}

هل ما زلنا نعيش زمن الرواية فعلًا؟

فريد الزاهي 25 مارس 2021
آراء هل ما زلنا نعيش زمن الرواية فعلًا؟
جابر عصفور وكتابه "زمن الرواية"
في عام 1999، أصدر الأديب والصحافي، جابر عصفور، كتابًا مثيرًا بلغة ممهورة بكثير من الحماسة بعنوان "زمن الرواية". وكان المنطلق لهذه الدعوة التنظيرية هو حصول الروائي نجيب محفوظ على جائزة نوبل عام 1988، محطمًا "أسطورة" كبرى تعتبر الشعر ديوان العرب منذ الجاهلية. بيد أن هذه الدعوة، وهي تعارض بين الشعر والنثر، تستعيد ضمنيًا تاريخ بناء الرواية في الغرب لدى الرومانسيين الألمان، كما لدى هيجل، وخَلَفه لوكاش، وإن كانت تقوم بعملية قلب لها، انطلاقًا من اعتبارات أيديولوجية متصلة بالتاريخ الحديث والمعاصر للعالم العربي أكثر من اتصالها بالتحولات النوعية للأجناس الأدبية.



الرواية وزمن الحداثة

ثلاثية نجيب محفوظ 


ظلت الرواية العربية، كما يراها عصفور، ومنذ البداية، تسعى، في إصرار لا يلين، إلى أن تكون مرآة المجتمع المدني الصاعد، وسلاحه الإبداعي في مواجهة نقائصه، متواصلة مع تراثها السردي العربي في أبعاده المناقضة للاتباع والنقل، محاورة غيرها من روايات الدنيا العريضة التي قاسمتها الهموم نفسها. (...)، ولم تتوقف عن تجديد نفسها من هيمنة النوع الواحد، أو الاتجاه الأدبي الوحيد، أو التقنيات الثابتة. وإذا كانت الرواية الغربية قد فرضت وجودها منذ القرن الثالث عشر، من خلال أشكال أولية متحولة، فإن الرواية العربية وليد جديد بدأ بالقصة واستمر زمنًا طويلًا لا يميز بينها وبين الرواية، لا من حيث النَّفَس، ولا من حيث القوة، بالنظر إلى أن القصة تطورت أساسًا مع تطور الصحافة العربية.

الرواية، إذًا، تجسيد لفعل التحرر الخلاق. و"زمن الرواية يوجد حين يغدو التمرد على الأنساق المغلقة بداية انهيار هذه الأنساق، وحين يواجه الوعي الإبداعي ما يعوق تقدمه، وحين تتولد رغبة التحرر عارمة، وتتأصل إمكانات التحديث فارضة وجودها، وينبثق حلم العقل بمدائن المستقبل الخالية من العقل. بعبارة أخرى، إن زمن الرواية العربية هو زمن الاستنارة التي تعني أولوية العقل في إدراك المعرفة، وتقبل منطق العلم في تحديث العالم، وتحرر الفكر الذي يضع كل شيء موضع المساءلة، بادئًا من نفسه في سعيه إلى طرح الأسئلة الجذرية التي تسهم في انتقال المجتمع من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، ومن وهاد التخلف إلى ذرى التقدم". إنها الجنس الأدبي الأقدر على التقاط تفاصيل الأنغام المتنافرة لإيقاع عصرنا العربي المتغير. هكذا يمنح جابر عصفور للرواية نقيض ما منحه الرومانسيون الألمان والهيجيليون لها، باعتبارها تعبيرًا عن الوعي الشقي... ومن ثم نقدًا ضمنيًا للحداثة، وما يتصل بها.
لم يكن "حدس" عصفور بالخاطئ تمامًا، هو الناقد المتتبع بحس مرهف للساحة الثقافة العربية، والأدبية منها بالخصوص. ولا أدل على ذلك من أن مساحة الرواية عرفت من الاتساع والإقبال في العالم العربي بحيث خصصت لها الجوائز واللقاءات والندوات. وعرفت الجامعات العربية منذ أوائل الثمانينيات متخصصين في السرديات، ومفاهيم الحكي التي بنى عليها البنيويون من قبيل بارت، وتودوروف، وجينيت، وغيرهم، نظرياتهم السردية. وصار نقاد الرواية في الصحافة والجامعات أكثر عددًا وأشد "سطوة" من الروائيين أنفسهم. بل إن العديد من الشعراء تحولوا إلى كتابة الرواية، وأبدعوا فيها أحيانًا أكثر مما أبدعوا في مجالهم الشعري الأول، وحازوا تباعًا على جوائز وشهرة فاقت ما كانوا عليه.



مفارقات "زمن الرواية"

روايات "زقاق المدق"، و"القاهرة الجديدة"، و"بداية ونهاية" لنجيب محفوظ 


هل كان زمن الرواية فعلًا زمن الرواية؟ إنه سؤال بالغ الإحراج. فالحديث عن زمن الرواية في الغرب كان يرتبط في القرن الثامن عشر باعتبارها شكلًا "نثريًا متحولًا" من الملحمة بسموها الكلاسيكي، ومن ثم وليدًا منحطًا ينقل الحكي من المستوى الجمعي إلى المستوى الفردي. ترتبط الرواية في الغرب بولادة الذات، مثلها مثل الجماليات، وبولادة الفرد والتحولات المجتمعية الكبرى التي كان ذلك انعكاسًا لها. كتب جابر عصفور بكثير من التعميم: "وصف أحد النقاد الكبار الرواية الأوروبية بأنها ملحمة الطبقة الوسطى (البورجوازية) التي تكشف عن ضياع الإنسان وغربته في المجتمع الحديث"، من غير أن يحيل لا إلى هيجل، ولا إلى جورج لوكاش، والرومانسيين الألمان، وكأن في إمكانه بناء مفهوم حاسم من قبيل الذي أطلقه من غير أن يوضح للقارئ أصوله، أو كأنه صاحبه الأوحد بامتياز؛ بل ربما ليمنح لمفهومه طابعًا أيديولوجيًا (مواجهة القمع والتوق للتحرر وإرساء العقلانية) مقارنة مع الخصوبة الوجودية والتاريخية والاجتماعية والفكرية التي كان يتمتع بها مفهوم الرواية.

من ناحية أخرى، وفي الوقت نفسه الذي أصدر فيه جابر عصفور هذا الكتاب، كان رولان بارت، وفي نهاية حياته، قد تخلى نهائيًا عن تصوراته البنيوية، واهتمامه ببنية الحكاية، وكان تزفيتان تودوروف قد ترك كلية تحليل الخطاب الأدبي والسردي، ليعود إلى تاريخ الفكر والفنون الذي كان مولعًا فيه في بداياته، فيما توجه جيرار جينيت إلى مجال جماليات الفنون البصرية. وظهرت "نظريات" جديدة للتخييل والتخييل الذاتي، وانتقل البارتيون والتودوروفيون، والجينيتيون، إلى "تحليل الخطاب"، والتداوليات، منزلقين على هوى التحولات النظرية، لينتهي بعضهم في الجندريات، وما بعد الكولونيالية، والنقد الثقافي... يستبدلون حلتهم كلما ظهر الجديد، ويلهثون وراء ما يستهوي ولعهم بالجديد حتى لو كان مجرد ترتيق للقديم... بل علينا ألا ننسى أن الوقت ذاته عرف ظهور الكتابات الأكثر تأسيسًا لفكر الصورة والبصري، مع ريجيس دوبريه، وغيره، بل وظهور الكتابات الأولى التي تنظّر لعالم جديد بمحمولاته الثورية هو عالم الإنترنت. وهو ما يعني أن الأدب لم يعد أدبًا بالمعنى المتعارف عليه، وأن الرواية لم تعد تحافظ على أشكالها التقليدية. فبعد أن حطمت كيانها "الرواية الجديدة" في فرنسا (مع ألان روب غرييه، ونتالي ساروت، وكلود أولييه)، استحوذت الصورة والسينما، ثم التلفزيون، والإنترنت، عليها، لتمنحها تحولات جديدة علينا التفكير في مصيرها كجنس "أصيل".
تتجسد المفارقة الجوهرية، إذن، في هذا اللاتناسب بين "حداثتنا" المعطوبة، وبين ما بعد حداثة الآخر. والحال أننا من كافة المناحي نندرج قسرًا في هذه الوتيرة العالمية، بالرغم من أن مجتمعاتنا تعيش إيقاعات مغايرة في مستويات اجتماعية كثيرة. لقد طرح عبدالله العروي، في أواخر الستينيات، في كتابه "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، سؤالًا يمكن أن نعتبر كتاب جابر عصفور جوابًا ممكنًا عنه: "بأي صيغة فنية يمكن تمثيل هذه الوضعية الانتقالية المؤلمة والمريبة [التي تحدث عنها عصفور سالفًا]؟ كيف نكتسب شكلًا تعبيريًا يكون في آن مطابقًا للمرحلة التي نعيشها، وذا قيمة كونية حتى يفهمه كل البشر؟". وليس من قبيل المصادفة أن يتجه عبد الكبير الخطيبي، من غير ادعاء فكري، وهو السوسيولوجي المحنك، إلى أن ينجز أطروحة دكتوراة السلك الثالث عن "الرواية المغاربية". وكتب العروي بالعربية روايات اختار لها لغته "الأم"، فيما خص أبحاثه في الفلسفة والتاريخ بلغة الآخر.

لقد أدرك المفكرون العرب القلائل في أواخر القرن الماضي أن مسألة الشكل التعبيري ترتبط ببناء الذات مع الآخر وفي مواجهته، وأن مسألة الشكل التعبيري تتجاوز مستوى الأدب (كما لدى جابر عصفور) لتعانق رحابة الفكر والتاريخ والعلاقة بالذات والآخر، لا من خلال اللغة والاغتراب اللغوي فقط، كما هي الحال في الرواية المغاربية المكتوبة بالفرنسية، وإنما من خلال بناء الذات الثقافية التي غدت اليوم أعوص من أي وقت مضى.



الأشكال الجديدة للحكي ومجاوزة الجنس الأدبي
مع ظهور أشكال التواصل الاجتماعي في بداية الألفية الجديدة، بتْنا نعيش تحولًا بالغًا، لا في أشكال التواصل فحسب، وإنما في أشكال الكتابة والتواصل البصري التي فرضتها الحوامل الجديدة. لقد افتتن كثير من الكتاب، وخاصة الشباب منهم، بالقُرْبيّة التي تمثلها هذه الوسائط، كما بقدرتها على التبليغ المتزامن للمحمولات اللغوية والبصرية، وخلقها "السحري" لـ"حضور مشترك هنا والآن". ولأول مرة صارت العلاقة الإشكالية بين الصورة والكتابة علاقة حميمة، ولغة الكتابة متعددة تتجاور فيها الألسن والرموز اللغوية والبصرية والكاتب أو المؤلف فيها كائنًا من ضمن الكائنات لا ينماز بأي صفة اعتبارية، ولا يحتاج لناشر، أو مطبعة، أو كتاب.
وطبعًا، فما ينشره كثير من الشباب اليوم من شذرات حكائية على صفحاتهم ومدوناتهم كثيرًا ما تحظى برضانا وإعجابنا، ومعها رضى وإعجاب القراء، أكثر مما تنشره المطابع ودور النشر أحيانًا. صحيح أن الإنترنت يكون لدى البعض من هؤلاء "الكتاب" و"الأدباء" مدخلًا للنشر الورقي، غير أن طبيعة هذه الكتابات و"جنسها" و"أسلوبها" غالبًا ما يشذّ عما ألفناه من كتابات قصصية وحكائية وروائية. فلقد خلقت هذه "الشفهية الجديدة" عودة للحكي الشذري، كما نجده في "ألف ليلة وليلة"، والعديد من نصوص الرواية الجديدة بفرنسا، وسحبت البساط من تحت أرجل الكتاب الذين يعتبرون نفسهم كذلك لمجرد نشر نصوص في المطابع، إما في دور النشر، أو على حسابهم الخاص.

إن ما أضحى يولد تحت أعيننا ليس فقط أشكالًا جديدة للحكي، وإنما نمط جديد للثقافة لا يقتصر على النخبة، ولا على الاستعمال السليم للغة، والاحتراف للكتابة والنشر، وإنما على تواصلية جديدة ولّدها فضاء الإنترنت ومنحها شرعيتها. إنها ليست ثقافة "الأندرغراوند" السابقة التي كانت تتسم بشكل ما بالهامشية، بل ثقافة جديدة "أنثربولوجية" (إن صح القول) لا يملكها فقط المثقف التقليدي. من ثم، فإن هذه الأشكال الجديدة للحكي، إن لم تجعل من أشكال التواصل والسرد الآني لغة كتابة لها، بل وموضوعًا لحكيها، فإنها تفجر ممكنات جديدة للإبداع لا يمكن أن توفرها إلا تلك العلاقة الزمنية الآنية بين المبدع والمتلقي، التي لا وساطة خارجية فيها غير ذلك الفضاء الأزرق المشترك. ولقد كانت الفنون التشكيلية والبصرية من أوائل الأشكال التعبيرية التي سعت إلى تملك هذا السند الجديد، فاستوحت زمنيته وفضائيته الجديدة، وجعلت منها واقعًا تعبيريًا مبتكرًا، فصرنا نجد أنفسنا أمام توجهات تعبيرية بصرية جديدة من قبيل "الفن الرقمي"، وفن "ما بعد الإنترنت"، وغيرهما من التحولات الفنية التي وسعت من آفاق الفنون المعاصرة، مجاوزة بذلك لا فقط "اللوحة التقليدية" وإنما أيضًا ما عرف في الثمانينيات والتسعينيات بفن المنشأة (الأنستلايشن)، والمنجزة (البرفورمانس)، التي كانت حينها سمة الفن المعاصر الجديد.

***

ونحن نطرح سؤال "نهاية" عصر الرواية، لا نفتي أبدًا بنهايته. فالفنون كلها كما أسندتها وحواملها لا تندثر أبدًا بضربة ساحر مهما كان عنف وضراوة التحولات (التكنولوجية وغيرها). فكما أن توطد عصر الصورة، كما صرح ريجيس دوبريه، لا يعني غياب الكتاب ودائرته التواصلية، فإن ولادة الأشكال الجديدة للحكي لا يعني نهاية الرواية، بقدر ما إن "سيادة" الكتابة الروائية لم يؤد إلى موت الشعر... إنها جدليات بالغة التركيب، لا يمكن إدراكها إلا بالقدر الذي ندرك فيه التحولات التي تطرأ على مفهوم الثقافة، عمومًا، والتواصل والتعبير الثقافي، والعكس بالعكس. وكما أن الطباعة أخرجت الثقافة من دائرتها الضيقة، وخلقت تحولات في سعة الأدب والثقافة وأفقهما، كذلك كان للتحولات الرقمية الجديدة بالغ الأثر في خلخلة مفهومنا الضيق للنخبة الثقافية (بل والسياسية أيضًا) ولممكنات التعبيرات الثقافية... وهي سيرورة لا زلنا نعيش بشكل حثيث ومتسارع صورها ومشاهدها، بما لا يدع مجالًا للشك في حركيتها الفعالة... تكمن المفارقة، إذًا، في الدعوة إلى سيادة الشكل الروائي، في وقت هو زمن البصري، ومنفتحاته الهائلة... فهل نحن ما زلنا نعيش زمن الرواية فعلًا وحصرًا؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.