدة مليئة بالرضى. لكن العديد من العمليات والتدخلات الجراحية والتقويمية لا تدوم طويلًا، وتتطلب التجديد، فتغدو المصحة موطنًا جديدًا لضخ الشباب والرشاقة في جسد يغدو استيهاميًا. إن ما توفره هذه التدخلات في الوجه والجسد هو متخيل مستحدث ومصطنع لبناء الذات في قلب العلاقات الاجتماعية، وتصور جديد للنفس، غير أنه قد يخلق شروخًا مستجدة لدى الآخرين، حين يتلقون هذه التغييرات بالاستهجان أحيانًا أو بالنكران والنقد.

ثمة أحيانًا اضطرابات تنجم عن هذه التغيرات، وتخلق لدى المرأة عدم تواؤم مع الصيغة الجديدة لوجهها. إنها اضطرابات في الهوية ناجمة عن عدم القدرة على تقبل الشكل الجديد للوجه، وعدم القدرة على التعرف عليه واحتوائه في الهوية المظهرية القديمة، ما يخلق صراعًا آخر مع الذات يأتي ليعمق الخيبة التي كان المرء يحسها من جسده القديم. بل إن بعض الجراحات التجميلية قد تمنح للإنسان أحيانًا وجهًا لم يكن هو المطلوب أو المنتظر، فيعيش بذلك خيبات أخرى تنضاف لخيبات الماضي.

تنطلق الجراحة التجميلية من أنموذج للجسد والوجه ترسخه في الذهنيات وسائل الإشهار والممثلات اللاتي يتمتعن بشباب دائم حتى وهن يجاوزن الستين والسبعين عاما (جين فوندا مثلًا). إنه ضرب من "الكلوناج" يسيّد المشابهة ويدرأ الاختلاف في ملامح الوجه وتضاريس الجسد. تتذكر الصحافية الأميركية ألكس كوتشينسكي سهرة من سهرات توزيع جوائز الأوسكار بلوس أنجلوس. كانت تراقب مجموعة من النساء بَدَيْنَ لها انعكاسًا لبعضهن البعض، فكلهن شقراوات ورشيقات وذوات شفاه ممتلئة وأسنان مصطفة بيضاء وعيون واسعة وبراقة وأنوف صغيرة وضيقة، ويلبسن الألوان نفسها. ثم جاء رجل أمسك بذراع زوجته ليذكّرها بضرورة الرحيل. انتبه الرجل فجأة إلى أن المرأة تلك ليست زوجته. إن لعبة المرايا هذه أدخلت البلبلة لذهنه. فلقد كانت أولئك النساء كلهن يتشابهن ما دمن قد فقدن فرادتهن.

هكذا تغدو الصناعة التجميلية بموادها وعملياتها الجراحية بوابة لصناعة الجسد الأنموذجي، وبناء الوجه القناع، الذي يمحو هوية الشخص وفرادتها، ويعمّم لأنموذج للحُسن والجمال يكون أيقونيًا لا إنسانيًا. تلعب الصورة هنا دورًا كبيرًا في تعميم هذا الأنموذج لأقانيم الحسن والجمال، الذي يتسلل إلينا بإغراءاته من خلال شاشة هاتفنا، ويدغدغ خيبات علاقتنا بجسدنا ليوجهها نحو حل اصطناعي ينطلق من أنموذج مصطنع يلبي رغباتنا واستيهاماتنا عن مفهوم الجمال نفسه... إنه حل مصطنع يرضينا مؤقتًا غير أنه قد يخلق لدينا انفصامات جديدة تجر لنا معها خيبات أعمق. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.