}

من فلسطين إلى المكسيك.. سرقة أزياء سكان "غير مرئيين"

أحمد محسن 22 يوليه 2021
عاش البشر قديمًا على الأرض ومع الأرض، ولم يكن أحد يكترث من جاء قبل الآخر. وكانت للصوت الرهبة، فكان الرعد غضبًا، والضجيج نذير شؤم. كان الهواء مجانيًا، والماء للسماء. وكان العالم كما نعتقد اليوم برّيًا، وقد يكون أكثر توحشًا وظلامًا، إذا سلّمنا جدلًا بنهائية الأنوار كعصر مؤسس لبشرية جديدة. لكن السكان وجدوا طريقهم إلى الضوء دائمًا. وكانت أزياء سكان الأرض من الأرض، وكانوا يملكونها وتملكهم. وإذا سلبت أرضهم أمام عيونهم، دافعوا عن كل ما يتعلق بها.

أخيرًا، انتفض المكسيكيون كما انتفض الفلسطينيون قبلهم، دفاعًا عن أزيائهم السليبة. الاستعمار لا يشبع. ثمة علاقة لا يمكن تجاهلها بين شيء يشبه "نمط الإنتاج الكولونيالي" وبين دوامة القضايا المشتتة عمدًا: سرقة أرض السكان الأصليين وسرقة ثقافتهم، التركيز على طمس الهوية الجندرية المميزة للسكان الأصليين، والإفراط العبثي في مدائح المدن بطورها الما بعد نيوليبرالي.

 
المرئيون

تصريح وزارة الثقافة المكسيكية بحد ذاته ليس مهمًا، أي اتهام شركات الأزياء العالمية مثل Zara ،Anthropologie، و Patowl بالسرقة الثقافية. فهذه السرقة حدثت وتحدث على مراحل، وما تطالب به الوزارة هو مجرد إطار قانوني لتنظيم السرقة، كون التصريح يقول إن استخدام هذه الأزياء لا يعود بأي فائدة على المجتمعات صاحبتها. وبحسب اللغة المهيمنة، تمت "خصخصة" هذه الأزياء، وتم بيعها في الأسواق بهدف الكسب المالي. لكن ببذل القليل من الجهد، يتبين أن المجتمعات المسلوبة في أواكساكا، غربي المكسيك، أو سان خوان كولورادو حيث عاشت جماعة ميكستيكا، هي مجتمعات منسية، وأن الشروط المطالبة بتنظيم العالمية هي شروط رأسمالية. بيد أن ظهور أسماء الجماعات مهم، حتى لو كان التصريح هامشيًا، ويطالب بأطر قانونية لتنظيم العملية، لأنه يدل على قدرة الثقافة الهائلة على المقاومة. وإن كانت المقاومة لا تعني الربح دائمًا، فإن التطريز هو أحد الأسلحة القليلة المتبقية للضحايا. الضحايا الذين استغرقوا شهورًا في نسج ملابسهم وصناعتها، واستغرقوا قرونًا قبل الاستعمار في بناء هوية، تقوم على علاقة واضحة مع التاريخ والجغرافيا.

من أزياء Patowl (إلى اليمين) وZara (إلى اليسار) المسروقة، كما صرحت  وزارة الثقافة المكسيكية 


بعد إثارة الموضوع، ظهرت الأسماء الأصلية. إحدى الشركات نسخت تصميمًا للتطريز طوره مجتمع ميكسي في سانتا ماريا تلاهيوتولبيك. شركة أخرى سرقت من جماعة زابوتيك في سان أنتونينو كاستيلو فيلاسكو: قمصان خفيفة مع أزهار نشأت هناك، مزينة بالدانتيل ومطرّزة بدقة. التطريز اليدوي مسروق من تقنيات مجتمع "Hazme si puede" المعقدة. كل هذا يحدث لأسباب لا تخفى على العارف بألف باء الاستعمار، الذي يعتبر أن السكان الأصليين هم أشخاص "غير مرئيين"، يمكن سرقة كل شيء من حولهم، من دون التعرف إليهم، لأنهم ببساطة، غر مرئيين، وليس لأنه لا توجد "آلية قانونية" تحمي هذه المجتمعات. فمثل هذه الآلية لا وجود لها، ولن يكون لها وجود. وفيما تبدو الأسماء غريبة بالنسبة لنا، كأشخاص يعيشون في عالم ما بعد كولونيالي شديد الضيق، قد تبدو الأسماء أرحب وقعًا على أسماع أهلها أكثر مما نتصور بكثير.

يلتقي السلوك الاستعماري في غرب القارة مع سلوكه في فلسطين في نواحٍ كثيرة وهذا تقريبًا معروف. هناك مفارقات واختلافات كثيرة ولكن جوهر الاستعمار الذي يقوم على غض النظر عن وجود سكان أصليين، متشابه تمامًا. لقد كان تجاهل ثقافة السكان الأصليين حدثا دائما وظيفته الذم والافتراء، في معرض التحضير للإبادة. وبهذا المعنى، فإن سرقة الأزياء هي فعل كولونيالي بامتياز. إنها مرحلة ما بعد الإبادة، مرحل التعامل مع الثقافة كما التعامل مع الغنائم الأخرى، مع الأرض، ومع كل شيء. الحديث عن قانون يضعه المستعمِر يثير السخرية، وليس هناك قانون عادل إلا القانون الذي يرغم المستعمِر على العودة عن الاستعمار. ولا ينقص التطريز الفلسطيني شيئًا لكي يكون شوكة في عين الاحتلال. هذا الغرز المتوهج في الرداء كما هي الأشجار في الأرض. كل قرية فلسطينية تملك أنماطًا وألوانًا خاصة للتطريز، مثل أشجار السرو، النخيل، العصافير، عناقيد العنب، النجوم، وعناصر طبيعية أخرى، كما يرد في دراسات كثيرة، إضافة إلى الأشكال الهندسية. المفارقة أن الدعوى الساذجة للتمييز بين الاستعمار وبين الشركات التجارية، التي حاولت الشركات التجارية ترويجها بعد حوادث المكسيك، لا تنطلي على الفلسطينيين. يذكرون جيدًا ما قام به المصمم الإسرائيلي أفيعاد أريك هيرمان، عندما استغل مجموعة نساء فلسطينيات لتطريز رداء على النسق البدوي في عام 2017. ولم يتم إخبار النساء العاملات في الخياطة بالنقب، أن المصمم هو هيرمان، بل تعرضن لخديعة من قبل "جمعية تحسين وضع المرأة" في اللقية. كان الغرض من التصميم هو استخدامه في أسبوع الموضة في نيويورك، ودعم المصممين الإسرائيليين، وبطبيعة الحال انطلق الإسرائيليون من الفكرة ذاتها التي يعتقدون أنهم أقاموا عليها دولة: الفلسطينيون غير مرئيين. هناك من يتحدث بلغة أكاديمية تبدو في غاية الرصانة عن دور للدولة، في كبح ومنح الاستيلاء على الإرث الثقافي، لكن هذا لا ينسحب على المُستعمَرين الذين لا يملكون ترف الحديث عن القانون، وتسن القوانين ضدّ وجودهم في الأساس.

أحد تصميمات أفيعاد أريك هيرمان على النسق البدوي خلال أسبوع الموضة في نيويورك 

 

استعمار جسد المرأة

إلى جانب العلاقة القوية بين الاستعمار والثقافة، تبرز أزمة لا تقل أهمية، وهي هيمنة الخطاب الذكوري في مجتمعاتنا على خطاب مقاومة الاستعمار. فرغم أن جزءًا كبيرًا من الإرث السليب الذي نتحدث عنه على مستوى الأزياء، من المكسيك إلى فلسطين، هو نتاج عمل المرأة وجهودها، إلا أن خطاب مقاومة الاستعمار في بلادنا ما زال قائمًا على تشابك البُنى الذكورية داخل المجتمع، ما يؤدي إلى إقصاء المرأة من الدور الوطني، واستبعادها كشريك مساو في المقاومة، إن لم يكن متفوقًا على الرجل في محطات كثيرة. ولا يجب الخلط بين استغلالات الخطاب الجنساني الغربي، ومنطلقاته التي تتراوح بين سيل من المرتكزات النظرية، من الكولونيالية إلى الاستشراق وغيره، وبين الإصرار على حصر مفردة الجنسانية مثلًا بالمرأة ككائن آخر، في ظل تقديم متواصل لقضية "المرأة" كمِنة "رجولية"، من كائن "متفوق" يرفض التراجع عن تفوقه، ويحصر ما يعتبره ضعفًا بالمرأة فقط. هناك علاقة ما بين هذه العناصر الثلاثة، وهي علاقة ماثلة بالمراوحة حول الهرمية، ولّدت خطابًا يدّعي مواجهة الاستعمار، من دون قدرته على فهم قدرة الرأسمالية الهائلة والسريعة على إنتاج الأزمات وتطويعها بأزمات جديدة. فالنظام الاقتصادي العالمي الذي أمامنا، وتحضر المرأة من الناحية النظرية فاعلًا أساسيًا، ليس نظامًا بريئًا، وهو الآخر يقوم على مراوحة مرنة وسريعة، جعلت دخول المرأة إلى ميادين العمل والنضال والسياسة ضروريًا، كنتيجة لارتفاع الحاجة إلى كمية ونوعية مختلفة من العمل المأجور، بسبب تغير أنماط الاستهلاك وتطورها المضطرد.

وإن العالم الصناعي وجد نفسه أمام موجة تحولات رأسمالية هائلة، أدت في نهاية الأمر إلى ظهور تعريفات جديدة للجنوسة والجنسانية، فإن خطابنا المناوئ للاستعمار ما زال قاصرًا عن فهم العلاقة بين المفاهيم الجديدة التي ظهرت في هذه المواضيع وحولها من جهة، وبين الوتيرة الهائلة للتحولات الاقتصادية في صياغة هذه المفاهيم، وبالطبع بين التوسع الكولونيالي مع العاملين المذكورين. بعد جهد كبير، أوضحت نظريات نسوية ما بعد كولونيالية هذه العلاقة، التي تبرز إحدى تمثيلاتها في هذا الموضوع بالذات، بمحاولة ترسيخ الدور الأمومي للأمة. وفيما يبدو هذا الإصرار على "أمومية الأرض"، كمحاولة للتشبث بالأرض والدفاع عنها ضدّ الغزو الكولونيالي، إلا أنه يشكّل ترسيخًا معلنًا للدور البيولوجي للمرأة في المجتمع وخلال أي عملية مقاومة يقوم بها المجتمع. وليس غريبًا أن يستخدم المستعمِرون طمس الأدوار الأخرى، ضمن عملية طويلة ومركّبة، وأن يختفي من تأريخ نقد الكولونيالية حملات الأخيرة على المرأة تحديدًا وعلى جسدها.

 

بيّن بارثا شاترجي الأصول التاريخية للعلاقة المتوترة بين الفلاحين والدولة الحديثة



أزياء "ما قبل كولونيالية"

ثمة جانب آخر في تبرير السلب، لم يعد يكتسب صفة المفارقة هو الآخر: تقديس المدينة، والخلط المتعمد بين الفضاء العام وولادته، وبين موقع الفلاحين في التاريخ، وموقع الريف في الجغرافيا. فكثير من المصممين لا يتوانون عن تبرير سرقاتهم، بأنهم خارج هذا النقاش من أساسه عن الاستعمار (وكأنهم يجب أن يعلنوا أنهم جزء من عالم ما بعد كولونيالي لكي يصبحوا كذلك فعلًا)، ويعتبرون أن ما يقومون به هو "استلهام" من الريف، ينقلونه إلى المدينة. ويمكننا أن نطلق ما شئنا من أوصاف على المدينة الحديثة. لا تتوقف الآليات الاستعمارية على الطمس، بل تحدث الكثير من الثقوب في الخطابات المعادية لها، تفرغ هذه الخطابات الأخيرة من أي معنى جدي. تحولها إلى مصطلحات بطيئة غير قادرة على تتبع النسق العالمي. لا يلغي ذلك أن هناك ثقوبًا في الخطاب الاستعماري نفسه، لا تكفي الهيمنة العسكرية والثقافية على ردمها. أحد أبرز وجوه هذه الهيمنة تمثل بتحويل جميع المجتمعات الزراعية في الشرق الخاضع للاستعمار إلى مجرد تصورات.

فالفلاحون، لوقتنا هذا، ما زالوا يمثلون مجموع الافتراضات الثقافية التي شكلها الاستعمار عن المجتمعات المستعمَرة، كذريعة لتفسير استبدال منظومات محلية أبوية حاكمة، بمنظومة أبوية حاكمة أخرى، هي الاستعمار نفسه. في بحثه الطويل عن حركات التمرد الفلاحية الهندية، بيّن بارثا شاترجي الأصول التاريخية للعلاقة المتوترة بين الفلاحين والدولة الحديثة. وإن كان شرحه كافيًا وهامًا، فإن ما يفيدنا من هذا الشرح هو بالتحديد نقده العميق للحداثة من موقع ما بعد كولونيالي. في فرنسا احتاج الفلاحون لوقت طويل لكي يصيروا جمهوريين، وفي ألمانيا ظلّ التفسير الهيغلي مهيمنًا، والذي اعتبر الفلاحين ذوي طبيعة مباشرة، أي أنهم، بشكل ما، خارج تاريخ العقل. حتى في روسيا، كما ينبه شاترجي، بقي هؤلاء مادة دسمة لنقاش جدي وطويل لتحديد دورهم الفعلي في الثورة لحظة وقوعها، وحتى قبلها وبعدها. هناك مجموعة التباسات تاريخية متشابكة، ينسل بينها لصوص الثقافة، في عالم ما بعد كولونيالي ينسل من مرحلة إلى أخرى تحت التاريخ تارةً وتارةً أخرى فوقه. غير أن هذه الالتباسات لا تخفي الأصل. إنهم مرئيون تمامًا: السكان الأصليون، المرأة، الفلاحون. ولديهم الحق في إنتاج حداثتهم الخاصة، وألا تفرض الحداثة عليهم بحجة أنهم "غير مرئيين"، أو أنهم "غير مؤهلين للحكم". وأزياؤهم تعود لهم، لكن قدرة الحقيقة على المقاومة، لوحدها، للأسف قد لا تكون كافية دائمًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.