}

العجز الديمقراطي.. هل يستمر العرب في جرّ عربة الإمبراطور؟

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 13 أبريل 2020
آراء العجز الديمقراطي.. هل يستمر العرب في جرّ عربة الإمبراطور؟
بوابة تصور 4 خيول مدفوعة بآلهة النصر الرومانية فيكتوريا
من جنوب أوروبا (إسبانيا والبرتغال) انطلقت الموجة الثالثة للانتقال الديمقراطي في العالم منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين الفائت، ثم امتدت خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، لتشمل بلدانا عديدة في أميركا اللاتينية، وآسيا، وأفريقيا، وشرق أوروبا ووسطها. في الشرق الأوسط قامت بعض النظم السياسية بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية توخّت ألا تمس جوهرياً البنية السياسية، فوفّرت هامشاً للمعارضة والتعددية الحزبية، إلا أنها سرعان ما تراجعت عنه بعد الأزمات الاقتصادية والانتفاضات الشعبية خلال سنوات الثمانينيات. دامت موجة تحررية أخرى أمدا قصيرا خلال التسعينيات. وفي أعقاب حرب الخليج الثانية أطلقت الولايات المتحدة، وبقية القوى الغربية، عملية ترويج ديمقراطي في الشرق الأوسط ودعمت الإصلاحات السياسية عبر المساعدة الديمقراطية، إلا أّن عملية ترويج الديمقراطية الغربية لم تؤد إلى الديمقراطية، بل في الحقيقة ساعدت على كبح صعودها.

عموما، بقيت آفاق التحولات الديمقراطية غير مؤكّدة إلى حد كبير في الشرق الأوسط، ونظر إلى العالم العربي على أنه يمثل استثناءً ضمن هذه الموجة من التحولات. تراجعت تلك الاستثنائية مع انطلاق انتفاضات "الربيع العربي"، لتطرح مجدّدا، وبقوة، بعد إخفاق معظمها في تفكيك بنى الاستبداد. بقيت المنطقة العربية أقّل مناطق العالم حرّية، ولا يزال السؤال المطروح: لماذا تُقاوم البلدان العربية عملية الدمقرطة، لتترسخ فيها نظم الاستبداد؟
ما تزال أسباب العجز الديمقراطي محلّ خلاف، وبرزت تفسيرات جديدة واستعيدت تفسيرات قديمة، وفي مقابل نزعة استشراقية، سادت الأدبيات الغربية حول الموضوع، أكّدت أن الاستبداد والخضوع له متأصل في الشرق، لا سيما العربي الإسلامي، قامت نظرة استشراقية معكوسة (بتعبير صادق جلال العظم) ترى أن الخلل يكمن في النموذج الديمقراطي الغربي، وأن خصوصية الشرق تجعله غير قابل للديمقراطية الغربية قبل المرور بمرحلة "المستبد العادل"، في استعادة لإحدى المقولات التي تم التنظير لها في عصر النهضة العربية.

الشرق المستبد
في الدولة الحديثة أصبحت السلطة ملكا للدولة وليس لشخص الحاكم الذي أصبح ممثلا للسلطة، ويمارسها باسم الدولة. لكن الانتقال من السلطة المشخّصة التي يتمتع بها الحاكم على أنها ملك له، ومرتبطة بشخصه، إلى مرحلة السلطة المجرّدة التي تجد مصدرها في الجماعة، لم يتم دفعة واحدة، فلم تفرّق العصور القديمة بين الحاكم والسلطة، اذ جسّد الحاكم السلطة السياسية ومارسها باعتبارها امتيازا شخصيا بفضل ما يتمتع به من مواهب وقدرات.

لم تبق نظرية المواهب هي النظرية الوحيدة لتبرير انقسام البشر الى حكام ومحكومين تعلو إرادة أولهم إرادة الآخرين، فيفسر أرسطو، ابن الاستثناء الديمقراطي اليوناني، الانقسام اعتمادا على قسمة يردها إلى الطبيعة البشرية، فالناس عنده صنفين: الناس ذوو المقاصد والغايات؛ الذوات من أحرار قادرين على استخدام عقولهم والتفكير بشكل مستقل. وهناك الناس الأدوات المسخرون لخدمة أولئك الذوات. هذه القسمة تنطبق على الأفراد في المجتمع الواحد، وأيضا بين المجتمعات؛ فهناك مجتمع الذوات (الإغريق) وهناك مجتمعات أدوات مسخّرة لخدمتهم. فالشعوب الآسيوية (يصفها بالبرابرة) هم "عبيد بالطبيعة"، يحتملون الحكم الاستبدادي دونما احتجاج. لذلك، فالاستبداد متجذّر في شعوب الشرق، وملكياتهم شبيهة بالطغيان، إلا أن "أوضاعها مستقرّة لأنها وراثية وشرعية".
انتقلت الفكرة نفسها إلى هيغل (1770 - 1831) الذي يرى أن الحكم الاستبدادي هو "نظام الحكم الطبيعي للشرق" القائم على أساس أبوي بطريركي؛ حيث يقوم النظام الشرقي على مبدأ شخص واحد حر، هو الحاكم الذي يمارس "حكمه على طريقة الأب مع أبنائه، وأن له حقوقا، لا يجوز معارضتها، لأنه أب للجميع، وطاعته واجب حتمي". ووفقا لهيغل، فإن الشعب الشرقي "ليس لديه عن نفسه إلا أسوأ المشاعر، فهو لم يُخلق إلا ليجرّ عربة الإمبراطور، وهذا قدره المحتوم". وفي هذا الشرق الناس ليس لديهم وعي بالحرية الخاصة بهم، القوانين والأخلاق تُفرض من الأعلى. وفقط الحكّام هم الأحرار. وأصبحت هذه الفكرة مركزية في الأدبيات الاستشراقية.
في السبعينيات نشر كارل ويتفوغل كتابه "الاستبداد الشرقي: دراسة مقارنة للسلطة الشمولية" قدم فيه تفسيرا اقتصاديا للاستبداد في الشرق القديم عبر نظريته الهيدرولوكية، التي تقول بأن الحضارات القديمة بنظمها السياسية قامت أساسا كضرورة لتشييد مشاريع مائية ضخمة بما تقتضيه من تمويل، وجموع غفيرة من العمال والحرفيين، وأصحاب المهن في مختلف التخصصات، وأن إدارة ذلك كله بحاجة إلى حكم استبدادي قوي قادر على فرض النظام والانضباط على الجميع، وعلى فرض الضرائب، والمكوس، والإتاوات، لتأمين مصادر التمويل اللازمة. استحدث ويتفوغل مصطلح "الاستبداد الشرقي" الذي استقاه أصلا من مقولة كارل ماركس عن نمط الإنتاج الآسيوي.

الاستثناء العربي الإسلامي
في عام 1798 أعلن مونتسكيو أن الطغيان يتناسب والدين الإسلامي الذي يتكلم فقط من خلال السيف، ويتصرّف اعتمادا على رجال بروح مدمرة تم التأسيس عليها، فمجتمعاتهم منطقة خصبة للحكم الأوتوقراطي. وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي أُعيد انتاج أفكار مونتسكيو حول الإسلام، فأكد برنارد لويس أن غياب الفصل بين الكنيسة والدولة في الإسلام يجعله غير متوافق مع الديمقراطية، وقد قامت الدولة الإسلامية على مبدأ ثيوقراطي، إذ يؤمن المسلمون بأن الله هو مصدر السلطة الشرعية والحاكم (الخليفة) يستمدها منه ومن شريعته. لذا، يخضع المسلم لسلطان هذا الحاكم دون أي مساءلة. أما إيلي كيدوري فلم يجد في التقاليد الإسلامية، وفي العالم العربي، ما يتيح أي مجال لقيام حكومة دستورية وتمثيلية، ورأى أن فكرة الديمقراطية دخيلة تماما على نمط العقل الإسلامي.
يحمّل صموئيل هنتنغتون الإسلام مسؤولية العجز الديمقراطي بالنسبة للشعوب التي تؤمن به، لما ينطوي عليه من عوائق ثقافية قوية تقف أمام عملية الدمقرطة؛ من ذلك أنه يرفض التمييز بين المجتمع الديني والمجتمع السياسي، إذ أن السياسة والقانون تنبع من العقيدة والخبرة الدينيتين، مما يجعل مفهوم الإسلام للسياسة يتعارض وأسس الديمقراطية. ويصر هنتنغتون في مقاله "صدام الحضارات" على وجود نزاع عميق بين قيم الغرب وقيم الإسلام، وأن المجتمع المسلم أكثر عرضة للعنف السياسي لأن الثقافة الإسلامية لا يمكن أن تتوافق مع الأفكار الغربية عن الديمقراطية.

يغيب عن أصحاب هذه التفسيرات الثقافية أن الثقافات ديناميكية بطبعها تاريخيا، وأن المعتقدات في المجتمع ليست مطلقة بل عرضة للتغير. وبالمثل، تمت إدانة كل من الكاثوليكية والكونفوشيوسية بتهمة عدم التوافق مع الديمقراطية، إلا أن ذلك لم يمنع بلدان أميركا اللاتينية وجنوب أوروبا أو شرق آسيا من قبول عملية الانتقال الديمقراطي. من جهة أخرى، لا يمكن عد متغير الإسلام متغيرا ذا دلالة كبيرة إحصائيا في غياب دليل على العلاقة المتلازمة بين الدين والخيارات السياسية في البلدان المسلمة. وتبين البحوث الاستطلاعية المسحية والتجريبية أن مستوى التنمية الاقتصادية هو العامل المحدد لدرجة الاستقرار (غياب العنف) في المجتمعات، ولم تجد هذه البحوث أي رابطة يمكن قياسها بين الإسلام والعجز الديمقراطي، أو بين الإسلام والعنف.
على سبيل المثال، أظهرت نتائج المؤشر العربي في نسخته السادسة (2017/ 2018) الذي نفذه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (شمل: موريتانيا، والمغرب، وتونس، ومصر، والسودان، وفلسطين، ولبنان، والأردن، والعراق، والسعودية، والكويت) أن أغلبية الرأي العامّ في تلك البلدان ترفض تكفير من ينتمون إلى أديان أخرى أو من لديهم وجهات نظر مختلفة في تفسير الدين، وأن أكثرية المواطنين يرفضون أن يؤثّر رجال/شيوخ الدين في قرارات الحكومة أو في كيفية تصويت الناخبين، كما يرفضون قيام الدولة باستخدام الدين للحصول على تأييد الناس لسياساتها، وأن يستخدم المترشّحون للانتخابات الدينَ من أجل كسب أصوات الناخبين.
وهناك دراسات ذهبت إلى المقارنة بين البلدان المسلمة ذات الأغلبية العربية وتلك ذات الأغلبية غير العربية وجدت ارتفاعا في نسبة العجز الديمقراطي في بلدان الحالة الأولى، مما دفع البعض إلى رد هذا العجز الديمقراطي إلى الثقافة العربية لا إلى الدين الإسلامي. فيذهب هشام شرابي أن أهم خاصية للمجتمع العربي هي الهيمنة القمعية للأب التي لا تقبل الجدال ضمن العائلة، وتسيد الذكر في العلاقات بين الرجل والمرأة. لا تكرر هذ العلاقة نفسها في المجتمع الأوسع وحسب بل أيضا في العلاقات القائمة بين الدولة والمواطن الحاكم والمحكوم. وهذه البنية- "السلطة الأبوية الجديدة" كما يسميها شرابي- ولدت ثقافة هيمنة وتبعية في الاجتماع والسياسة على حد سواء فالدولة العربية وبغض النظر عن بنائها المؤسساتي التشريعي ليست أكثر من نسخة محدثة عن السلطة الأبوية التقليدية.
لكن هناك باحثين يتخوفون من شرح نظام الحكم عبر العلاقات الأسرية، ويشككون في التفسيرات الثقافية التي تتعامل مع الثقافة باعتبارها متطلبا مسبقا لديمقراطية فاعلة، وبكل حال تشير الدراسات المسحية من العالم العربي إلى عدم التعارض بين الثقافة العربية والقيم الديمقراطية، وبالعودة إلى المؤشر العربي المذكور أعلاه، وهو أضخم مسحٍ للرأي العام في المنطقة العربية حتى الآن؛ سواء كان ذلك من خلال حجم العينة أو عدد البلدان التي يغطيها أو محاوره، فقد أظهرت النتائج أن هناك شبه اجماع على تأييد الديمقراطية؛ إذ عبّر 74% من المستجيبين عن تأييدهم النظامَ الديمقراطي، مقابل 17% عارضوه. وأفاد 76% من المستجيبين أنّ النظام الديمقراطي التعددي ملائم ليطبَّق في بلدانهم، في حين توافَق ما بين 61% و75% على أنّ أنظمة مثل النظام السلطوي، أو حكم الأحزاب الإسلامية فقط، أو النظام القائم على الشريعة من دون انتخابات وأحزاب، ونظام مقتصر على الأحزاب غير الدينية، هي أنظمةٌ غير ملائمة لتطبَّق في بلدانهم. ومقارنة نتائج هذا الاستطلاع بالاستطلاعات السابقة، تظهر أن انحياز الرأي العام العربي للديمقراطية لا يزال ثابتاً ويميل إلى الارتفاع.


عجز في البنية أم تعجيز خارجي؟
يستمر باحثون، أمثال إريك شاني، في البحث بين ثنايا التاريخ عن السبب الكامن وراء الاستبداد في الشرق الأوسط، فيجد أن العجز الديمقراطي في المنطقة لا يعود إلى خصائص المنطقة الثقافية والإثنية أو الدينية، بقدر ما يعود إلى توازنها السياسي الفريد الذي استقر في بلدان عربية منذ فتح الجيش العربي لها أثناء حقبة التوسع الإسلامي قبل سنة 1100 ميلادية. ويرى أن العجز الديمقراطي قد تكرّس نتيجة إرث طويل المدى للبنى المتحكمة الّتي تطوّرت مبّكرا في العالم الإسلامي. استنادا إلى فرضيته، فإن المناطق الّتي فُتحت من قِبل العرب عرفت في العادة مؤسسات سياسية وأوتوقراطية كنتيجة للنزوع إلى تبنّي إنشاء جيوش من العبيد. ولقد سمح الاستخدام الواسع لجيوش العبيد للحكام تقويض أسس قوة وسلطة النخب المحلية، ليقود بعدها إلى دمارها، وكّلما صارت القوة السياسية مركّزة بشكل متزايد في أيدي القادة العسكريين، مدعومة من قِبل جيوش العبيد، يعرف القادة الدينيون بروزا باعتبارهم الخيار الوحيد للسلطة ذات السيادة. لم ُينتج التحالف بين العسكر والقادة الدينيين مؤسسات ديمقراطية، منذ أن عملا معا بهدف تطوير وتخليد التوازن المؤسساتي "الكلاسيكي". ولكن هذه التحالفات التي يجدها شاني في التاريخ العربي وجدت في التاريخ الأوروبي أيضا، ولم تمنع بروز الديمقراطية والمحافظة عليها في أوروبا.
خضعت البلدان الشرق أوسطية والعربية للاحتلال مرات عديدة، وربما كان تأثير الاستعمار الأوروبي على المأسسة في هذه البلدان له أعظم الأثر قبل أي وقائع تاريخية ماضية. فباستثناء إيران والمغرب الأقصى وأطراف من شبه الجزيرة العربية، كانت معظم بلدان الشرق الأوسط جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وفي تلك البلدان، وفي حقبة التحديث العثمانية، بدأ تشكيل الدولة والتطور البيروقراطي. وتفكيك الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى من قبل القوى الأوروبية عطّل التطور الإداري في المنطقة.
وبينما حافظ الاستعمار في مصر وتونس على عملية تشكيل الدولة، دمّرت المؤسسات البيروقراطية والمالية العثمانية وحلت محلها المؤسسات الاستعمارية. وعمل الاستعمار على توزيع القوى السياسية بناء على مصلحته، وقسّم المجتمع للجم ظهور أي مجموعات منافسة. وتم إبقاء المجتمع المدني ضعيفا لصالح دعم الزعماء المحليين المتحالفين مع الاستعمار، ولم تحاول القوى الاستعمارية إرساء ديمقراطية حقيقية، بل هيئات برلمانية زائفة، تجاهلت الأصوات السياسية للنخب المحلية، لترث الدول العربية مؤسسات ومجتمعات مدنية ضعيفة، وهياكل مؤسسية محدودة لتداول السلطة.

 حكم العسكر
النظم الحزبية ما بعد الاستعمار حدّدت بشكل كبير نمط الأنظمة السياسية؛ ففي اليمن وتونس اتحدت النخب السياسية تحت لواء حزب واحد بهدف تعبئة الجماهير ضد الإمبريالية، ومن هيمنة الحزب الواحد تطورت دولة الحزب الواحد، وعملت النخب غير الديمقراطية على بناء أنظمة استبدادية بشكل سريع وفعال دون منافسة. في العراق والأردن ومصر وسورية كان هناك شيء من الحياة السياسية التنافسية، لكن ضعف المؤسسات أدى بها تدريجيا إلى الحكم الاستبدادي، ولعب الجيش دورا فاعلا في السياسة، وبرز بوصفه جهاز الدولة القسري الذّي يقمع أي مبادرة ديمقراطية تلوح في الأفق.

في كتابه "الجيش والسياسة: إشكاليات عربية ونماذج نظرية" يحلل عزمي بشارة العلاقة بين الجيش والسياسة، ويبيّن أن تدخل الجيش في الحكم ليس خطأ أو عارضاً من عوارض الابتلاء العربي، بل هو نتاج لمرحلة تاريخية، ولطبيعة الدولة العربية المعاصرة، وصيرورة نشوئها وبنيتها، وعملية التحديث فيها. فبعد الاستقلال برز الجيش بوصفه مؤسسة حديثة أسبق على أي مؤسسة أخرى، بل أسبق على رسوخ فكرة الدولة الحديثة ومؤسساتها. فالإدارة الاستعمارية اهتمت بشكل مباشر وسريع (في زمن قياسي لم يتعد بضع سنوات) بإنشاء الأجهزة العسكرية والشرطية، بينما بقيت عملية إرساء الدولة الحديثة عملية تدرجية امتدت على عدة عقود.
وبحسب بشارة، تم إنشاء الدولة والجيش في زمن واحد، فلم تقم دولة ناجزة المؤسسات بإنشاء هذا الجيش، واحتاجت الدولة زمنا طويلا لبناء مؤسساتها الأخرى، ولفرض شرعيتها اجتماعيا وجغرافيا، بينما كان الجيش، بوصفه مؤسسة حديثة، قد سبقها ونال شرعيته باحتكار أدوات القوة والعنف، لدرجة أن الدولة اعتمدت عليه لفرض شرعيتها عوضاً عن اعتماده هو على شرعية الدولة. واضطلعت الجيوش في الدول العربية ما بعد الاستقلال بدور في بناء الدولة وفرض تماسكها، وبدون إنجاز عملية بناء الأمة، استمر الجيش في الحكم فتحول إلى قوة قمعية تدافع عن النظام القائم وتفرض الوحدة من خارج المكونات الاجتماعية.
في نظر إيفا بيلن لا تتطلب متانة الاستبداد توفّر جهاز القهر وحسب، وإّنما تتطّلب أيضا توفّر إرادة هذا الجهاز لقمع المعارضة، لذلك تنجح الثورات حين يفقد الجهاز القمعي إرادته أو قدرته على قمع الأعداء. وترى أن المؤسسة الأمنية الأفضل مأسسةً والتي تكون فيها معايير المشاركة والتعزيز معايير عقلانية، ويكون الجيش مرتكزا على روابط بدائية للسلطة التنفيذية، هي أكثر استعدادا للسماح بحدوث إصلاحات سياسية (جيوش: مصر، تونس وتركيا تحوز درجة عالية من المأسسة)، أما الجيوش الوراثية، الأقل مأسسةً، فهي أكثر مقاومةً للإصلاحات الديمقراطية.

الديمقراطية تحت ضغط خارجي
يذهب فريدن هاوس إلى أن التغيير الديمقراطي المستدام ليس أمرا مستحيلا في المنطقة، إلا أنه يعتمد غالبا على ظروف لا يتّم تشكيلها من قِبل الشعوب وإنما من طرف تحالفات إقليمية ودولية معينة.
كان لتوسعة الاتحاد الأوروبي دور مهم في دمقرطة شرق أوروبا. ضغوط الاتحاد وحوافزه أثّرت بشكل مباشر وغير مباشر في إرساء الديمقراطية، وشمل ذلك أيضا الدول المرشّحة لعضوية الاتحاد (تركيا مثلا). كذلك وجدت دول أميركا اللاتينية دعما دوليا فعليا لتعزيز تحولاتها الديمقراطية.

بعد أحداث 11 سبتمبر، اجتاحت الإسلاموفوبيا العالم، وسعت الإدارة الأميركية لترويج الديمقراطية في الشرق الأوسط لدعم الأنظمة السياسية في مواجهة التيار الإسلامي، بوصفه تيارا شعبيا، ثم تيارا قائما على جنوح عاطفي وتصور عقائدي يصعب التحكم به وضبطه، ودعمت إجراء انتخابات حرة وإعادة إصلاح مؤسساتي، ثم لجأت إلى دعم المجتمع المدني والحقوق المدنية وحقوق الإنسان كجزء من برنامج المساعدة الديمقراطي، لكن ذلك لم يخلق تغييرا سياسيا حقيقيا في الشرق الأوسط. فعليا، لم تواجه النظم الاستبدادية في المنطقة ضغوطا أميركية حقيقية طالما كانت هذه الأنظمة تلبي مصالح الولايات المتحدة الأميركية التي كانت مستعدة لغض النظر عن الترويج للديمقراطية حين تتصادم مع مصالحها الأساسية، ولم تختلف سياسة ترويج الديمقراطية للاتحاد الأوروبي عن نظيرتها الأميركية في تقديم المصالح على الديمقراطية.
بغض النظر عن درجة الضغط الخارجي، فقد أثمرت عملية الترويج للديمقراطية عن نظام انتخابي تعددي دون ترسيخ للحريات المدنية، لذلك لم تجلب الانتخابات الديمقراطية، وبقي النظام السياسي مسيطرا على السلطة السياسية، وعبر الانتخابات استطاعت نظم الاستبداد إضعاف واحتواء المعارضة السياسية، في الوقت الذي بدت فيه قد لبّت مطالب الديمقراطية في الداخل والخارج، ولم تتردد في الانقلاب على نتائج الانتخابات في حال لم تسر العملية الانتخابية في صالحها أو لم تتح لها من إدارة النخب المتحالفة معها وتوزيعها على مفاصل الدولة. تحولت الانتخابات الى مجرد أداة في أيدي الحكام المستبدين لاستدامة النظام الاستبدادي.
لكي تكون الانتخابات ديمقراطية يجب أن تقدّم خيارات فعالة للسلطات السياسية في إطار مجتمع يتكون من مواطنين أحرار متساوين، لديهم فرص غير منقوصة، وقادرين على صياغة خياراتهم السياسية والتعبير عنها بوضوح فيما بينهم، وأن يكون لها الوزن ذاته عند اتخاذ القرارات العامة. لذلك يذهب روبرت دال إلى أن الانتخابات الحرة والنزيهة هي تتويج للعملية الديمقراطية، وليست بداية لها، فبدون تمتع الحريات الأخرى بحماية كاملة لا يمكن أن تكون الانتخابات حرة ونزيهة، وإنه لمن الخطأ أن نفترض أن مجرد أن يدعو رئيس بلد غير ديمقراطي لإجراء انتخابات سيفتح الباب على مصراعيه أمام ديمقراطية كاملة.

المستبد العادل
في استشراق معكوس، كما قدمت، يجادل البعض بأن النموذج الديمقراطي الغربي لا يتناسب وطبيعة الشرق الثقافية، ولا تاريخه السياسي، مستلهمين مقولة "لا ينهض بالشرق إلا مستبد عادل" المنظّر لها في عصر النهضة العربية، معتبرين أنه النموذج الأصلح للنظام السياسي العربي.
في كتابه "المستبد العادل" يذهب محمد عفيفي إلى أن محمد عبده (1849-1905) الذي نحت هذا المفهوم، الغريب عن فكره الرافض للاستبداد والمطالب بالحرية، لم يقدم له غطاء دينيا أو تأطيرا إسلاميا، بل رسم ملامح هذا النموذج في إطار اجتهاد عقلي ضمن سياق تاريخي سقطت فيه دول عربية فريسة للاستعمار، وفشلت فيه صيغة المثقّف الثائر، ممثلة في نموذج أستاذه جمال الدين الافغاني، ومتأثرا أثناء إقامته في أوروبا بفكرة الزعيم المصلح التي جسدها نابليون في فرنسا، وبسمارك في ألمانيا. ويذكّر عفيفي برد أحمد لطفي السيد على تلك الفكرة التي انتشرت على نطاق واسع في مقاله "حقوق الأمة" (1914)، حين رأى أن الجمع بين الاستبداد والعدل فكرة خيالية، وأن السبب في انتشار هذه الأسطورة هو فشل المشروع الليبرالي في المشرق الذي استبدلت به الشعوب العربية نظرية المستبد العادل أو الزعيم على سبيل الاستسهال. وهنا أقول: ما أشبه اليوم بالأمس.


محمد عابد الجابري (مقاله "المستبد العادل.. بديلاً للديمقراطية!") ينبه إلى الفرق بين مفهوم الاستبداد في مرجعيتنا التراثية ومفهومه في اصطلاحنا اليوم المستقى من المرجعية الأوروبية، فلم يكن لكلمة استبداد في المرجعية العربية القديمة ذلك المضمون السلبي الذي لها اليوم، بل كان الاستبداد يعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه. وهذا برأيه هو معنى الاستبداد في المرجعية العربية القديمة، خصوصا عندما يقترن بالعدل، فالعدل يفقد مضمونه مع العجز عن تطبيقه، أما الاستبداد دون عدل فكان له اسم آخر في هذه المرجعية هو "الطغيان".
ينتهي الجابري الى التأكيد أن نموذج المستبد العادل ينتمي إلى النظرية؛ إلى تصور الأفضل والمثال؛ إلى "اللاشعور السياسي"، وهو المسؤول بهذه الدرجة أو تلك عن غياب الديمقراطية، على الأقل من حيث أنه يقدم بديلا عنها يعتبره أفضل منها. هذا النموذج/ البديل بقي مجرد نموذج، فالبديل الواقعي القائم دوما هو شيء آخر غير الاستبداد المقيّد بالعدل، إنه الاستبداد المطلق الذي هو نقيض الديمقراطية.

خاتمة
رغم إشكالياته وإنجازاته المحدودة أكدّ الربيع العربي أن التاريخ ليس قدرا محتوما، وفند الادعاءات بأن الثقافة العربية والدين الإسلامي عوائق نظامية في وجه الديمقراطية. إن لوم الثقافة والدين بوصفهما عاملين مسببين لانتشار أنظمة الاستبداد في المنطقة، يورّطنا في قدر كبير من التبسيط، فهذه العوامل قد تمنحنا فكرة حول الأرضية التي نشأ عليها الاستبداد، والطريقة التي استطاع التمكين فيها لنفسه، إلا أنها قاصرة عن تفسير الكيفية التّي تمكنّت بها الأنظمة الاستبدادية من الحفاظ على نفسها حتى اليوم. والأهم هو التركيز على محاولة فهم الظروف الحالية الفاعلة في قدرة النظم الاستبدادية على مقاومة الدمقرطة. وإن كانت البلدان العربية ترتبط بروابط تاريخية، دينية وثقافية متينة وتحظى ببنى اجتماعية ومشكلات اقتصادية متشابهة، فإن ذلك لا يعني إهمال خصوصية كل بلد لفهم العوامل التي تسببت في عجزه الديمقراطي ضمن شروطه الخاصة.
ومهما كان هناك تعثر في المسار الديمقراطي فلا يعني أن نتنازل عن المطلب الديمقراطي، وحتى في البلدان ذات التقاليد الديمقراطية العريقة هناك تحديات مستمرة تواجهها الديمقراطية، وقد لا تفي مؤسساتها بكل متطلبات الديمقراطية دائما، لكن ذلك لا يعني القبول بالحكم الاستبدادي، وإذا كان الغرب الديمقراطي يواجه صعوبات في متابعة مثله الديمقراطية (لا سيما في زمن كورونا وما بعده، حيث إجراءات المنع والعزل تهدد الحريات الشخصية والعامة) فلن نتوقع أن يختبر بقية العالم الديمقراطية دون مشكلات وعثرات. إن أي نجاح في ترسيخ القدم على مسارات التحوّل الديمقراطي مرهون بتعلم الدروس اللازمة بعد عقود من التعثر، والبحث عن التحالفات الدولية والإقليمية المناسبة لدعم المسار الديمقراطي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.